سامر إسماعيل

كان العنف بمظاهره التاريخية كافةً، من حروب وصراعات عنيفة، دلالة على الوحش الكامن الذي يُعَدُّ العنف نفسه جزءاً من استعداده البيولوجي، ولكن هذه الدلالات كانت أيضاً جزءاً من ثقافات الإنسان الأول في صراعه مع الطبيعة، وتأمين الحماية له ولوحدته الاجتماعية، سواء أكانت أسرةً أم قبيلة أم مدينة. غير أن التطور البشريّ استطاع ترويض هذا السلوك العنيف لصالح التصالح مع المحيط، وبناء حضارة وصلت بسموّها الفكري والإبداعيّ آفاقاً صار العنف فيها دلالة على البدائية، وعدواناً على العقل، الذي صار المحرك الأساس لنموّ البشر.

 

 

 

 

 

الفن والعنف

في العلاقة بين الفنّ والمجتمع، لا يمكن إغفال البيئة والمكان، الفكر والتفكير، وكلاهما يؤثر في الآخر، حيث إنَّ البيئة الطبيعية والمكانية تبعث برسائل للمتلقي، فحجم الكياسة التي تمنحنا إيّاه البيئة ينعكسُ على الإنسان ويؤثرُ فيه، وحجم التلوّث البصري يمنح الإنسان بشاعة، يضاف إلى ذلك المحيط أو البيئة التي يعيش فيها وانعكاسها على المجتمع، إذ كلما زاد الاستبداد والتحريم ازداد العنف والخوف والانكفاء، وهذا ما يغير من اللحظة الاجتماعية التي يعيشها الفرد، إذ يصبح أحادياً بسبب التعميم الإيديولوجي على المجتمع، وبالتالي يغير أيضاً من اللحظة الجمالية للمتلقي.

فالديِّن يزيد من العنف الإنسانيّ ليصبح مضاعفاً حين يتم تطويعه لخدمة السيطرة وإلغاء الآخر بكل أشكاله. إنه أشدّ وأقسى حيث يمنح منفذيه غطاءً دينياًّ، لأن يكونوا أكثر ضراوة وقسوة وإلغائية. فتظهر أقصى أنواع البشاعة الإنسانية، حيث لا يمكن للثقافة والفن محاورة ذلك النسق من التفكير. في الوقت ذاته وعبر تاريخ الإبداع الجماليّ، استطاع الفنُّ مواكبة الحدث العنفي وتجسيده، فأصبح لدينا طرفان كلاهما في الذروة: ذروة الجمال الذي يهذب النفس البشرية، وذروة العنف الذي يدمرها. الفن يرسل الجمال، والإرهاب يرسل البشاعة، ما يجعل الفنّ في زاوية حرجة. وما من ريب أن الحربين العالميتين الأولى والثانية قد أثّرتا في الفنّ بشكل عميق، بأشكال وتجليات مختلفة عبّرت عن قسوة الإنسان تجاه أخيه الإنسان. فلقد تشكلت الانطباعية في مرحلة الحداثة، المدرسة الحالمة رفيقة الضوء والشّاعرية، حيث كان روادها يصورون كما يغرّد العصفور، كما يقول مونيه. في هذه اللحظة، كانت تتشكل المدن الأوروبية، عمرانيّاً وصناعيّاً وعلميّاً، وكانت عدة عواصم أوربية، أبرزها باريس، تشهد استقطاباً ثقافيّاً وثورة فنية وإبداعيّة. بالتوازي مع ذلك، كان عالم السياسة يمهّد للحرب الأولى 1914، الحرب التي خلطت أوراق الفنّ والفنانين بين مناصريها الذين رأوا فيها تطهيراً للبرجوازية، والهاربين منها والناجين ومن قتل فيها. تلك الحرب لم تغيّر المجتمع الأوروبي وحسب، بل غيّرت مسار الثورة الفنية والإبداعية، وكان من أهم نتاجها المدرسة الدادائية التي جاءت بسخرية من الفن والمجتمع والإنسان وتاريخه الذي صنع تلك المأساة. الدادائية بدءاً من تسميتها العبثية وأعمالها الفنية مثل /الجوكندا بشاربين/ و/المبولة/ لمارسيل دو شامب تعكس استهزاءً من تاريخ الفن والإنسان، حيث يصبح اللامعنى هو موقف من العنف أو هو القدرة السلبية للفن، كما يسميها غراهام كوليير، وهي انفلات من القدرة الجمالية في مواجهة الحرب التي أدّت أيضاً لانبثاق المدرسة الميتافيزيقية وغيرها.

