د. مـــديــن عـــلـــي
أولاً- حول طبيعة المشكلة، ومقاربة الحل
يُعد انخفاض مستوى الدخل، وعدم قدرة طالبي القروض على السداد، وحاجتهم لعدد كبير من الكفلاء والضامنين، من أهم الصعوبات التي واجهت عملية الإقراض والتمويل طيلة سنوات الحرب ولغاية تاريخ صدور المرسوم التشريعي رقم (23) لعام 2019 الخاص بالرواتب والأجور، والمتضمن زيادتها بمبلغٍ مقطوع مقداره (20.000) ل.س، وإضافة (11.500) ل.س تعويض غلاء المعيشة (كانت تُمنح سابقاً) إلى أصل الراتب. ما يعني زيادة أصل الراتب بمقدار (31.500) ل.س. وتُعدُّ هذه الزيادة، في الواقع، الأعلى والأهم في تاريخ سورية، من حيث النسبة والتناسب. ويبقى الأبرز في هذا الإطار، هو أنها جاءت في ظروف سياسية واقتصادية داخلية وخارجية، وعقوبات دولية صعبة ومعقدة للغاية، ألقت بثقلها على كاهل الاقتصاد السوري، إذ تسببت بتراجعٍ كبيرٍ في حجم الإيرادات المالية للدولة، ما أدى إلى تراجع قدرتها على الإنفاق بشقيه الجاري والاستثماري، ودخول الاقتصاد السوري في حالة انكماش اقتصادي تدريجي، انتهى إلى ركودٍ اقتصاديٍ عميقٍ، ينذر بعواقب خطيرة للغاية. هذا يعني أن المرسوم (23) لعام 2019 يندرج عملياً في إطار الإجراءات والأدوات المالية التي تسعى نحو إيجاد حلٍّ للمشكلة الاقتصادية والمعيشية في سورية، في الأجل القصير. ويبقى السؤال الأبرز في هذا الإطار هو: كيف يمكن أن تنعكس هذه الزيادة على الواقع الاقتصادي في سورية، وكيف يمكن أن تتحول إلى فرصة حقيقية؟
ثانياً- حول التأثير والمنعكسات
تُعد الزيادة التي جاءت بموجب المرسوم (23) لعام 2019، بلا شك، حاجة حقيقية للاقتصاد السوري في المرحلة الراهنة، وهي خطوة مهمة في الأجل القصير، لطالما يمكنها أن تساعد في توفير مجموعة من الشروط والمتطلبات اللازمة لحل المشكلة الاقتصادية المعقدة في سورية، يمكن الإشارة إليها بالآتي:
- زيادة مستوى حجم الطلب على المستوى الكلي. بمعنى أن زيادة الرواتب والأجور ستسهم إلى حدٍّ كبيرٍ في زيادة حجم الطلب على الموارد الطبيعية والبشرية، والسلع والخدمات، ما سيساعد في زيادة حجم الإنتاج، وتحفيز النمو الاقتصادي، وبالتالي انتعاش الاقتصاد السوري الذي يعيش حالة من الركود الاقتصادي العميق.
- رفع مستوى الدخل (الرواتب والأجور)، الذي يشكل أساس الترفيع الدوري للعاملين في الدولة (كل سنتين)، ما يعني أن هذه الزيادة ستؤسس لتحسن لاحق في الدخل، يأتي عن طريق زيادة مساحة/مطرح الترفيع الدوري للعاملين في الدولة (أي مساحة الدخل المقطوع)، ونحن على أعتاب ترفيع في الوقت الراهن.
- زيادة قدرة الأفراد على الاقتراض والتمويل والاستلاف من البنوك والمؤسسات المالية والمصرفية. لقد شكل انخفاض مستوى الدخل والأجور، تحديداً للعاملين في القطاع العام، ومؤسسات الخدمة الحكومية، أحد الصعوبات الجوهرية التي حرمت غالبية عظمى من أصحاب الدخل المحدود في مؤسسات القطاع العام، من إمكانية الاقتراض، وفرص الاستفادة من التمويل والتسهيلات الائتمانية، وذلك بسبب ارتفاع نسبة خدمة الدين (القسط + الفوائد) بالنسبة إلى الدخل. فتمثيلاً لا حصراً، إن عبء الدين (قسط + فوائد) لقرض يبلغ (2) مليون ل.س فقط في الشهر، وعلى أساس سعر الفائدة المعتمد في الوقت الراهن، يعادل حوالي (25.000) ل.س، وهذا يعادل (50%) من سقف راتب موظف دولة من الفئة الأولى. ما يعني أنه لا يمكن لأي موظف من الفئة الأولى أن يقترض، حتى ولو كان قد بلغ سقف الراتب، نظراً لعدم القدرة على السداد، إذ إنه وفي ضوء ارتفاع تكاليف المعيشة ومتطلبات الحياة اليومية، لا يمكن لشخص أن يخصص (50%) من راتبه الشهري لسداد قسط شهري مستحق الدفع، لقرض مبلغه (2) مليون ل.س فقط، فكيف يمكن له أن يقترض مبلغ (5) ملايين ل.س فأكثر، لشراء وإكساء مسكن؟
ثالثاً- استحقاقات عاجلة وملحة مع الزيادة، على أبواب موازنة 2020
جميعنا يعلم أن هذه الزيادة جاءت بعد أقل من ثلاثة أسابيعٍ مضت على مناقشة الموازنة العامة للدولة لعام 2020 والتي كانت قد أظهرت مؤشرات مالية مقلقة، وعجز مالي كبير، يقدّر بنحو (1455) مليار ل.س، وذلك بالتزامن مع تراجع دراماتيكي بسعر الصرف، تجاوز عتبة (750) ل.س للدولار. ما يعني أن هذه الزيادة جاءت عملياً في ظل ظروف ضاغطة لمعالجة مشكلة اقتصادية ومعيشية معقدة ومقلقة، (لها ظروفها ومبرراتها الموضوعية)، تستوجب من الجميع التفكر والتفكير بجملة من الوقائع والمعطيات الاقتصادية والسياسية، الداخلية والخارجية.
