أحاديثٌ صامتة يضجُّ بها مخبز العادل السّياحي في بلدة بلودان، هناك على بعد ما يستغرق الوصول إليه ثلاثة أرباع السّاعة تروي إشارات اليدين والأصابع ما يدور في ذهن ثلاثة أخوة من الصمّ والبكم، "الأخوة أبو خديجة".
"ندى ناصر" زوجة وليد أبو خديجة وتُرجمان لسانه، دون تعليم أو تدريب بل إنّها صلة المودّة وهبة الله لها، تفهم كلَّ إيماء ونظرة من عيني زوجها النّاعستين، فتكون بذلك صلة الوصل والوسيط ما بينه وبين الزبائن من ضمنهم "أم عمر" زبونة المخبز التي اعتادت أن ترتاده منذ عامين فيستقبلها أحد الإخوة "أبو خديجة" بابتسامة وإيماءٍ بيده اليمنى نحو صدره تارة، وعلى رأسه تارة أخرى يقصد بذلك التّرحيب بها.
تتحدث زوجة وليد أبو خديجة لسيريا ديلي نيوز ذكريات هذا المخبز  الصّغير،  فتقول: "عملنا هنا منذ اثنين وأربعين عاماً، كان زوجي وليد وإخوته محمد عمر وخالد أبو خديجة يعملون لدى مالِكي هذا المخبز" ثمّ أشارت بيدها المُغبرّة من الدقيق إلى صورة قديمة توسّطت أعلى الجدار المجاور لكرسيها مُكملةً بأنّه والد زوجها الذي قرّر و زوجته  استئجار هذا المخبز ثمّ شرائه ليؤسّسون عملاً خاصّا لأولادهم.

 


مخبزٌ صغير يُعيل ثلاثة عوائل اضطرتها ظروف الحرب  لإغلاق مصدر رزقها وقوتها.
ثلاثة سنوات على التّوالي ذاقوا فيها من الشّقاء والأحوال المعيشيّة المتردّية ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت.
يُكمل أحد عمّال المخبز "أبو محمد"  الحديث مع "سيريا ديلي نيوز" فيقول: "عندما أغلق الإخوة أبو خديجة المخبز قرّرتُ بدء عملي الخاصّ، لكن لم تُقسم لي رزقةٌ فيه، وإنّ ذكرياتي وتعلّقي بكلِّ زاويةٍ وركنٍ في مخبز العادل أعادوني إليه فور ما أُعيد افتتاحه، كما أنّ وجودي في المخبز مذ كنتُ في الثّامنة من عمري خلق راحةً نفسية و علاقة وطيدة بيني وبين الإخوة أبو خديجة، فأصبحت أفهم  من إشاراتهم ما يصعب على زوجاتهم فهمه" كان ذلك بحكم خبرته بالعمل وعلاقته المتينة بأربابها حتّى إنّ عائلة أبو خديجة أطلقت عليه مؤخّرا لقب "المعلّم أبو محمد"
ينتقل الحديث في مخبز العادل بانتقال خطوات العمل، فمن "المعلّم أبو محمد" إلى الشّاب الأصمّ الأبكم "محمود" حفيد خالد أبو خديجة، يقف محمود أمام ما يسمّى "بيت النّار" يتلقّى تعليمات الشّواء من جدّيه بإشارات غامضة تُشعرك أنّ لهم عالم خاص مُختلف بحيثياته تماماً عن العالم الطّبيعي.
يُشير محمود  بيديه كثيراً لدرجةٍ تُشعر مَن يراه أنّ ريختر أصابعه بلغ حدّه الأقصى، مُحاولاً أن يُوصل سيلاً من الأفكار من ضمنها أنّه يُجيد القراءة والكتابة وأنّه سعيد للغاية بوجوده في مكانه المفضّل "مخبز العادل".
هذا ما ترجمته أمّ محمد وهي توضّب طلبية الفطائر الّتي انتهى محمود من شوائها، مُتّجهةً بها نحو طاولة الزّبونة "أم عمر" والّتي أحاطت بها ثلوج بلودان.  تضع الفطائر أمامها ببسمةٍ وعبارة "شرّفتينا يا أم عمر".
تلك حروفٌ بالكاد أن تُسمع من ضجّة أحاديث الزّبائن وضحكاتهم الّتي ملأت زوايا أربعة أمتار مفتوحةً على شارع بلودان الرّئيسي.
 التفّوا جميعهم حول طاولاتهم ينتظرون تذوّق أشهى فطائر "مخبز العادل السّياحي".

سيريا ديلي نيوز- فاطمة كعده


التعليقات