إن التحدث عن السكان باعتبارهم مجرد أعداد فحسب، من شأنه تجاهل قضية هامة، وهي أن الناس أنفسهم هم أيضاً مورد إبداعي، وهذه القدرة الإبداعية ذخر ومصدر قوة على المجتمع السوري أن يحرص عليها. ومن أجل رعاية هذا المصدر ودعمه، ينبغي تحسين الحياة المادية للناس، بتأمين تغذية أفضل ورعاية صحية وغير ذلك، وينبغي تقديم تعليم لهم يساعدهم على أن يصبحوا أكثر قدرة وإبداعاً ومهارة وإنتاجاً وأفضل استعداد على معالجة المشاكل اليومية.

إن التوصل إلى هذا كان يجري عبر الانخراط في عمليات التنمية الدائمة والمساهمة فيها. إن أكبر امتحان يواجه سورية والشعب السوري هو كيفية استخدام التكنولوجيات الحديثة ووسائل الاتصال في تحرير السوريين من عبودية الفقر والمرض والحرب الضارية التي تجري على أرض الوطن، والتي فُرضت على البلاد.

تتطلب إذاً تنمية الموارد البشرية المعرفة والمهارات اللازمة لمساعدة الناس على تحسين أدائم الاقتصادي، وتستدعي التنمية المستدامة تغييرات في القيم والاتجاهات إزاء البيئة والتنمية.

لقد كان توسيع التعليم والاستثمار فيه وزيادة الالتحاق بالمدارس من خلال طرح إلزامية التعليم الابتدائي ثم المتوسط فيما بعد خلال العقود الماضية، علامات على التقدم في هذا الاتجاه. لقد اتسعت فرص التعليم في الفترة السابقة، وأتيحت الفرص لجميع الأولاد تقريباً للحصول على نوع من التعليم الابتدائي، رغم أن معدل التحاق البنات بالمدارس لا يزال أقل مما هو متاح للأولاد في سن الدراسة.. ومع كل ذلك التطور الذي جرى، فإن التعليم في سورية مازال متخلفاً بصفة عامة بالمقارنة مع الدول المتطورة، ويدل على ذلك مقدار تدني ميزانية الدولة المخصصة للتعليم بشقيه الجامعي وما قبل الجامعي، إذ لم يتجاوز حسب المصادر الإحصائية السورية لعام 2015 مقدار 2% من إجمالي اعتمادات الميزانية.

ومن مظاهر هذا التخلف أيضاً بقاء الأمية متفشية في البلاد بنسب كبيرة وصلت إلى أكثر من 31% حسب إحصائيات المكتب المركزي للإحصاء عام ،2012 وهذا الأمر يعكس تسرباً واسعاً من المدارس وعدم قدرة السلطات على ضبط التعليم الإلزامي المقر بصورة دقيقة. إن السمة الأساسية التي تميز بها التعليم في سورية في العقود الماضية هي سمة التطور الأفقي.

لقد خرّجت المدارس والجامعات السورية كادرات لا يمكن لها أن تلبي متطلبات السوق ولا متطلبات التنمية المستدامة (نسبة البطالة في سورية وخصوصاً بين الشباب بلغت في عام 2012 نحو 39% حسب إحصائيات المكتب المركزي للإحصاء عام 2012).

إن التقدم التكنولوجي العاصف في العالم أصبح يقتضي إعارة الاهتمام الكبير للتطور التعليمي في البلاد بصورة شاقولية، رغم أن التعليم الأفقي لم تنته مهامه إلى الآن. إن التنمية المستدامة إذاً تتطلب تصحيح هذه الاتجاهات.. ينبغي أن لا تكون المهمة الرئيسية لسياسات التعليم جعل تعلم القراءة والكتابة تعلماً شاملاً، بل سد الفجوات المتعلقة بمستوى التعليم كي يتناسب مع التطور التكنولوجي، ومع ضرورة تحسن الإنتاجية والموارد الفردية، وهذا يتطلب توسيع مستلزمات التعليم لتحسين المهارات الضرورية لمتابعة التنمية المستدامة. كذلك ينبغي أن تحتل التربية البيئية مكانتها في المناهج المدرسية من خلال ربط التعليم بالبيئة، وذلك لرفع الإحساس بالمسؤولية تجاه مكانة البيئة، ولتعليم الطلبة كيفية رصد هذه البيئة وحمايتها.. ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف من دون اجتذاب الطلبة إلى حركة حماية البيئة.. ويشكل تدريب المعلمين فرصة حاسمة لإحداث مثل هذا التأثير، لأن مواقف المعلمين ستكون المدخل المناسب نحو زيادة فهم البيئة وعلاقتها بالتنمية. ولابد من الإشارة هنا أيضاً إلى ضرورة تبني مفهوم التكامل بين الريف والمدينة في مشاريع التخطيط الإسكاني والإنمائي بأبعاده كافة، وذلك ضمن إطار الخطط الإنمائية الوطنية الشاملة، كما يجب ملاحظة تدني الإنفاق على البحث والتطوير، ويدل على ذلك مقدار تدني ميزانية الدولة المخصصة للتعليم بصورة عامة كما مرّ معنا.

إن منظومة القدرات البشرية والتقنية ضمن إطار نظام بيئي متوازن في أي بلد، ما هي إلا انعكاس لمجمل النظام الاجتماعي والاقتصادي والبيئي السائد في هذا البلد، ولذا فإن تغييراً عميقاً في أداء هذه المنظومة ونتاجها يتطلب تفاعلاً واسع المدى في السياق الاجتماعي والاقتصادي والبيئي، وفي السياسات والمؤسسات المجتمعية.. وإن كل ذلك يغذي فاعلية القدرات البشرية والتقنية ويتغذى منه، هذا إذا ما أرادت سورية تحقيق تنمية بيئية شاملة.

والخلاصة.. ينبغي النظر إلى التنمية المستدامة على أنها قضية أولى في أي سياسة اقتصادية، وأن هناك فرصاً واسعة لتحسين نوعية البيئة والتنمية البشرية، من خلال إصلاح السياسات العامة والإصلاح المؤسساتي والتطوير التكنولوجي، والتكامل بين السياسات السكانية والبيئية والاقتصادية والاجتماعية.. وفي النهاية يمكن تحديد بعض أهم عوامل نجاح أي سياسة متكاملة للبيئة والتنمية والسكان وفق مايلي:

 ضرورة توافر إطار عمل واضح وجيد لاختيار البحوث العلمية المتكاملة في مسائل السكان والتنمية المتوازنة بيئياً، وإجرائها، إلى جانب توافر آليات تنفيذ فعالة لنتائج البحوث.

 علاقة تفاعل جيدة مع صانعي القرار، سواء من خلال آليات رسمية أو مناقشات غير رسمية.

 الاستثمار الكثيف في الثروة البشرية من خلال الارتقاء بنوعية التربية والتعليم، ولتحقيق نجاح سياسات التكامل هذه، ينبغي معالجة أو مجابهة المعوقات التالية:

- نقص التمويل.

- تسييس الاقتصاد.

- محدودية مجموعات أو فرق الباحثين.

- عدم كفاءة المؤسسات التي يمكن أن تشرف على برامج التكامل.


جريدة النور

سيريا ديلي نيوز


التعليقات