في خلال نحو 30 عامًا من الآن، يصل عدد سكان كوكبنا إلى 10 مليارات نسمة. رقم ضخم قد يصعب معه توفير الغذاء لكل هؤلاء البشر، فهل ينجح الكوكب في استيعاب سكانه وقتها؟ يحاول الكاتب تشارلز مان الإجابة على هذا السؤال، في موضوعه المنشور في مجلة «ذي أتلانتك» الأمريكية، وهو جزء من كتابه حول نفس الموضوع. طرأ السؤال على باله – للمرة الأولى – عندما ولدت طفلته الأولى، خرج حينها في ساعات الليل المتأخرة تاركًا زوجته لترتاح، بينما وردت لعقله هذه الخاطرة، ليقف حائرًا متسائلًا: كيف سننجح في هذا؟

يقول مان: «إنه حين كان في المرحلة الثانوية – عام 1970 – كان ربع سكان العالم من الجوعى، أو ممن يعانون فقرًا في التغذية، كما تفضل الأمم المتحدة أن تسميهم. لم تعد هذه النسبة كما كانت؛ فقد انخفضت لما يقرب إلى 10%، وزاد المعدل العالمي للعمر المتوقع للإنسان بأكثر من 11 عامًا، وأغلب الزيادة حدثت في أماكن فقيرة. انتقل الملايين في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية من الفقر المدقع ليصبحوا من الطبقة المتوسطة. بالطبع لم يكن هذا الثراء متساويًا أو منصفًا؛ فهناك الملايين ممن لم يصبحوا أغنياء، إلا أنه كان تحسنًا في حال البشر، ولم يمر عليهم تحسنًا مثله قبلها، لكننا لا نعلم الآن إن كان الحال سيستمر في التحسن، أو حتى إذا كنا سنبقي عليه».

يبلغ عدد سكان العالم اليوم 7.6 مليار نسمة، ويظن أغلب علماء الديموغرافيا أن العدد سيصل إلى 10 مليار نسمة أو أقل قليلًا بحلول عام 2050، ويرى الكاتب أنه بحلول هذا الوقت سيكون عدد البشر أقرب للاستقرار منه للزيادة. يعني بهذا أن فصيلة البشر ستصل للمرحلة التي ينجب فيها كل زوجين سلالة تكفي فقط لأن تستبدلهما. في هذه الأثناء، وبحسب رأي الاقتصاديين، سيستمر العالم في النمو، وإن كان ذلك بشكل غير متساوٍ. لذلك فعندما تصل وليدة الكاتب لعمره الحالي، فإن نسبة المنتمين للطبقة المتوسطة من بين العشرة مليارات نسمة ستكون كبيرة نسبيًا.

مثل كل الآباء، يريد الكاتب أن تكون ابنته مرفهة عندما تكبر، لكنه يتساءل كيف سيصبح هذا ممكنًا في ظل وجود ثلاثة مليارات إنسان ينتمون للطبقة المتوسطة؟ ماذا سيكفيهم؟ ويظل هذا جزءًا من سؤاله الأكبر: كيف يمكن لنا أن نغذي الجميع، دون أن يصبح كوكبنا كوكبًا غير صالح للحياة؟
رأيان متضادان: الأنبياء ضد السحرة

بحث الكاتب عن إجابة على مر السنوات التي كبر فيها أطفاله. مستفيدًا من كونه صحافيًا يجوب العالم، سأل هذا الأسئلة لخبراء في أوروبا وآسيا والأمريكتين من حين لآخر. كانت إجاباتهم جميعًا تصب في تصنيف من اثنين، وكانت ترتبط – في عقل الكاتب – بعالمين أمريكيين عاشا في القرن العشرين. لم يعرف كلٌّ منهما الآخر بشكل قوي، ولم يعتد أحدهما كثيرًا بكلام الآخر، لكن كان كلاهما مسؤولًا عن إنشاء الطرق التي تستخدمها المؤسسات العالمية اليوم لفهم المعضلات البيئية، لكن – وللأسف – لا تحمل هذه الطرق إجابة واحدة عن السؤال حول بقاء البشر.

    كانت نقطة التشابه الوحيدة بينهما أن كليهما يرى أنه يستخدم  المعرفة العلمية الحديثة لمواجهة أزمة تواجه الكوكب.

هذان العالمان هما: ويليام فوجت، ونورمان بورلوج. وضع فوجت – المولود عام 1902 – الأفكار الأساسية للحركة البيئية الحديثة، وأسس ما أسماه بتسي هارتمان – الباحث السكاني بـكلية هامبشير – بـ«بيئوية نهاية العالم»، وهي الاعتقاد القائل بأن البشر سيدمرون الأنظمة البيئية في العالم، إن لم يخفضوا عددهم واستهلاكهم بشكل كبير. في كتبه الناجحة تجاريًا، وفي خطاباته قوية اللهجة، يقول فوجت: «إن غنى البشرية ليس أفضل إنجازاتها، بل أكبر مشاكلها، وإن استمررنا في استنفاد الأرض أكثر مما تحتمل، فستحدث كارثة عالمية». كان شعاره دومًا: خفضوا استهلاككم! خفضوا استهلاككم!


أما بورلوج – الذي ولد بعده بـ12 عامًا – فكان رمز «التفاؤل التكنولوجي»، وهي رؤية تقول: «إن العلوم والتكنولوجيا سيخرجانا من هذا المأزق، إن طبقتا بشكل صحيح». كان أكثر شخصية مشهورة بين الباحثين الذين أنتجوا دراسة «الثورة الخضراء» في الستينات، وهي دمج المحصولات عالية الإنتاجية وتقنيات الهندسة الزراعية، والتي زادت محاصيل الحبوب في العالم، لتساعد عشرات الملايين في تجنب الموت جوعًا. لم يكن بورلوج يرى أن غنى البشر مشكلة، بل حلًا. فقط إن أصبحنا أغنى وأكثر معرفة، يمكن لنا – نحن البشر – أن نصل للعلم الذي سيحل معضلاتنا البيئية. كان شعار بورلوج: ابتكروا! ابتكروا!


