على امتداد السنوات المنصرمة لم يوفّر «تجار الحروب» أيّ قطاع حيوي في سوريا. وإذا كانت الأضواء قد سُلطت على بعض الملفات مثل النفط والآثار، فإنّ ملفات أخرى أكثر خطورة لم تنل نصيبَها بعد، مثل الأدوية، والقطن، والقمح... ويبدو ملف
القمح واحداً من أكثر الملفات التي تفوحُ منها الروائح المشبوهة
«لا نيّة حكومية لزيادة سعر الخبز» هذا ما أكّده معاون وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك جمال الدين شعيب لصحيفة «الثورة» الرسمية قبل أيام.
لكن؛ إلى أي حد يمكن الركون إلى التأكيدات الحكومية في ما يتعلق بالقمح والخبز على وجه الخصوص؟ خلال شهري نيسان وأيار من العام الماضي أدلى عدد من المسؤولين بتصريحات متتالية مفادها عدم وجود حاجة لاستيراد القمح، وما هي إلا أشهر حتى أعلنت الحكومة عن «استدراج عروض أسعار» بهدف استيراد 200 ألف طن. وإذا كانَ «التخبّط الحكومي» في ظل الأزمة المستعرة سبباً ظاهريّاً لهذا التناقض، لكنّ معطيات كثيرة تؤكّد أن «وراء الأكمة ما وراءها».
أزمة قمح في الأفق؟
المعلومات المتطابقة التي حصلت عليها «الأخبار» من مصادر عدة تشي بأنّ الشارع السوري ربما كان على موعد مع أزمة قمح، عنوانها العريض عدم وصول أقماح الحسكة إلى بقية المحافظات. ما يجعل اللجوء إلى الاستيراد حلّاً وحيداً لدى الحكومة، وهو حل مكلف بطبيعة الحال. وحتى إذا أثبتت التصريحات الحكوميّة فعاليتها ولم يؤدّ إلى رفع سعر الخبز فهو كفيل بتسرّب مبالغ من القَطع الأجنبي خارج بلد يعاني نزفاً مستمراً على هذا الصعيد. هذه المعطيات ليست سوى «أهون الشرور» التي ينطوي عليها «ملف القمح». الشيطان يسكن في تفاصيل أخرى.
تتعلّق الحكاية بشكل أساسي بـ«حربٍ خفيّة» حول الشركة التي اتّفقت معها الحكومة على نقل أقماح الحسكة إلى بقيّة المحافظات («المهيمن للنقل والمقاولات» وهي جزء من «مجموعة أمان التجارية»). تكشف معلومات «الأخبار» عن أن «الإدارة الذّاتية» في الحسكة (الأكراد) قد اتخذت قراراً بعدم التعامل مع الشركة المذكورة و«عدم السماح لها بنقل أي سلعة من الحسكة إلى خارجها». تؤكّد المصادر أنّ «هذا لا يعني منع وصول القمح إلى بقيّة المحافظات، بل هو قرارٌ يرتبطٌ بالشركة الناقلة، ويمكن حل الموضوع ببساطة إذا جرى استبدالها بناقل آخر». ووفقاً للمصادر، فإنّ الأكراد اقترحوا أن يتولّوا هذه المهمّة خاصة أنّ «قسماً من الطّريق يقع تحت سيطرتهم». تشير المعطيات إلى أنّ الحكومة لن تقبل هذا الاقتراح لأسباب متداخلة منها «سياسي» يتعلّق بـ«عدم الرضوخ» خاصة في ظل المحاذير التي تشوب علاقة الدولة السورية بالأكراد. ومنها ما هو «أعمق» ويرتبطُ بـ«قوة الشركة الناقلة، وعلاقاتها، ما ظهر منها وما خفي». ولا تستبعد مصادر «الأخبار» أن تذهب «الإدارة الذاتية» نحو التصعيد في هذا الملف، عبر التلويح بـ«تصدير قمح الحسكة إلى إقليم كردستان العراق».
«القطبة المخفيّة»؟
تتحفّظ المصادر عن الخوض في أسباب «الفيتو الكردي» بشأن الشركة الناقلة، وتؤكّد في الوقت نفسه أنه «قطعي». كانت «المهيمن» قد تعاقدت مع «المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب» بوصفها ناقلاً للقمح وضامناً له (ما يعني حمايته أثناء النقل) بعد موافقة رئاسة الوزراء على عرض قدّمته الشركة. تضمن العقد قيام الشركة بنقل القمح من مناطق خارج سيطرة الدولة السورية: ريف حلب وإدلب والرقة ودير الزور، إلى مناطق سيطرتها. وبسعر 61000 ليرة للطن إضافة إلى أجور نقل تبلغ 28000 ليرة للطن إلى دمشق و26000 ليرة للطن إلى كل من حلب والسلمية وحمص وطرطوس واللاذقية.