 

 

 

 

 

 

مارسيل دو تشامب: المبولة

إنَّ التاريخ البشري لم ينقطع يوماً عن العنف، والفن لم يتوقف يوماً عن محاولاته ليكوّن الموقف الوجداني ضد هذه المظاهر، فعملية الإعدام البشعة التي جرت في إسبانيا مازالت نقطة سوداء، لكن الفنان جويا حوّلها إلى لوحة (الإعدام رمياً بالرصاص) لتتحول هذه الذكرى إلى وقفة إنسانية تستدعي إشراقات العقل البشري ليكون ضد هذا التدمير. ومن هنا يكون الفن مشروعاً حضارياً بنائياً.

 

 

 

 

 

 

لوحة نفّذها فرنسيس غويا عام 1814 إثر الاحتلال

لقد واجهت الحداثة العربية مشكلات الحروب والعنف، وتشكّل التجربة الفلسطينية نموذجاً خاصاً لذلك في عالمنا العربي، نظراً لما عاناه الفلسطينيون من الإرهاب الصهيوني الغاصب، وانعكس ذلك على التجربة الفلسطينية بخاصة والعربية بعامة. وتصدّرت سورية المشهد بين مثيلاتها العربية في معالجة الحدث الفلسطينيّ، وقلما نجد فناناً لم يتعرض للقضية الفلسطينية، فكان العديد يعتقد أن الفنان برهان كركوتلي مثلاً أنه فلسطيني لكثرة أعماله عن فلسطين. وفي العموم، جاء الإبداع الفلسطيني والعربي بمسار سياسي وثوري واسع الطيف.

أخيراً، نشير إلى أنَّ الحدث العنفيّ والإرهابيّ سبق وأن حدث في لبنان، فكانت الحرب الأهلية اللبنانية وانعكاسها على المجتمع والفن اللبناني، وهو ما عبّرت عنه أعمال عايشت وعبّرت عن مرحلة الاحتلال الإسرائيلي للبنان. وقد كان ظاهراً ذلك في فن الغرافيتي بالرسم والخط على الجدران. وتجلى ذلك أيضاً لدى أعمال اللبناني وليد رعد، والسوري غازي الخالدي، والفلسطيني عبد الحي مسلم، وأيضاً فنانين أوربيين.

 

 

تموضع جديد للتشكيل

 

يمكننا القول الآن ثمة حركة تشكيلية سورية في الخارج، متباينة السوية أيضاً، تعيش مخاضاً وحركة تشكيلية سورية داخل الوطن يتموضع فيها ما هو مهم وما هو غير ذلك.