كانت نقطة التشابه الوحيدة بينهما أن كليهما يرى أنه يستخدم المعرفة العلمية الحديثة لمواجهة أزمة تواجه الكوكب. كان بورلوج يرى أن إبداع البشر هو الحل، مثال على ذلك: استخدامه طرق الثورة الخضراء المتقدمة لزيادة المحصول الناتج عن الفدان الواحد، وكان يقول: إن الفلاحين لن يحتاجوا لزراعة كل الفدادين التي كانوا يزرعونها فيما سبق، وهي الفكرة التي أسماها الباحثون «فرضية بورلوج». بينما يظن فوجت أن العكس هو الصحيح، فيقول: «إن الحل هو أن نستخدم المعرفة البيئية لنصبح أصغر».

يجب على الإنسانية – بدلًا عن إنتاج المزيد من الحبوب لتنتج مزيدًا من اللحوم – أن «تتغذى على ما هو أدنى في السلسلة الغذائية من غذائها الحالي»، بحسب ما يقول أتباعه؛ لتخفف العبء عن الأنظمة البيئية للأرض. يختلف فوجت في رؤيته هذه عن سلفه روبرت مالتوس، صاحب النبوءة الشهيرة بحتمية نفاد غذاء المجتمعات البشرية؛ نتيجة لاستمرارها في إنجاب الأطفال بكثرة. غير فوجت في النظرية، وقال: «إن المجتمعات ربما تصبح قادرة على توفير الغذاء الكافي، لكن كلفته ستكون تدمير الأنظمة البيئية في العالم».

    يصنف الكاتب أتباع وجهتي النظر على أنهما: إما سحرة، أو أنبياء. السحرة هم من يتبعون نموذج بورلوج باكتشاف الحلول التكنولوجية، والأنبياء هم من يتبعون فوجت بالتحذير من عواقب استهتارنا.

عاش بورلوج وفوجت في نفس الحقبة الزمنية، لكن نادرًا ما أقر أحدهما بصحة حديث الآخر. كان أول وآخر لقاء لهما في الأربعينات، واختلفا فيه، وحاول فوجت بعده أن يوقف عمل بورلوج، كما لم يتحدثا بعدها على حد علم الكاتب. كان كل منهما يشير لأفكار الآخر في الأحاديث العامة، لكن دون ذكر صاحبها. حذر فوجت من العلماء «المضلَّلين» الذين يزيدون من مشاكلنا، بينما وصف بورلوج معارضيه باللوديين.


يقول الكاتب: إن كليهما مات الآن، بينما احتد الجدل بين تلاميذهما أكثر. يرى السحرة أن تشديد الأنبياء على فكرة تخفيض الاستهلاك هو خداع فكري لا يلقي بالًا للفقراء، بل يرون أنه عنصري، لكون أغلب جياع العالم، من غير القوقازيين، يرون أن اتّباع طريق فوجت سيؤدي للتخلف والضيق والفقر، وسيتجه بنا نحو عالم يعيش فيه الملايين في بؤس، رغم المعرفة العلمية التي قد تحررهم. على الجانب الآخر، يسخر الأنبياء من إيمان السحرة بقدرة البشر، ويصفونه بغير العقلاني والجاهل، وبأنه يحركه الطمع؛ لأن تخفيض الاستهلاك سيقلل من أرباح الشركات.

يرون أيضًا أن تكثيف الزراعة الصناعية بطريقة بورلوج قد يحل المشكلة على الأمد القصير، لكنه سيجعل اليوم الذي تنهار فيه الأنظمة البيئية أشد قسوة. كذلك إهلاك التربة والمياه بالاستخدام المفرط والمستهتر، الذي سيؤدي للانهيار البيئي، والذي بدوره سينتج اضطرابات اجتماعية على مستوى العالم، فيرد السحرة بأن هذا بعينه ما يحاولون أن يتفادوه. ارتفعت نبرة الاتهامات بين الطرفين وأصبحت النقاشات حول البيئة، مثل «المونولوج»، لا يريد فيه كل طرف الاستماع إلى الطرف الآخر. كان هذا ربما ليكون عاديًا إن لم يكن حديثنا عن مصير أطفالنا، بحسب تعليق الكاتب.
أي طريق يؤدي للجحيم؟

يشير الكاتب إلى كتاب فوجت «طريق النجاة» الصادر عام 1948، وهو أول كتب العصر الحديث التي تبشر بهلاكنا جميعًا. ضم الكتاب الأسس الفكرية لحركة «السعة التحميلية» البيئية الموجودة اليوم. قد تجدها بأسماء أخرى، مثل: حدود الأنظمة البيئية، أو حدود الكوكب، وتقول بوجود حد لما ينتجه كل نظام بيئي، وإن تجاوزت هذا الحد لمدة طويلة يفسد هذا النظام البيئي.

بحسب كتاب «طريق النجاة»، كلما زاد عدد البشر ستفوق متطلباتهم الغذائية ما تحتمله السعة التحميلية للأرض، وستكون النتائج كارثية من تآكل، وتصحر، وإنهاك للتربة، وانقراض كائنات حية، وتلوث المياه، الذي سيؤدي عاجلًا أم آجلًا إلى مجاعات كبرى. احتفى بها كتاب مثل مؤلف كتاب «الربيع الصامت» – وأحد أصدقاء فوجت – ريتشل كارسون، ومؤلف كتاب «القنبلة السكانية»: بول ألريتش، لذلك أصبحت أطروحات فوجت عن تجاوز الحدود الممكنة ملهمة للحركة البيئية العالمية، لتصبح الأيديولوجية الوحيدة المستمرة منذ القرن الماضي.

أوجد بورلوج نوعًا من القمح أقصر بكثير من المعتاد، وعرف لاحقًا باسم القمح القزم.