في كافة الأحوال، إن لغة المنطق والاقتصاد تؤكد بوضوح، على أن زيادة الثروة وتحسين فرص العيش والتنمية، والارتقاء بمستوى نوعية حياة البشر هو حق مشروع ومن حقوق الإنسان الطبيعية، لكنها لا يمكن أن تتحقق إلا بالعمل، وتحسين مستوى الأداء والإنتاج، ورفع وتائر الإنتاجية لمختلف عناصر الإنتاج، وفي مقدمتها إنتاجية العمل. لذا فقد بات من الضرورة القصوى بزمان ومكان، أن نتجه بقوة وحزم في سورية، نحو تنفيذ برنامج عمل حكومي يتضمن مجموعة من الإجراءات الاقتصادية والتدابير، بصورة سريعة، بما يلبي متطلبات استحقاقات عاجلة برسم التصويب، يمكن الإشارة إلى بعضها عبر الآتي:
- تنشيط مصادر الإيرادات الطبيعية (الضرائب والرسوم والاستثمار الأمثل لعوائد أملاك الدولة).
- تنشيط عملية الاستثمار، وتوظيف المدخرات المالية في المصارف الحكومية والخاصة.
- تقييد عملية الإنفاق على تمويل الاستيراد، وحصرها بالإنفاق على السلع والمواد الاستراتيجية.
- ضبط الهدر والإنفاق غير المبرر مالياً واقتصادياً.
- شن حرب حقيقية على شبكات الفساد وأجهزته داخل الدولة وخارجها.
- مكافحة التهريب بكافة السبل والوسائل الاقتصادية والمالية والعسكرية.
- العمل بقوة لاسترداد الموارد الطبيعية والمالية للدولة السورية، المنهوبة والمُستنزفة بطرق عديدة، ما يعني ضرورة العمل بقوة من أجل تحسين شروط استثمارها، ووضع حدّ لعمليات استباحتها والتجاوز عليها، وتجييرها لخدمة المكاسب الشخصية والمصالح الخاصة.
- الحد من نفوذ التجار وأصحاب الامتيازات، وكبح جماحهم، ووضع حد لقدراتهم على تجاوز هيبة قانون الدولة السورية ومؤسساتها، وموظفيها، وحقوقها المالية.
- تنشيط عملية الإنتاج وتحفيز النمو، وهذا يتطلب تحديد أولويات التنمية قطاعياً وإقليمياً.
- وضع خطط ملزمة لوزارات الدولة ومؤسساتها، تتضمن مؤشرات إنجاز (إنتاج) كمي ونوعي يجب بلوغها، تكون مرتكزاً لمكافأة الملتزمين، ومستنداً لمعاقبة المقصرين.
- تفعيل دور الرقابة التموينية، وكبح جماح المتلاعبين بالأسعار وتجار الأزمة.
- العمل المكثف لتقليل الحلقات البيروقراطية والقيود الإدارية بين المستويات الإدارية المختلفة.
- تدريب الكوادر والكفاءات، وتحفيز العاملين الأنشط والأكثر عطاءً وإنتاجية.
إنّ ما تقدم يمكن أن يساعد إلى حدٍّ كبيرٍ في توفير البدائل الاقتصادية الطبيعية (الصحيحة)، وبالتالي في تأمين متطلبات تمويل الإنفاق الحقيقي للدولة على برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وبخلاف ذلك، أي في ظل الاستسلام والركون للحلول التمويلية السهلة، سنجد أنفسنا في مواجهة معطيات ووقائع اقتصادية أكثر تعقيداً وأشد خطورةً على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
سيريا ديلي نيوز _ مركز دمشق للأبحاث والدراسات /مداد
2019-11-25 07:11:05