قبيل الحرب، كان النشاط التشكيلي السوريّ واحداً من أبرز الوجوه الثقافية في سورية. أسهمت الدولة بمؤسساتها، مثل مديرية الفنون الجميلة، والصالات الخاصة، والمجتمع الأهليّ في هذا النشاط، وتوسيع رقعته، سواء في الفعاليات الفنية أو الملتقيات النحتية، لكن ما إن بدأ الحدث السوريّ على مسرح الظهور، بدأ الارتباك والترقب إلى ما سيؤول إليه هذا الحدث. في الخمس سنوات الأولى من الحرب، كان ثمة صدمة نفسية للفنانين، العديد منهم توقف عن العمل والبعض سافر خارج سورية. ثمة صمت تشكيلي رهيب داخل سورية في السنوات الأولى، إذ ثمة اعتقاد في البداية أنَّ الحدث السوريّ ظرفي، لكن في الحقيقة كان العكس. إن التحول نحو الحركة في النشاط التشكيلي تمثل في السنوات الثلاث الأخيرة، محاولات بدأت في دمشق وبعض المدن الآمنة، وكان أكثرها في عام 2017/2018 وتستمر في عام 2019، حيث شهدت ولادة صالات جديدة مثل /ألف نون/ وعودة صالة فاتح المدرس، وصالة قزح للعمل، ما أكثَرَ من النشاط التشكيلي، ودخلت أجيال جديدة فيه من الخرّيجين أو المتدربين لدى المعاهد الفنية، إذ المرحلة الجديدة للسنوات الأخيرة أفرزت تجاربَ جديدةً، وكثرةً للتجارب الشابة وظهوراً واضحاً لتجاربَ نسائية، بعضها فيها تحدٍّ صارخ من خلال الاشتغال على العاري كوسيلة للتعبير مثلاً، وربما كتحدٍّ لموجة التطرف الديني، ولا يغيب عنا المعرض الذي أقامه الفنان عصام درويش في صالة عشتار مع بداية الموسم لعام 2019، والذي جاء بعنوان /جسد/ لفنانين سوريين مخضرمين بعضهم رحل وبقيت أعمالهم، إذ يُعَدُّ إشارةً واضحة لوضعية ومنطقية التشكيل السوريّ في التعاطي الفنيّ والثقافيّ مع الجسد، ومهمّاً أيضاً في هذه المرحلة في مواجهة المدِّ الديني، في العموم ثمة مخاض جديد لحركة تشكيلية سورية بعض من عناصرها القديمة ما يزال حاضراً فيها بقوة مثل عبدلكي، إدوارد شهدا، عبد الله مراد، طلال معلا، علي مقوص، فؤاد دحدوح، إسماعيل نصرة، عدنان حميدة وآخرين. ربما ما يؤخذ بعامّةٍ، وهذا رأي العديد من التشكيليين، مفاده أن التجارب التي حضرت في السنوات الأخيرة تحتاج لإرث في العمل التشكيلي، هي تجارب متباينة السوية، بعضها تجريبي وبعضها تقني مثل فيفيان الصايغ، وبعضها متسارع في استغلال الفراغ، من التجارب المتأنية مثلاً، في العمل مثل النحات يامن يوسف.

وفي الخارج، ظهرت تجارب جديدة بعضها شاب، ولم نسمع بها من قبل في سورية، وهي أيضاً كانت متسارعة لملء فراغ واستغلال لتحول في الحراك التشكيليّ السوريّ. يمكننا القول الآن ثمة حركة تشكيلية سورية في الخارج، متباينة السوية أيضاً، تعيش مخاضاً وحركة تشكيلية سورية داخل الوطن يتموضع فيها ما هو مهم وما هو غير ذلك.

 

 

أثر الحرب على التشكيل السوري

إنّه من الطبيعي أو الضروريّ أن يتأثر الفنان بأي حدث يخص وطنه، بلده، مهما كانت طبيعة الحدث، لكن ليس بالضرورة أن يجسّد الفنان ذلك في لوحته مباشرة. إن المسافة بين الفنان والحدث هي نسبية، إلى أن تأتي اللحظة الإبداعية لمعالجة الحدث. ومن الأهمية بمكان معالجة أي موضوع، بصريّاً، أن يكون بمنطق تشكيلي، ليس مباشراً ودعائياً. بكل الأحوال، فيما يخص التشكيل السوري، هناك الكثير من الفنانين لم تتأثر أعمالهم بما يحدث، بل تابعوا بطريقتهم نفسها، ويرى الفنان بطرس المعري بأنه «لا يوجد نُقلة نوعية بعد عام 2011». ويؤكد المعرّي على أن «المواضيع اختلفت، ودخلت مواضيع جديدة لكنها بقيت رهينة الأسلوب نفسه»*.

 

 

في الوقت ذاته، هناك العديد من الفنانين في سورية وخارجها توجهوا مباشرة نحو السيرة السورية، ولقراءة هذه السيرة، سوف نقدم إضاءات عليها مع التركيز على بعض التجارب الفنية: يقدم يوسف عبدلكي في لوحة /السكين والعصفور/ فهماً جديداً لعلاقة العنف مع الجمال، الحرب مع الفن، بدلالة رمزية غير مباشرة تصلح لأي زمان ومكان.