عند ظهور «طريق النجاة»، كان بورلوج لا يزال شابًا يتخصص في علم أمراض النباتات ويعمل في برنامج – على وشك الانهيار – لتحسين الزراعة المكسيكية. مولت البرنامج مؤسسة «روكفلر»، وكان يهدف إلى مساعدة مزارعي الذرة المكسيكيين الفقراء. كان بورلوج في المكسيك أيضًا من أجل مشروع جانبي صغير يركز على أقدم وأسوأ أمراض القمح: الصدأ الأسود، والذي قدم اليونانيين القدماء الضحايا للآلهة من أجل إبعاده عنهم. عادة، يقتل البرد «الصدأ» في الولايات المتحدة، لكنه كان ينتقل لها دومًا عبر الحدود من المكسيك – الأكثر دفئًا – في كل ربيع.

نجح بورلوج في تهجين قمح مقاوم لأنواع عدة من الصدأ الأسود في منتصف الخمسينات، رغم كونه الباحث الوحيد الذي يختص بالعمل على القمح في روكفيلر، ورغم أن المال القليل الذي منح له قد اضطره للبيات في الأكواخ والحقول لشهور عدة. لم يكن هذا إنجازه الوحيد، بل أوجد نوعًا من القمح أقصر بكثير من المعتاد، وعرف لاحقًا باسم القمح القزم. في الماضي، كان القمح يسمد بكميات كبيرة، فينمو بسرعة شديدة، لتضرب الرياح أعواده الملتوية، فتمرض النبتة وتموت. أما قمح بورلوج – الأقصر والأشد – فكان يمتص جرعات أكبر من السماد ويحول النمو الزائد ليصب في حبة القمح، بدلًا عن الساق أو الجذور. في أولى مراحل اختباره، كان المزارعون يحصدون ما يقدر فعليًا بـ10 أضعاف ما كانوا يحصدونه قبلها. زادت إنتاجية المحاصيل بقدر مشابه، ووصف أحد مسؤولي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID) هذا النمو بالثورة الخضراء، فمنح اسمًا للظاهرة التي حددت فيما بعد شكل القرن العشرين.

يرى الكاتب أن آسيا قد شهدت أكبر التأثيرات الجذرية للثورة الخضراء. كان نصف سكان القارة – على الأقل – من الجياع والمحتاجين، وإنتاجية الحقول فيها: إما ثابتة، أو منخفضة. تحارب حكوماتها الحركات الشيوعية المسلحة بعد أن خرجت لتوها من الاستعمار. وفي فيتنام تحديدًا، ظن الزعماء الأمريكيون أن الاتجاه نحو الشيوعية يكمن في كونها تعد بمستقبل أفضل. أرادت واشنطن إظهار التطور الحادث في ظل الرأسمالية، وفتحت مؤسستا روكفلر وفورد معهد الأرز الدولي في الفلبين في ذلك الوقت. كان معهد الأرز الدولي يأمل أن تحقق الفرق البحثية عالية الكفاءة طفرة في آسيا بنقلها سريعًا إلى زراعة الأرز الحديثة.

بعد اكتشاف بورلوج، طور باحثو المعهد أنواع أرز جديدة عالية الإنتاجية. أغرقت هذه الأنواع الأراضي الآسيوية في السبعينات والثمانينات، وضاعفت محاصيل الأرز بنحو ثلاث مرات، وصارت أكثر من 80% من أنواع الأرز الذي ينمو في آسيا اليوم نابعة من دراسات معهد الأرز. ورغم الارتفاع الكبير في عدد سكان آسيا اليوم، إلا أن حاجتهم الغذائية لم تزد سوى بمقدار 30% منذ تأسس معهد الأرز. يضيف الكاتب: «كل ناطحات السحب، والفنادق الفاخرة، والشوارع المزدحمة المليئة بالأنوار، كلها كان أساسها أرز المعامل».

أكثر من 80% من أنواع الأرز الذي ينمو في آسيا اليوم نابعة من دراسات معهد الأرز.

هل هذا يعني دحض ما قاله «الأنبياء»؟ هل كانت السعة التحميلية خرافة؟ ينفي الكاتب كلا السؤالين، ويوضح كيف اتضحت صحة ما توقعه فوجت. أدت الطفرة الكبيرة في الإنتاج إلى ضرر بيئي بالغ مثل: استنزاف المياه الجوفية، وتسرب السماد، والتصحر، وتلوث التربة وتشبعها بالمياه. على الصعيد الإنساني، كان الوضع أسوأ، فأصبحت الأراضي الزراعية أغلى، فصارت تغوي الأغنياء بسرقتها في تلك المناطق، ليتركوا المزارعين الفقراء بلا أرض ليزرعوها. قال الأنبياء إن الثورة الخضراء أجلت فقط أزمة الجوع، فكانت حلًا موفقًا لا يمكن استخدامه سوى مرة واحدة، لا حلًا دائمًا. بحسب الأنبياء، فإن الأرقام والثروات التي تضخمت تعني أننا سنحتاج لطفرة في الإنتاج، والحل في نظر السحرة هو: ثورة خضراء جديدة.

بحلول 2050، ستكون نسبة زيادة السكان في الأرض 25% فقط، لكن طبقًا للتوقعات فسيحتاج البشر لمضاعفة إنتاجهم الغذائي بنحو 50% إلى 100%. السبب الرئيس لذلك أن غنى البشر الزائد يرتبط بمضاعفة الطلب على المنتجات الحيوانية، مثل الجبن والألبان والسمك واللحوم، خصوصًا اللحوم. ولتعذية الحيوانات أكثر، نحتاج المزيد من الأراضي والمياه والطاقة أكثر مما نحتاجه لإنتاج الغذاء النباتي، الذي نزرعه ونأكله فقط. لا يمكن توقع كم اللحوم التي سيتناولها مليارات البشر في المستقبل، لكن إن كانوا مثل الغربيين اليوم في أكلهم للحوم، فهذا يعني أن المهمة ستكون مهولة. لذا يحذر الأنبياء من الكارثة النباتية التي ستحدث إثر محاولة إرضاء الطلب العالمي على البرجر واللحوم المصنعة، من أراضٍ مدمرة وصراعات على المياه واستحواذات على الأراضي ستترك الملايين من المزارعين في البلاد الفقيرة، بلا مغزى للحياة

