اعتقدت في تلك الليلة المظلمة من شهر كانون الأول عام 2012 أن غيابها عن منزلها لن يطول، لكنها أربع سنوات مضت كانت تمني فيها النفس بالعودة كل يوم الى حيها، الذي ولدت وعاشت وتزوجت فيه. تقف على مدخل الحي حيث كانت شركات السفريات إلى الأردن ودول الخليج، تتباهى بأناقة حافلاتها والخدمات التي تقدمها اليوم لم يتبق منها سوى بعض المقاعد وظلال للجدران، يستظل بظلها من ينتظر أذن الدخول الى اليرموك والقدم وبعض الركام.
تتلفت نادية يميناً ويساراً علها تلتقي بجار قديم أو إحدى الصديقات لكن دون جدوى. وبعد ساعة ونصف من الانتظار جاء دورها للدخول دقات قلبها تتصاعد تسلم الهوية لشاب يرتدي اللباس العسكري يسجل ساعة دخولها ويعيد لها الهوية. الدخول من المدخل الجنوبي لحي القدم ستجد سرافيس الخدمة تصطف بالدور كي تقل الداخلين الى الحي. الأجرة تعد مرتفعة، إذ يتقاضي السائق مبلغ مائة ليرة عن الشخص لقاء مسافة تقل عن الثلاثمائة متر وبعدها سيكمل الطريق سيراً على الأقدام، تنقل نظرها بين طرفي الطريق مذهولة من حجم الدمار الحاصل، صور الانترنت والفيديوهات لا تصور سوى جزء بسيط عن الواقع، الحي في الأساس يعتبر من أكبر الأحياء الشعبية في دمشق، كان يقطنه قرابة 150 ألف نسمة نزح أغلبيتهم.
تصل نادية إلى منزلها في حي العسالي، المنزل مؤلف من أربع طبقات، تضررت الطبقة العليا بشكل كامل وباقي الشقق تعرضت للسرقة. وجدت أربع فناجين قهوة وبعض الاطباق القديمة. تقول نادية: عدت على أمل إيجاد مكان يأويني أنا وأسرتي تعبنا من التنقل والإيجار. أعمل أنا وأبنائي الثلاثة الذين لم يتجاوز عمر كبيرهم ثلاثة عشر عاماً في بيع الخبز وتنظيف المنازل والسيارات كي نؤمن ثمن الطعام وإيجار المنزل. صحيح لا يوجد حاليا في (القدم )كهرباء وماء وعلينا المشي مسافة طويلة كي نؤمن حاجاتنا لكننا نستطيع العيش فيما تبقى من المنزل.
لا توجد أرقام صحيحة عن عدد السوريين المتبقين داخل مخيم اليرموك وحي القدم، لكن معظم المنظمات الإنسانية تجمع على وجود قرابة العشرين ألف نسمة بين مخيم اليرموك وحي القدم والحجر الأسود. تتقاسم جبهة النصرة وتنظيم الدول الإسلامية "داعش" السيطرة، إذ يسيطر "داعش" على قرابة 80% من مساحة المخيم والقدم، فيما تسيطر جبهة النصرة على 20%.
وداعا يا جوع
لا يزال أثر الجوع واضحاً على وجوه السكان الذين يستقبلون كل قادم بلهفة. أبو علي (خمسة وستين عام) من سكان مخيم اليرموك، كان يعمل مدرس للغة الإنكليزية ورفض الخروج من المخيم. يقول: نزحت عن قريتي بالجولان السوري عام 1967 وعندما دخل المسلحون الى المخيم رفضت الخروج. خرج أبنائي، أما زوجتي فهي تخرج وتعود كل فترة زمنية معينة، إما عن طريق يلدا أو عن طريق القدم، يتابع أبو علي تعرضنا لظروف صعبة لم نجد الطعام لفترة طويلة انتهى مخزوننا من الطعام زرعت الخضروات ودخلت على منازل جيراني كي أؤمن الطعام لي ولزوجتي، التي تعبت فيما بعد واضطرت للخروج بسب الجوع وتداعياته، لكن اليوم اختلف الوضع قليلاً خفت العمليات العسكرية وهدأ الوضع، وبات بالإمكان ادخال الخضروات والطعام. يتابع أبو علي الأسعار أيضا انخفضت في السابق كان حلماً أن تشتري كيلو رز، لكن حاليا صار بالإمكان تأمين الطعام. يبيع أبو علي الملابس على بسطة صغيرة في شارع العروبة البضاعة التي يبيعها أبو علي ثياب جديدة، ولكنها متسخة وهناك أثار غبار ورائحة حريق عالقة عليها. أسعار الثياب والأدوات الكهربائية والمنزلية في متناول الجميع بل هي أرخص من تلك الأسعار التي يتم تداولها في الخارج، لكن لا يستطيع الناس إخراج أشياء كثيرة الى خارج المخيم، متابعاً في الماضي كان المخيم مخزن كبير تجد فيه كل احتياجاتك في البداية، كنت أبيع الأغراض من محل جاري بعد أن استأذنته واليوم اشتري البضائع من شباب يحضرونها من يلدا وببيلا والحجر الأسود بعد أن بات من الصعب الدخول الى بعض أحياء المخيم بسبب الخلاف بين عناصر الأطراف المتقاتلة على تقاسم الأحياء هناك.