 

يوسف عبدلكي: لوحة السكين والعصفور

 

 

 

 

 

إدوارد شهدا: لوحة سقوط إيكاروس فوق دمشق

ويمكن أن يكون إدوارد شهدا كالعديد من المصورين الذين ظلوا مخلصين لأسلوبهم وموضوعاتهم، وهو يعتقد أن تأثير الحدث في تجربته قد يأخذ وقتاً طويلاً، في عمله الأخير /سقوط إيكاروس فوق دمشق/ يشي بدلالات المرحلة ربما، التي صورها مستوحاة من أسطورة إيكاروس اليونانية حيث يخرج من المتاهة مع أبيه على أجنحة من الشمع، ولا يسمع نصيحة أبيه بأن يطير بشكل منخفض، لكن إيكاروس يحلق مستمتعاً بالطيران، فتذوب الأجنحة ويقع في البحر.

 

لم يكن نزار صابور بعيداً عن الحدث السوري، لكن بمقومات تشكيلية مختلفة، ليست مباشرة في الطرح؛ بل كان مُكثِّفاً للغته التشكيلية، معتمداً في ذلك على الرماديات كملون بليغ في تعبيره عن المرحلة، وذلك عبر معرضه /6 سنوات/ في خان أسعد باشا، ومعرضه في صالة مارك هاشم /القلمون/، حيث نفّذ أعمال معرضه هذا حين كانت منطقة القلمون تشهد أحداثاً عنفية. يكتب خليل صويلح في موقع الجمل بما حمل:

«أغلق نزار صابور قوساً لحرب على ست سنوات من الجحيم السوريّ في مفكرة تشكيلية ضخمة أرادها توثيقاً بصريّاً لما شهدته البلاد من أهوال...». هكذا وجد هذا التشكيلي في أوراق نعي الموتى عتبة تشكيلية أولى لرصد تاريخ الموت وتحولاته[1].

 

 

 

 

لوحة للفنان نزار صابور

 

 

في النحت، يشتغل مصطفى علي عمل /بقايا حرب/ وهو عبارة عن نصب ارتفاعه تسعة أمتار مقسم إلى سبع طبقات، إشارة إلى السبع سنوات الصعبة السابقة، استخدم في عمله بقايا الأشياء الاستعمالية في المنزل. ويُركِّزُ في هذا العمل على الانعكاسات السلبية التي حلّت على الإنسان السوري إبّان الحرب.

 

 

مصطفى علي: بقايا حرب

أما العمل الآخر، الذي يركز في على الأمل، هو /الإنسان المنطلق من الأنقاض/ وهو مبني من الشظايا ضمن مربع معدني فراغي.

 

 

 

 

 

 

مصطفى علي: الإنسان المنطلق من الأنقاض

 

 

وأيضاً في النحت، يقدم فادي يازجي عملاً مهماً مجسداً فيه المأساة السورية، باستخدام مكعب في محيطه كائنات مستلبة تائهة تجهل بعضها، غريبة، مبهمة. وفي عمل آخر، يقدم منحوتة /رأس في صحن/ وكأنَّ قطع الرؤوس أصبح غذاء القاتل اليومي، وربما فيها إحالة إلى رأس يوحنا المعمدان. ويعود يازجي للرأس المقطوع في عمله شجرة تحمل رؤوساً مقطوعة، إضافة لذلك لوحاته التعبيرية التي تعبّر عن المرحلة.