«ما العمل إذًا؟»، يتساءل الكاتب. فبعد أن أصبحت بعض خطط الثورة الخضراء الأولى غير متاحة الآن، لم تبق للفلاحين أراضٍ كثيرة ليزرعوها، فكل فدان صالح للزراعة مستخدم بالفعل. ولم يعد ممكنًا استخدام المزيد من الأسمدة، فاستخدامها زائد عن الحاجة في كل مكان تقريبًا، عدا أجزاء قليلة من أفريقيا، ويلوث تسربها الأنهار والبحيرات والمحيطات. كما لا يمكن تطوير الري بشكل كبير؛ لكون أغلب الأراضي التي يمكن ريها هي مروية بالفعل. يقول السحرة: إن أفضل حل هو استخدام التعديل الوراثي لجعل المحاصيل أكثر إنتاجية، بينما يرى السحرة أن هذه بداية لتحميل الأرض فوق سعتها التحميلية. علينا أن نسير في الاتجاه الآخر، بحسب رأيهم. يجب أن نستخدم أراضٍ أقل، ونهدر ماءً أقل، وألا نصب في كليهما مزيدًا من الكيماويات.

يصف الكاتب الأمر كما لو كان البشر جميعهم محشورون في حافلة تسير وسط ضباب لا يُرى منه شيئًا، وأمامهم هاوية في مكان ما، وهي الكارثة التي ستعيد الإنسانية لفقرها. لا يمكن تحديد مكانها، لكن الجميع يعلمون أن هذه الحافلة ستأخذ منحىً عند نقطة ما. تكمن المشكلة في اختلاف الأنبياء والسحرة حول الأمر، فكل منهما متأكد أن أفكار الآخر ستلقي بالحافلة إلى هذه الهاوية، ووسط شجارهم هذا، يزيد عدد الركاب أكثر فأكثر.
حكاية النيتروجين

    رغم فائدتها، ظهرت الخسائر لاحقًا؛ إذ لم تمتص النباتات 40% من الأسمدة التي غذيت بها خلال الستين عامًا الماضية، بل كانت تتسرب للأنهار أو تذوب في الجو لتصبح أكسيدات النيتروجين.

يقول الكاتب: «إننا كنا جميعًا سنعرف جاستس فون ليبيج، إن كان التاريخ الزراعي يدرس في المدارس، وهو من أثبت أن كمية النيتروجين الموجودة في التربة تتحكم في معدل نمو النبات. اتهمه بعض المؤرخين العلميين بتزوير البيانات وسرقة أفكار الآخرين، وهو ما قد يكون صحيحًا بحسب التقرير، لكنه كان من المستبصرين الذين غيروا علاقة الجنس البشري بالطبيعة. رأى ليبيج – المتملق صاحب البصيرة – نوعًا جديدًا من الزراعة، تكون فيه فرعًا في الكيمياء والفيزياء، حيث تكون التربة قاعدة تحظى بخواص فيزيائية مناسبة لحمل الجذور، والتي نصب فيها مركبات النيتروجين – الأسمدة المصنعة – لتكون النتيجة محصولًا هائلًا. بمفرداتنا اليوم: خطا ليبيج أولى الخطوات نحو الزراعة الصناعية التي تنظمها الكيمياء، وهي النسخة القديمة من تفكير السحرة».

لم يكن هناك طريقة واضحة لتصنيع هذه المواد النيتروجينية لتغذية النباتات بها، إلى أن وفر هذه التقنية كيميائيان ألمانيان هما فريتز هابر وكارل بوش، وذلك قبل وأثناء الحرب العالمية الأولى، واستحقا بجدارة جوائز نوبل التي نالوها لاحقًا. كانت عملية هابر بوش – على الأرجح – أهم ابتكار تكنولوجي في القرن العشرين، وهي مسؤولة عن وجود أغلب الأسمدة الصناعية اليوم، إن لم يكن كلها. بينما تستهلك ما يزيد بقليل عن 1% من استهلاك الطاقة العالمي، وهي نسبة كافية لـ«مضاعفة حجم الغذاء الذي يمكن أن ينتجه العالم»، بحسب عالم المستقبليات رامز نام. بينما يقدر العالم البيئي فالكاف سميل أن قرابة 45% من سكان العالم يدخل في غذائهم أسمدة صنعت بعملية هابر-بوش. أكثر من 3 ملايين طفل ورجل وامرأة، يدينون بوجودهم لكيميائيين ألمانيين.


رغم فائدتها، ظهرت الخسائر لاحقًا؛ إذ لم تمتص النباتات 40% من الأسمدة التي غذيت بها خلال الستين عامًا الماضية، بل كانت تتسرب للأنهار أو تذوب في الجو لتصبح أكسيدات النيتروجين. تظل هذه الأسمدة فعالة عندما تتسرب للمياه، فهي تخصب الطحالب والأعشاب والنباتات البحرية الأخرى، وبعد موت هذه النباتات تستقر في قيعان الأنهار والبحيرات والمحيطات، حيث تتغذى الجراثيم على بقاياها. تنمو هذه الجراثيم بسرعة كبيرة إلى حد أنها تسحب الأكسجين من الأعماق بتنفسها، فتقتل أغلب الكائنات الأخرى. تسببت نترات الحقول الأمريكية المتسربة إلى خليج المكسيك عبر المسيسيبي في انخفاض الأكسجين بشكل كبير على مساحة قدرها 7 آلاف قدم مربعة، بحسب ما أعلن في 2016، واكتشفت منطقة ميتة مساحتها 23 ألف قدم في خليج البنغال – شرقي الهند – في العام التالي.

وفي الجو، تعد أكاسيد النيتروجين سببًا رئيسيًا للتلوث. تتفاعل مع طبقة الأوزون في الغلاف الجوي، وتفقدها دورها في حماية الحياة على سطح الأرض بحجب الأشعة فوق البنفسجية المسببة للسرطان. يقول العالم أوليفر مورتن: «إنه لولا وجود التغير المناخي؛ لكان انتشار النيتروجين هو أكبر مخاوفنا البيئية».