قوانين داعشية
شهد مخيم اليرموك في نيسان 2015 هجوماً من قبل عناصر داعش، مما أدى إلى فرض التنظيم سيطرة واسعة على الحي.
لا تجيد ماجدة السير باللباس الشرعي المفروض عليهن في المخيم من قبل عناصر داعش.فأي مخالفة يراها عناصر التنظيم تستوجب زيارة من دورية الحفاظ على الحشمة، وإذا تكرر الأمر هناك عقوبات تصل حد الجلد. تقول ماجدة: يفرض علينا عناصر التنظيم أوامر مشددة، كالتي كنا نسمع عنها في الرقة، أنا أعيش لوحدي ولا يوجد من يعنني، لذلك أضطر للعمل، وفي كل مرة أنقل بسطتي كي لا يصادرها عناصر التنظيم وأتعرض للإهانة.
تدور المراوح ليل نهار في منزل فواز الذي يعمل مساعد صيدلاني في أحد المشافي داخل المخيم. لم يخرج فواز (أربعين عام) من مخيم اليرموك وأراد البقاء في منزله، معتقداً أن الأمور لن تطول ولكنها أربع سنوات قد مضت فقدت فيها زوجتي وبناتي وخسرت خلالها وظيفتي كمدرس للغة الفرنسية. فرضت علينا الظروف طرق عديدة للتأقلم منها موضوع الكهرباء، حيث اشتريت ألواح للطاقة الشمسية وغيرت تمديدات البيت ويتابع فواز يمكنك إدخال الكثير من الأمور الى المخيم كالدخان والملابس والأدوات الكهربائية ولكن الطعام والدواء كانوا من المحرمات على أهالي المخيم. ولكن محاولات إخراج الدواعش وعائلاتهم أدى الى فك الحصار ولو بشكل جزئي عن الناس مما جعل العيش في المخيم ممكناً أكثر من قبل.
ممنوع المرور
تغير خلال الأربع سنوات الكثير من ملامح حي مخيم اليرموك، الذي كان يضج بالحياة وكانت حاراته لا تعرف النوم وخاصة في الأعياد، لكن وضع الاقتتال الدائر فرض إحداثيات جديدة وطرق للولوج الى حارات المخيم، فهنالك شوارع عليك أن تحبس أنفاسك وأنت تقطعها، وقد تتفاجأ بحارة قد سدت بساتر ترابي أو تم تسكيرها بأنقاض وبعض الستائر والسجاد، وهناك حارات حرم المتقاتلون على الناس الدخول اليها ولا أحد من المدنيين يجرء على الاقتراب فالقنص سيكون نصيبك.
تخطأ الرصاصة الأولى كتف فاتن، فتحاول التقدم لكن الرصاصة الثانية توقفها في مكانها بعد أن استقرت في ساقها. تقول فاتن :لم أكن أريد سوى الاطمئنان على منزلنا دخلت قبل يوم الى المخيم رفض عمي السماح لي بزيارة منزلنا خوفا علي، فهو يقع ضمن مناطق منعت جبهة النصرة الاقتراب منها (بعد حارة محكمة اليرموك) بمئتي متر، حيث تم تغطية مداخل الحارات بشوادر كبيرة كي لا ترى ما يدور خلفها والدخول إلى تلك الحارات لعناصر الجبهة فقط، وعندما حاولت الدخول كان القنص نصيبي.
الخروج الاخير
تعبت سلوى من الدخول والخروج إلى المخيم، لم يخرج ابنها وجده وعمته من منزلهم في مخيم اليرموك. الولد لم يتمكن من الالتحاق بجامعته بات يخشى الملاحقة الأمنية لبقائه داخل المخيم وعمله مع لجان الإغاثة. تقول سلوى: حاولت مع ابني لتقديم طلب تسوية للوضع، لكنه رفض مع أن أصدقائه خرجوا مع بداية دخول داعش إلى المخيم، لكن ابني وجده لم يتمكنا من الخروج بسبب الوضع الصحي للج،د واليوم أخشى أن يتم ترحيل ابني مع الذين سيخرجون إلى إدلب أو الرقة ولا أتمكن بعده من رؤيته.
جرت محاولات عدة لإجلاء عناصر داعش عن مخيم اليرموك والقدم والحجر الأسود إلى الرقة أو ادلب، لكن تلك المحاولات باءت بالفشل في اللحظات الأخيرة من الاتفاق.
سيريا ديلي نيوز
2016-08-09 19:52:07