 

 

 

 

عمران يونس: لوحة الصرخة

أعتقد أن من أهم من جسد الموت السوريّ هو عمران يونس، حيث النص البصري المعمق والصعب الذي يصلح لكل الأزمنة والأمكنة أيضاً. يقدم التجربة الإنسانية القاسية التي هدفها الموت عبر رمزية التوابيت، التوابيت المفتوحة وهي مُعدَّة لاستقبال الأحياء، إنها توابيت العصر. يشتغل بمنظور غريب، حيث تعتقد أن اللوحة مصورة من الأسفل، تبدو أشباحه متحررة من الجاذبية الأرضية[2] كما يقول أسعد عرابي عن معرضه /صرخة في باريس/. ويؤكد أيضاً على شخصياته بأنها ملتهبة العاطفة. لوحة الصرخة التي عرضت في باريس هي لجسدٍ عارٍ فيه استطالة لليدين وتكبير للأصابع تجري من خلالها محاورة ودوماً يعطي للأصابع تلك المحاورة التعبيرية، الجسد مُسجى في سترة حيّاً وكأنه في قبر. الصرخة ليست في الفم فقط، إنما في استطالة اليدين أيضاً، اللون البرتقالي ليس أصفرَ ولا أحمرَ هو لون الاعتدال القابع في طرف اللوحة. البرتقالي هو إشراقة ولمسة وهو أيضاً عنصر أساس في التكوين.

من التجارب السورية الأخرى في السياق نفسه، يجسد الفنان عبد الحميد فياض بأسلوبه التعبيري المرحلة بكل تفاصيلها، من خلال شخوصه وعناصر أخرى حسب الموضوع الذي يعمل عليه في تأكيد على اللونيّات القاسية مثل الأحمر. وهو يعتقد أن لوحته رافقت الحدث السوريّ منذ بدايته، فيقول: «منذ عام 2011 وحتى اليوم، رسمت أكثر من مئة عمل، كلها تتمحور حول هذه الحرب اللعينة والمدمرة، التي أخذت كل لحظات حياتنا وجعلتنا ندور في فلكها مرغمين دون إرادتنا. لقد وثّقتها برؤيتي الخاصة وبحسب موقفي منها ومن أطرافها اللاعبين ونتائجها، منذ يومها الأول وحتى رؤيتي لمستقبلها. وهناك لوحات لم أنشرها بعد، لأن إمكانية وظرف نشرها لا يساعد الآن. إنها حرب قذرة ونحن معشر الفنانين يُفترض أن نكون الأكثر حساسية لمفاعيلها وإلا سيلعننا التاريخ يوماً»*.

 

 

 

 

 

 

 

لوحة للفنان عبد الحميد فياض

هذا، ومن التجارب التحديثية في العمل التشكيليّ، التجارب الشابة التي قدمت أعمالاً بسياقات بصرية تقارب فنّ الطفل وإحساسات بدائية تحاكي المرحلة والحدث بطريقة مباشرة، منها ياسر صافي، إذ يقوم بإضافة عناصر غير متوقعة على السطح التصويري (بانيو–مكنسة كهربائية) وقد أخذت أعماله صدى، ربما لأنها تحاكي ما هو غريب، لكن ذلك لا يلغي أهمية تجربته بالنسبة للكثير من النقّاد. هو يقارب الحدث عبر مفردات معينة مثل رجل يحمل مسدساً ويصوبه على الآخرين أو مثل لوحة /غرفة بملايين الجدران/ ويظل صافي مثار خلاف حول أهمية تجربته.

وقريب من هذه الأسلوبية، يذهب علاء حمامة في أخذ عناصر من المنزل ويستخدمها في معرض حقائب إشارة منه للهجرة والرحيل، وقد اعتمد هذان الفنانان أيضاً على الحدث السوريّ كموضوع لأعمالهما. ومن التجارب التي قاربت الحدث العنفيّ، أعمال عمر إبراهيم المقيم في فرنسا، ولكن رغم المباشرة في بعض أعماله وذلك برسمه للوحوش والطيور ووجوه متعبة، إلا أنها تكتسي أهمية فنية وتشكيلية.