منذ ما قبل حصول هابر وبوش على نوبل، نشأت مقاومة جادة للنيتروجين، وكان يقودها الإنجليزي آلبرت هوارد الذي عاش أغلب حياته مسؤولًا عن اقتصاد النباتات في الراج البريطاني. بصحبة زوجته جابريل، عالمة وظائف النباتات خريجة كامبريدج، قضى كلاهما وقتهما في الهند في تخليق أنواع جديدة من القمح والتبغ، وتطوير محاريث مبتكرة، واختبار نتائج تغذية الثيران بغذاء صحي تمامًا. بنهاية الحرب العالمية الأولى، كان كلاهما مقتنعان بأن التربة ليست مجرد إناء للإضافات الكيماوية، بل نظامًا حيويًا مركبًّا، يحتاج مزيجًا شديد التعقيد من المخصبات، يضم مخلفات النباتات والحيوانات من بقايا الحصاد وفضلات الحيوانات.

قدم الزوجان أفكارهما ضمن ما أسمياه قانون العودة، وينص على «العودة التامة لكل مخلفات النباتات والحيوانات والإنسان إلى التربة»؛ إذ نعتمد نحن على النباتات، وتعتمد النباتات على التربة، وتعتمد التربة علينا. وضع آل هوارد «عهد الزراعة» عام 1943، لتكون الوثيقة المؤسسة لحركة الزراعة العضوية.
روبيسكو: «لم يكن أفضل منتجات التطور»

    يعد الروبيسكو إنزيمًا كسولًا. فبينما تحفز جزيئات الإنزيمات – عادة – آلاف التفاعلات في الثانية الواحدة، تحفز جزيئات الروبيسكو تفاعلين أو ثلاثة تفاعلات في الثانية.

كما يتعلم الأطفال في المدارس، فإن النباتات تستخدم الطاقة التي تستمدها من الشمس لتكسير روابط ثاني أكسيد الكربون والماء، لتدمج مكوناتهما في مركبات ضرورية لبناء جذورها وسيقانها وأوراقها وبذورها. يلعب إنزيم «الروبيسكو» دورًا رئيسًا في هذه العملية. إذ أن الإنزيمات هي محفزات حيوية، مثلها كمثل من يعبر طريقًا ويتسبب في حادثة، بينما لا يصاب هو بأذى، تسبب الإنزيمات التفاعلات الكيميائية، لكنها لا تتغير بحدوثها. يأخد الروبيسكو ثاني أكسيد الكربون من الجو؛ ليدخله في دوامة البناء الضوئي، ثم يعود ليجلب المزيد. لهذا تسير سرعة البناء الضوئي وفقًا لسرعة الروبيسكو.

لكن للأسف، يعد الروبيسكو إنزيمًا كسولًا. فبينما تحفز جزيئات الإنزيمات – عادة – آلاف التفاعلات في الثانية الواحدة، تحفز جزيئات الروبيسكو تفاعلين أو ثلاثة تفاعلات في الثانية. الأمر الأسوأ، هو أن الروبيسكو غير عملي، فمن بين كل خمس عمليات يجلب الروبيسكو أكسجين، بدلًا عن ثاني أكسيد الكربون؛ ليسبب سلسلة من التفاعلات التي تفسد البناء الضوئي فتبدأ العملية من جديد، وتضيع المياه والطاقة.

يحكي الكاتب عن المرة التي قام فيها بالحديث مع بعض علماء الأحياء عن البناء الضوئي، ويذكر أن جميعهم لم يذكروا الروبيسكو بخير. قال أحد الباحثين: «هو أسوأ وأغبى محفز في العالم»، بينما يقول باحث آخر: «لم يكن أفضل منتجات التطور». تنتج النباتات الكثير من إنزيمات الروبيسكو لتتفادى غباءه وكسله، وهو ما يتطلب الكثير من النيتروجين. تصل نسبته من بين البروتينات الأخرى في أوراق النبات إلى نحو 50%، لذا يسمى عادة بـ«أكثر البروتينات وفرة في العالم». ويشير إحصاء تقديري إلى أنه في مقابل كل شخص على وجه الأرض، يوجد 11 رطلًا من إنزيمات الروبيسكو في النباتات والكائنات الحية الدقيقة.

قد تظن أن التطور حسّن من الروبيسكو، لكن هذا لم يحدث. ما حدث هو أنه أنتج عملية بديلة، وهي البناء الضوئي رباعي الكربون. كونها حلًا حيويًا وكيميائيًا، وفي نفس الوقت، هي طريقة فعالة لدفع نمو النباتات بشكل كبير؛ إذ تعيد العملية ترتيب النبية الداخلية للورقة.

أنواع من الأرز المعدل جينيًا.

يحاول العلماء حول العالم تحويل الأرز إلى نبات يستخدم البناء الضوئي الرباعي، في عملية تشبه الهبوط على القمر في أهميتها وصعوبتها، بحسب وصف الكاتب، لينمو أسرع، ويستهلك ماءً وأسمدة أقل، وينتج المزيد من الحبوب. يعد الأرز أهم غذاء في العالم، فهو المحصول الأساسي لأكثر من نصف سكانه، لدرجة أن معنيي كلمتي: أرز، ووجبة، متقاربان في الثقافات الآسيوية، مثل الصين واليابان.

لا يمكن معرفة كم الزيادة في إنتاج الأرز التي سنحتاجها في 2050، لكن التوقعات تصل إلى 40%، بحساب الزيادة السكانية وزيادة الترف؛ ما يسمح للعديدين ممن كانوا فقراء باستخدام الأرز، بدلًا عن الأغذية الأقل وجاهة مثل البطاطا الحلوة أو الدخن، لكن على الجانب الآخر، فإن الأراضي الزراعية التي يمكن زراعة الأرز فيها تقل، والمدن تتمدد لتصل المناطق الريفية، والأنهار تجف، والفلاحون يتجهون لزراعات أخرى أجدى اقتصاديًا، والتغير المناخي يجعل الأراضي الخضراء تتصحر. سينتج عن نقص الأرز في العالم كوارث إنسانية عواقبها تمتد للعالم أجمع.