كما تعاقدت الشركة على نقل كميات من القمح المخزّن في الحسكة (من محصول عام 2014). جرى شحن 243046 طناً، وصل منها 174878 طناً (بنقص مقداره 68168 طناً). توافقت الجهات الحكوميّة والشركة الناقلة على حل مسألة النقص عبر تغريم الشركة بجزء، والموافقة على تعويض الجزء الآخر عن طريق توريد قمح مستورد. يتّضح من الأرقام السابقة أن حجم النقص يفوق ربع الكمية التي جرى شحنها من الحسكة، وهو حجم أكبر من أن يُبرر بـ«هدر» عادي. يقودنا البحث إلى دهاليز طويلة مليئة بتفاصيل ومفاجآت يرتبطُ معظمها بالطريق الذي سلكه القمح في شباط 2015 من الحسكة إلى بقيّة المحافظات.
المحطّة الأبرز للقمح المنقول كانت في صوامع الرقّة الخاضعة لتنظيم «داعش الإرهابي». كانت تلك الصوامع مسرحاً لعمليّة أشبه بما تعرضه الأفلام الهوليوديّة حيث جرى إفراغ كامل حمولة الشاحنات، لتُستبدَل بكمية مساوية (تقريباً) من حيث الوزن لكنها تختلف اختلافاً جذريّاً» من حيث النوع. وفيما كانت الحمولة الأصليّة من صنف يُعد فاخراً، حلّ محلّها صنفٌ سيئ ومخلوط بنسبة كبيرة من أعلاف القمح كانت الشركة قد اشترته بأسعار متدنيّة من فائض المواسم السابقة (لدى تجّار أتراك على الأرجح)، ونقلته إلى الرقّة تمهيداً لاستبداله. حصل «تنظيم داعش الإرهابي» على حوالى 48000 طن من القمح (ما يعادل خمس الكمية تقريباً) مقابل تسهيله العمليّة.
شحنت الشركة قمح الحسكة إلى تركيّا عبر شاحنات تركيّة، بينما واصلت شاحناتها السوريّة الطريق من الرقّة نحو مناطق سيطرة الدولة محمّلةً بقمح رديء. في الأثناء، كانَ قرار «تمويني» يطبخ على نار سريعة وينصّ على «رفع نسبة استخراج القمح من 80% إلى 95 %»، ورُبط حينها بـ«توفير تكاليف الإنتاج». فيما ترجّح المعطيات المتوافرة أنّ السبب الجوهري وراء القرار مرتبطٌ بانخفاض جودة القمح المتوقّعة حينها. سريعاً توالت التصريحات «التموينيّة» المبرّرة، بدءاً بإرجاع السبب في تغير جودة الرغيف إلى «نوعية الخميرة»، وليس انتهاء بتعداد مزايا الرغيف الجديد وفوائده الصحيّة!
إشارات استفهام بالجملة
التفاصيل السابقة فيض من غيض إشارات الاستفهام المرتبطة بملف القمح السوري. إشارات يدور بعضها حول الحرائق المتكرّرة التي تطاول بيادر القمح في مناطق سيطرة الدولة. علاوة على أخرى تصب معظمها في خانة الشركة الناقلة ذاتها، التي تعاقدت أيضاً على نقل مئات الآلاف من أطنان القمح لم يصل معظمها (وتحديداً الكميات الخاصة بمحافظة حلب) من دون أن يتّضح مصيرها. المفارقة الأبرز أنّ الشركة فازت في تشرين الأول الماضي بعقد توريد كمية 200 ألف طن من القمح الطري إلى سوريا (بالقطع الأجنبي وبسعر 191 يورو للطن). وكانت صحيفة «الوطن» السورية قد تناولت موضوع المناقصة المذكورة في العدد 2262 الصادر بتاريخ 2 تشرين الثاني 2015. بعدها بأسبوع نشرت الصحيفة ذاتها ردّاً مطوّلاً من «المؤسسة العامة لتجارة وتصنيع الحبوب» مع تعقيب للمحرر أكد أنّ «للحديث بقيّة». لكن الملف طوي ولم تعد إليه الصحيفة حتى اليوم.
المصدر: صحيفة "الأخبار" اللبنانية
سيريا ديلي نيوز
2016-05-24 08:58:09