 

 

 

 

 

 

 

 

لوحة للفنان علاء حمامة

 

 

 

 

 

 

 

 

صورة للفنان تمام عزام

في إشارة من الفنان بطرس المعري حول تأثير الحرب في الفن، أكّد أنها: «عملت إضافات في طرق تعبير جديدة، مثل الفيديو آرت والـ  Illustrationومجالات الكاميرات الرقمية ومعالجة الصور»*. في هذا الصدد المذكور، نجد أعمال تمام عزام حيث يأخذ صوراً للأبنية المهدمة، ويشكل منها أشكالاً جديدة عبر الفوتو مونتاج مثل /تمثال الحرية/ أو يضيف عليها مشاهد نقيضة للحرب مثل لوحة القبلة، في إشارة منه أن الحب والقبلة هما بديلٌ للحرب، نعم هما بديلٌ للحرب.

 

 

 

 

 

 

 

فنانون خارج سورية

 

إن معالجة الحدث السياسيّ ليست بالأمر السهل تشكيلياً، فهو يدفعك للمباشرة دوماً عبر المفردات والرموز وغيرها. ومن الأهمية بمكان أن نرى الحدث التشكيلي بقامة عالية وليس العكس.

إنَّ العديد من الفنانين السوريين الذين درسوا في الغرب، استقروا هناك لأسباب مختلفة ومارسوا نشاطهم الفنيّ في ألمانيا وفرنسا ودول أخرى، وأكدوا حضوراً مهماً، مثل مروان قصاب باشي، عمر حمدي، ماهر بارودي وآخرين لهم مكانتهم، عربيّاً وسوريّاً. وطيلة مدّة الحرب، شهدت أوروبا هجرات متزايدة تمركزت في ألمانيا والسويد وتركيا وهولندا بشكل رئيسٍ، وقد توزع آخرون في لبنان والخليج وفرنسا. لا يمكننا معرفة العدد الحقيقيّ للفنانين المهاجرين، لكن تقدّر أعدادهم بوجهٍ عامٍّ بنحو مئتي فنان، الجزء الأكبر منهم غير معروف سورياً، إنما هم معروفون ضمن أماكن حياتهم في بلدانهم ومدنهم. في الغرب أخذوا تموضعاً جديداً ولاقى بعضهم دعماً من مؤسسات وشركات، وبالتالي استطاعوا إقامة الملتقيات مثل ملتقى /فنانون بلا حدود/ في ألمانيا، وأطلقت أسماء عديدة لم تكن معروفة على نحوٍ واسعٍ هنا، واشتغلت على تسويق نفسها عبر وسائل التواصل الاجتماعيّ، متخذةً من الحدث السوريّ سمةً أساسية.

وللإضاءة على هذا الجانب، يقول الفنان بطرس المعري المقيم في ألمانيا حول هذه التجارب: «لقد استفادت واستغلت اهتمام الخارج بالموضوع السوريّ، فكثرت الأعمال التراجيدية، وكان أكثرها استجداء، صار فيها الأمر مثل لهاث، ليتم اللحاق بالموسم. ثمة جهات تساندك، تقبل أي عمل بسبب الحرب في سورية، حتى ولو كان إعلانياً. ليس بالضرورة أن يكون له علاقة بالفنّ، المهم البروباغندا التي تلاحق الحدث. أغلب الذين هاجروا يتعكز على الحدث، وأكثر الذين تسوّق لوحاتهم ممن يحاكون الحدث، ولا يُحاكون الفنّ، ليس بالضرورة الجميع. مع نهاية الوقت، يبقى الفن والمنطق التشكيلي»*. إن معالجة الحدث السياسيّ ليست بالأمر السهل تشكيلياً، فهو يدفعك للمباشرة دوماً عبر المفردات والرموز وغيرها. من الأهمية بمكان أن نرى الحدث التشكيلي بقامة عالية وليس العكس، فقد ظهرت أعمال لفنانين سوريين كثر فيها بؤس تشكيليّ واضح، وفي المحنة، فإن الزمن يفرز أو كما قال بطرس المعري «يبقى المنطق التشكيلي»*.

لقد تأثرت صالات العرض مع اندلاع الحرب في سورية، والعديد منها انتقل خارج البلد. وقد أسهمت هذه الصالات بالنشاط الفنيّ في البلدان التي استقرت بها. أما في دمشق، فقد انخفض مستوى النشاط، وبالتالي التسويق، بعد أن كانت في ذروة ازدهارها حيث توسع نطاق التسويق خارج سورية.

 

قبيل الحرب بسنوات، ظهرت صالات عملاقة لها علاقات خارجية كبيرة، استطاعت إيصال اللوحة السورية للسوق الخارجية. لكن في مدّة الحرب أغلب الصالات إما أغلقت أو هاجرت.

لقد كانت مؤسسات الدولة مثل: المتحف الوطنيّ، وصالة الشعب، والمراكز الثقافية التابعة لوزارة الثقافة، حاضناً أساساً لنهضة الحركة التشكيلية السورية، قبيل ظهور الصالات الخاصة، ولقد كان المعرض السنويّ للفن التشكيليّ السوريّ الذي تقيمه وزارة الثقافة كل عام، تظاهرة كبرى وهامة. وكانت الوزارة تقتني الأعمال الفنية، ولاتزال طبعاً. لقد جسّد المعرض السنويّ تطور الحراك التشكيلي السوريّ ووثّقه عبر الكتالوج المطبوع للأعمال المشاركة. وبالتزامن مع ذلك، ظهرت صالات ذات بعد فنيٍّ وحميميٍّ مثل صالة إيبلا للفنان ممدوح قشلان، وصالة نصير شورى، وفيما بعد صالة السيد أتاسي التي أقام بها الفنان أحمد معلا معرضاً عن سعدالله ونوس. وقبيل الحرب بسنوات، ظهرت صالات كبرى مثل الآرت هاوس، وأيام التي قامت على احتكار الفنانين عبر عقودها معهم، وهي صالات عملاقة لها علاقات خارجية كبيرة، استطاعت إيصال اللوحة السورية للسوق الخارجية. لكن في مدّة الحرب، أغلب الصالات إما أغلقت أو هاجرت، سواء إلى لبنان، أو تركيا، أو الإمارات، مثل دار كلمات، أيام، أتاسي، عشتار، تجليات، عالبال، قزح، فاتح المدرس والصالات التابعة للمراكز الثقافية الأجنبية، بينما بقيت صالات مثل غاليري مصطفى علي، يضاف لذلك المراكز الثقافية، وفي هذه الأثناء نشطت بعض المحافظات الآمنة مثل اللاذقية عبر كافيه هيشون، وأماكن أخرى.

وكما أسلفنا سابقاً عن عودة افتتاح الصالات من جديد في السنتين الأخيرتين بعد العودة التدريجية للأمان بدمشق، كصالة قزح التي يديرها السيد سامر قزح الذي يقول عن تجربته:«من جهتي، كصالة عرض للفن التشكيليّ السوريّ، حاولتُ البحث عن منافذ للفنان لتقديم نتاجه، ولتأمين الحياة في وقت أصبح فيه الفنّ آخر المتطلبات داخل البلد، وذلك عن طريق إقامة المعارض بالداخل وتسويقها خارجياً بالبداية، ومن ثم الانتقال إلى لبنان ومحاولة إقامة نشاطات جماعية كبيرة للفنّ السوريّ مثل /سورية آرت فير/ في بيروت عام 2013 والذي ضم أكثر من 60 فناناً من مختلف الأجيال، ومن مختلف دول الإقامة، عرضت نتاجاتهم على الجمهور، وتمت تغطيته من مختلف وكالات الأنباء، وسلط الضوء على الفنّ التشكيلي السوريّ، بزمن أخبار الحرب التي غطت ساعات البث اليومية، والكثير من النشاطات حتى عام 2017، استطاع الفنان السوريّ في ظروف الحرب، أن يقدم نتاجاً ويفرض حضوراً عربياً وأوروبياً. وطيلة الحرب، ثمة غياب للنقد عن متابعة أعمال الفنانين، والحوارات البينية بسبب تباعد المسافات، ويُعد التسويق غير الدائم وغير المتواتر أحد أهم السلبيات طيلة تلك المدّة، والتي بحاجة إلى جميع السوريين للعمل معاً على تجاوزها»*.

ومن التجارب المهمة، انتقال دار كلمات إلى تركيا لتلعب دوراً مهماً في نشر الثقافة البصريّة في الشرق الأوسط. ويقول صاحبها عدنان الأحمد: «إننا طرحنا وتبنّينا مشروعاً للجميع، منصة لفنون الشرق الأوسط. لم أعد أصدق أنَّ بعضهم يحملُ عن طريق مشروع اللوحة في هذا العالم سوى مشروع واحد هو الفن لغاية تجارية، الفن لغاية الربح التجاري. لم يعد في هذا الزمان الرخو مشروع ثقافيّ، ويكفينا فخراً أننا آخر مؤسسة في هذا العالم تعمل لمشروع ثقافيّ، دونما اهتمام منا بالربح والخسارة»*.

 

 

الجمال ضد الحرب

في ظل المشهد المعتم للسوريين، ثمة صحوة لدى بعضهم، أي من جيل الشباب، في إيقاظ شمعة الجمال كردِّ فعلٍ على هذه الحرب القذرة. من بين هذه التجارب، تجربة مهرجان الدلبة في مشتى الحلو التي بدأت من عام 2013 بعنوان /الفنّ سيخلص العالم/ وقد تنامت هذه التجربة في السنوات المقبلة نحو فعاليات في مجال النحت والرسم والتصوير، إضافةً لذلك الموسيقا والمسرح وفعاليات أخرى. إنَّ تجربة مشتى الحلو نحو تكريس الجمال لهي خطوة مهمة في مواجهة الحرب والعنف. وفي الوقت ذاته، شهدنا العديد من الفعاليات مثل ملتقى التصوير للجامعة الدولية، ملتقيات النحت على الرمل، ومهرجان الوادي، ومعارض متنقلة، مثل: معرض شموع السلام الذي عرض في دمشق واللاذقية وفعاليات أخرى.

الصورة والحرب

الصورة، كلوحة أو تمثال أو أثر أو مكان عبر التاريخ، شهدنا تحطيماً لها. في الحروب، تتصارع الإيديولوجيات السياسية أو الدينية، حيث في كل حقبة يتم إقصاء ما قبلها. شهدنا ذلك عند تحطيم الأصنام، تماثيل بوذا... وفي هذه الحرب شهدنا في البداية تحطيم تمثال لمريم العذراء، تمثال المعري في معرة النعمان، تحطيم أمكنة أثرية من قبل "داعش" في تدمر.

لن نستطيع قول شيء. إن هذه الحرب حدثت، ووجدنا أنفسنا داخل معطفها. لن نستطيع مناقشة الأسباب، ولن نستطيع الرجوع سبع سنوات أخرى لتغيير الماضي. هي سبع سنوات عجاف، صعبة على الجميع، انعكاساتها غير محدودة. يخصنا نحن الآن الأدب والفن والثقافة كحقل نعمل به. هي أثرت في كلِّ شيء في هذا الحقل. هي خلطت كل الأوراق الثقافية والفنية، لكن الزمن والتراكم سيعيد ترتيب الأوراق وسيرتبها بالأرقام والأحرف والكلمات، إلى أن نصل إلى /كتاب الحرب/ الذي سيموضع الحراك الإبداعي في الذاكرة ليكون جلياً أكثر وليكون ذاكرة الإبداع السوري المهمة.

أنا اليوم أقدم ورقة من أوراق الحرب، ربما أجدها يوماً ما في كتاب الحرب.

 

 

---

* جميع الاقتباسات التي سترد خلال الورقة مذيّلة برمز النجمة هي عبارة عن شهادات تم أخذها من الفنانين من خلال التلفون أو لقاءات شخصية أو رسائل صوتية، وهي غير منشورة سابقاً.

[1] خليل صويلح، "نزار صابور: «ست سنوات» على الفجيعة السورية"، الجمل بما حمل، 22 كانون الأول/ديسمبر 2016.https://goo.gl/H1k5RH

[2] أسعد عرابي، "توابيت "عمران يونس" المحمولة من دمشق"، ضفة ثالثة، 21 تموز/يوليو 2018. https://goo.gl/16Wbqq

 

مركز دمشق للأبحاث والدراسات

         مِداد