يسعى تحالف الأرز رباعي الكربون لمنع حدوث هذا الأمر. بتمويل ضخم من مؤسسة بيل وميليندا جيتس، يعد أكبر مشاريع الهندسة الوراثية طموحًا في العالم. ليست هذه هندسة وراثية بالمعنى المتعارف عليه، مثلما ترد الأخبار عن شركات كبرى تقوم بإدخال مواد جينية خارجية – أغلب الوقت – إلى المحاصيل. أشهر مثال على ذلك هو مشروع «مونسانتو» لإنتاج حبوب الصويا التي تحتوي على جزء صغير من جينات بكتيريا اكتشفت في ولاية لويزيانا الأمريكية؛ ينتج هذا الجزء مركبًا كيميائيًا في النبات ليمنع أثر مبيد «راوند أب» – أشهر مبيدات مونسانتو – فيمكن للفلاحين أن يستخدموه لقتل الأعشاب دون الإضرار بالمحصول. غير هذا، لا تختلف حبوب الصويا التي تنتج منها عن الصويا العادية.
مشروع «أعداء التكنولوجيا»

ينتقل الكاتب للفريق الآخر، الأنبياء كما يسميهم، أو اللوديين أعداء التكنولوجيا كما سماهم السحرة. إضافة إلى التسمية، ينتقد السحرة طريقة الأنبياء في الزراعة، مدعين أنها لا يمكن أن تنتج غذاءً كافيًا للمستقبل. لكن خلال السنين العشرين الأخيرة، قامت فرق بحثية كثيرة بفحص الإسهامات المختلفة في مجالي الزراعة الطبيعية والصناعية.

خضعت هذه الفحوصات بدورها لفحص آخر بعد جمعها، وكان الأمر شديد الصعوبة؛ إذ يستخدم الباحثون في تحليلهم أنماطًا مختلفة مما قد يعد طبيعيًا، ويقارنون بين حقول متنوعة، ويدرجون التكلفة المختلفة. أظهرت كل المحاولات – التي اطلع عليها الكاتب – تفوق طريقة السحرة على طريقة الأنبياء، فهي تنتج محاصيل ذات قيمة غذائية أعلى في كل فدان، أحيانًا بفرق طفيف وأحيانًا أخرى بزيادة كبيرة. لذا يرى الأنبياء أن المؤشرات واضحة، وأن طريقة آلبرت هوارد ستمنع الفلاحين من مضاعفة إنتاج الغذاء ليكفي 10 مليارات إنسان.

 بعض أنواع الذرة المعدلة جينيًا.

على الجانب الآخر، يتعجب الأنبياء من هذا المنطق، فهم يرون أن من الحماقة تقييم أنظمة الزراعة بمعدل السعرات الحرارية التي ينتجها كل فدان؛ فلا يتضمن ذلك الثمن الذي تحدث عنه فوجت من تسرب الأسمدة، وتدهور مستجمعات المياه، وتعرية التربة وانضغاطها، والاستخدام الزائد للمبيدات والمضادات الحيوية؛ كما لا يضع في اعتباره تدمير المجتمعات الريفية، أو ماذا كان الطعام مستساغًا أو غنيًا بالعناصر الغذائية.

يرد السحرة بأن الأرز رباعي الكربون سيستخدم ماءً وسمادًا أقل في مقابل كل سعرة حرارية ينتجها، وسيكون أفضل بيئيًا من المحاصيل التقليدية. ويقول لهم الأنبياء: كأنكم تحاولون إطفاء النار التي أشعلتموها بصب بنزين أقل، عليكم فقط أن تقللوا من اللحوم! ويرى السحرة أن فكرة تنويع الحقول لمحاكاة أنظمة الطبيعة البيئية غير واقعي، فلا يمكن إطعام العالم في المستقبل، سوى بزراعة مكثفة بطريقة صناعية تستخدم المحاصيل المعدلة وراثيًا ذات الإنتاج الكثيف. أما الأنبياء فيرون أن هذا ليس حلًا، ويعملون على مشروعاتهم الفارقة أيضًا.

    بحسب الأنبياء، يمكن لتلك النباتات أن تنتج بنفس القدر الذي تنتجه حبوب الثورة الخضراء، دون إفساد الأرض، أو استهلاك المياه النادرة، أو استخدام جرعات كبيرة من الأسمدة الملوثة
    والمستهلكة لكميات كبيرة من الطاقة.

على عكس أنواع الحبوب الحولية الشائعة، مثل الأرز والقمح والذرة والشعير والشوفان والجاودار، تنتج الأعشاب البرية –المعمرة – صيفًا تلو الآخر، وتعيش لعقد بأكمله. تمتد جذورها عميقًا في التربة لتزيد من تماسكها، ويقل اعتمادها على المياه والعناصر الغذائية الموجودة فوق سطح الأرض – أي مياه الري والأسمدة – عن الأعشاب المنتجة سنويًا. تقاوم أغلب أنواعها الأمراض، لا تحتاج لبناء جذور جديدة كل عام، فتنمو أسرع من النباتات الحولية، ولا تموت كل شتاء، فتستمر في أداء عملية البناء الضوئي خلال فصل الخريف، كما أن موسم نموها ممتد. تنتج النباتات المعمرة الغذاء عامًا بعد عام، ويقل فيها – بشكل كبير – التآكل الذي يسببه الحرث. بحسب الأنبياء، يمكن لتلك النباتات أن تنتج بنفس القدر الذي تنتجه حبوب الثورة الخضراء، دون إفساد الأرض، أو استهلاك المياه النادرة، أو استخدام جرعات كبيرة من الأسمدة الملوثة والمستهلكة لكميات كبيرة من الطاقة.

في هذا السياق، يشير الكاتب إلى معهد رودال، وهو أقدم المؤسسات الأمريكية التي تهتم بالزراعة الطبيعية. في منهج مشابه لبرنامج بورلوج في المكسيك، جمع المعهد 250 عينة من عشبة القمح المتوسطة (ثينوبيروم إنترميديم) في نهاية الثمانينات. تنحدر العشبة من عائلة قمح الخبر المعروف، وقدمت إلى الغرب من آسيا في الثلاثينات، لتستخدم علفًا لحيوانات المزارع. بالتعاون مع باحثي وزارة الزراعة الأمريكية، قام أحد باحثي «رودال» بجي واجنر – الريادي في تهجين النباتات – بزراعة بعض العينات، واختبر إنتاجيتها، ثم هجن أفضل العينات سويًا، في محاولة لإنتاج قمح معمر صالح للاستخدام التجاري.


لاحقًا، في عام 2002، انتقل البحث من معهد رودال ليعمل عليه معهد الأرض في ولاية كنساس، وهو معهد غير ربحي يركز على إحلال العمليات المشابهة لتلك التي تحدث في الطبيعة بدلًا عن الزراعة التقليدية؛ ويعمل المعهد – بمعاونة باحثين آخرين – على تطوير عشبة القمح منذ ذلك الحين، وأطلق على النوع الجديد اسمًا تجاريًا هو «كرنزا».

لكن عشبة القمح – مثل الأرز رباعي الكربون – قد لا تفي بآمال مطوريها. تصل حبيباتها إلى ربع حجم القمح التقليدي، وتكون أحيانًا أقل من هذا، وطبقة النخالة فيها أثخن. وعلى عكس القمح، تصبح العشبة داكنة وكثيفة أكثر عندما تنمو، لتغطي الحقل وتحمي التربة وتمنع نمو الحشائش، إلا أنها تقلل حجم الحبيبات التي تنتجها النبتة أيضًا. يحتاج المهجنون إلى تكبير حجم الحبة وتغيير تركيب النبتة وتحسين جودتها في صنع الخبر، كي تكون مفيدة للمزارعين. لا زال العمل على هذا بطيئًا، لكون عشبة القمح معمرة، وهو ما يجعل تقييم التطور يحدث على مر الأعوام، بدلًا عن الموسم الواحد. يأمل معهد الأرض أن ينتج عشبة قمح بضعف حجم حباتها الحالية – أي نصف حبة القمح التقليدي – وصالحة للخبز خلال العقد القادم، لكن ليس هذا مضمونًا أيضًا.

يشير الكاتب لحل مختصر يستخدمه مهجنون آخرون لتجاوز العملية الطويلة لترويض عشبة القمح؛ إذ يحاولون تهجين قمح الخبر مع عشبة القمح، آملين في أن إنتاج حبيبات كثيرة وكبيرة مثل قمح الخبز، وتظل طويلة العمر مقاومة للأمراض مثل عشبة القمح. حاول علماء في أمريكا الشمالية والاتحاد السوفيتي وألمانيا إنتاج فصائل مهجنة مثل تلك منذ منتصف القرن الماضي، إلا أنهم لم ينجحوا. يحاول معهد الأرض البداية من جديد خلال هذا القرن، بمعاونة باحثين في غرب الولايات المتحدة ومن أستراليا، ومدعومين بالتطور في علم الأحياء. يبقى أمامهم الكثير من العمل، لكن بحسب ما يقول الكاتب، فإن هناك أملًا أن تلحق ابنته بالنوع الهجين الجديد: «تريتبيروم آيسيي»، الذي يطوره علماء في جامعة ولاية واشنطن، والمسمى نسبة لعالمة الجينات الريادية: هانا آيسي.

لكن الباحثين في أفريقيا وأمريكا اللاتينية يتعجبون عند سماعهم بهذه المشروعات، بحسب الكاتب. تقول إدويج بوتوني -الباحثة في اللجنة الدائمة بين الدول للتحكم في الجفاف في السهل الأفريقي – أن زراعة الحبوب المعمرة هي الطريقة الأصعب للأنبياء كي يحصدوا محاصيل أعلى إنتاجية. فكرت بوتوني كثيرًا في معضلة إنتاج الغذاء من أرض ضعيفة الجودة على مر أراضي الصحراء الكبرى، وتقول إن جزءًا من حل تلك المشكلة هو محاكاة حقول المناطق الاستوائية، مثل الموجودة في نيجيريا والبرازيل. فبينما يركز المزارعون في المناطق المعتدلة على زراعة الحبوب، تزرع الأشجار والنباتات الدرنية في المناطق الاستوائية؛ لأن كليهما ينتج أكثر من الحبوب.

يرى باحثون في أفريقيا أن نباتات مثل البفرة (الكاسافا) والنباتات الدرنية المشابهة قد تحل جزءًا من المشكلة.

مثال على ما سبق: نبات البفرة المعروف أيضًا باسم كاسافا، من بين أسماء أخرى. يحل النبات في المركز الحادي عشر ضمن قائمة أهم المحاصيل في العالم وفقًا لإنتاجيتها، وينمو في المساحات الواسعة في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. ينمو الجزء الصالح للأكل منه تحت الأرض، فلا تسقط النبتة أبدًا مهما كان حجم درنتها. يقول الكاتب أن البفرة تنتج في كل فدان سعرات حرارية تزيد عما ينتجه القمح والحبوب الأخرى، رغم الأخذ في الاعتبار احتوائها على مياه أكثر من تلك الحبوب. تعد البطاطس هي المعادل الشمالي لها، ووصل إنتاجها في الولايات المتحدة إلى 43 ألف رطلًا لكل فدان عام 2016، أي 10 أضعاف القمح. تقول بوتوني: «إن البفرة قد لا تكون معروفة لدى العديد من الثقافات، لكن تقديمها لهم قد يكون أسهل من تهجين فصائل جديدة تمامًا».

كذلك الأمر بالنسبة لمحاصيل الأشجار، يضيف الكاتب. تنتج شجرة تفاح «ماك أنتوش» الناضجة من 350 حتى 550 رطلًا من التفاح في العام الواحد. يزرع البستانيون حوالي 200 إلى 250 شجرة في الفدان الواحد؛ ما يعني أنهم ينتجون من 35 إلى 65 طنًا من الفاكهة لكل فدان في الأعوام الجيدة، بينما ينتج القمح طنًا ونصف الطن فقط. يحوي التفاح مياهً أكثر من القمح – مثله مثل البفرة – لكنه أيضًا ينتج سعرات حرارية أكثر لكل فدان. كما تنتج فواكه الموز والبابايا أكثر من القمح أيضًا. وكذلك بعض أنواع المكسرات، مثل الكستناء. لا يمكن للتفاح والبابايا والكستناء إنتاج وجبات مثل الفطائر الفرنسية أو الرقاق أو كعكة الشيفون، إلا أن أغلب الحبوب تدخل في مواد أعقد في تصنيعها، مثل غذاء الحيوانات وحبوب الإفطار والمشروبات المركزة والإيثانول، وهو ما يمكن استخدام الفاكهة والدرنات في صنعه.

يقول الكاتب: «إنه لا يقترح أن يستبدل المزارعون حول العالم بمحاصيل القمح والأرز محاصيل مثل البفرة والبطاطس والبطاطا والموز أو التفاح»، لكنه يشير للطرق العديدة التي يمكن للأنبياء الوصول بها إلى احتياجات العالم في الغد. هي طرق صعبة، لكن أيضًا طريق السحرة في الوصول للأرز رباعي الكربون أثبت صعوبته. وتظل العقبة الأكبر أمام الأنبياء هي العمالة.
طريقة لتوفير الغذاء أم للعيش؟

يقول الكاتب: «إنه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، قامت حكومات أغلب الدول بتوجيه العمالة بعيدًا عن الزراعة بشكل متعمد، وكانت الصين هي الاستثناء الوحيد لوقت طويل. كان تهدف تلك الحكومات إلى ضم الحقول وميكنتها حتى تزيد من المحاصيل وتقلل من التكلفة، بخاصة تكلفة العمالة. بعد عدم الحاجة إليهم، انتقل المزارعون إلى المدن حيث يمكنهم العمل في المصانع ذات الرواتب الأعلى. في الظروف المثالية لمنهج بورلوج، يمكن لأصحاب الحقول وعمال المصانع زيادة دخلهم، بزيادة المحاصيل وتحسينها، أو بالحصول على وظائف ذات دخل أعلى في المصانع. كما ستستفيد بلدانهم بزيادة صادراتها من الصناعة والزراعة، وتوفير الغذاء في المدن، والأجر الوفير مقابل ساعات العمل».

توجد بعض العيوب في هذا، فقد نشأت مناطق غير مخططة في مدن البلدان النامية لتستوعب الأسر النازحة، كما فرغت المناطق الريفية من الناس في معظم المناطق – بما فيها البلدان النامية – من الناس، وهو ما كان يهدف إليه أتباع بورلوج من أجل مسعاهم في تحرير العمال الزراعين ليبحثوا عن أحلامهم.

انخفضت نسبة العاملين في الزراعة في الولايات المتحدة من 21.5% إلى 1.9% في الفترة من 1930 حتى 2000، كما انخفض عدد المزارع بمقدار الثلثين. زاد متوسط مساحات الحقول الناجية لتعويض النقص في العمالة. بينما قامت الحكومات حول العالم بوضع حوافز ضريبية وبرامج قروض وبرامج تدريبية لكبار المزارعين، كي يحصلوا على آلات زراعية للمساحات الكبيرة، ويزيدوا من الكيماويات، ويزرعوا محاصيل تصديرية معينة تفضلها الحكومة. لهذا كان المزارعين ممن يتبعون طريقة فوجت يسبحون ضد التيار، إذ تستمر هذه السياسات حتى اليوم.

    على الرغم من أن الجدل يدور حول السعرات لكل فدان والحفاظ على الأنظمة البيئية، إلا أن الخلاف في حقيقته هو حول شكل الزراعة، ومعه شكل المجتمع أيضًا.

بالنسبة لأتباع فوجت، فإن العناية بالتربة هي الأولوية الأولى والأخيرة، هدف يستلزم زراعة محاصيل عدة في مساحات صغيرة، وهو ما يصعب تحقيقه عند التركيز على الإنتاج الكبير لمحصول واحدة. إن أردنا توسيع الزراعة التي تتبع هذا فسنحتاج لإعادة بعض الناس الذين هاجر آبائهم وأجدادهم من الريف. سيحتاج الأمر لمزيد من التكاليف لتوفير حياة جيدة لهؤلاء. يمكن تطبيق بعض الطرق لتقليل العمالة مقابل الميكنة، لكن لا يظن أي من صغار المزارعين الذين تحدث معهم الكاتب أن من الممكن تقليل العمالة لتصبح مثلما في العمليات الصناعية الكبرى. يمكن لنظام كهذا أن يحدث بكتابة العديد من القوانين من جديد لتشجيع استخدام العمالة، ولا تتحقق تلك التغيرات في الترتيبات الاجتماعية بسهولة.

يكمن هنا أصل الجدل الممتد بين السحرة والأنبياء، بحسب الكاتب. فعلى الرغم من أن الجدل يدور حول السعرات لكل فدان والحفاظ على الأنظمة البيئية، إلا أن الخلاف في حقيقته هو حول شكل الزراعة، ومعه شكل المجتمع أيضًا. بالنسبة لأتباع بورلوج فإن الزاراعة عمل شاق لكنه مفيد، ويجب تسهيلها وتقليلها بقدر المستطاع لزيادة مساحة الحرية الشخصية. أما بالنسبة لأتباع فوجت، فإن أهمية الزراعة تكمن في كونها تحافظ على مجتمعات – إنسانية وبيئية – حافظت على الحياة منذ الثورة الزراعية الأولى قبل ما يزيد عن 10 آلاف عام. قد تكون شاقة، لكنها أيضًا عملًا يعيد توثيق ارتباط الإنسان بالأرض. تختلف وجتها النظر، لكن كل منهما له سياق مختلف.

يختم الكاتب بالعودة للحديث عن ابنته، التي تبلغ الآن 19 عامًا وتدرس في عامها الجامعي الثاني، وستكون عام 2050 في منتصف عمرها. «سينشئ جيلها المؤسسات والقوانين والتقاليد التي ستعتمد عليها الحاجات الإنسانية لعالم يسكنه 10 مليارات من البشر. دائمًا ما يقرر كل جيل ما سيحدث في المستقبل، لكن اختيارات هذا الجيل ستمتد طويلًا، سواء كان السحرة أو الأنبياء، يبقى اختيار هذا الجيل معتمدًا على ما سيرونه جيدًا، لا ما يمكن تنفيذه».

 

مترجم عنCan Planet Earth Feed 10 Billion People?للكاتب Charles C. Mann

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات