سيريا ديلي نيوز- د.نهلة عيسى
كالعادة أيقظني صوت القصف بعد الفجر، إنها مدافع الهاون، أرهفت السمع لأتبيّن مصدرها بعد تدريب أكثر من أربعة أعوام على الإنصات لأصوات الانفجارات وتقدير مواقعها بدقّة تزداد يوماً بعد الآخر، لكن الهاون كان ينطلق من كل الاتجاهات، فالتبست مصادره عَليَّ، ولم يكن هناك بديل للحدس، سوى اللجوء إلى نشرات الأخبار على شاشات التلفاز، التي يشكل موتنا اليومي، طبقها الفاخر الرئيسي.
كانت الأخبار كلها (مكتوبة ومنطوقة ومرئية)، تتحدث عن تشكيل تحالف عربي إسلامي بقيادة السعودية لمحاربة الإرهاب، ولا أعرف حينها إن كنت أنا من انفجرت ضحكاً، أم انفجرت قذيفة، مع طنين مرير في أُذني كرجع الصدى، ما يزال يرافقني حتى اليوم كإشارة تعجب دامية، محمولاً عليه صوت الشاعر المصري “أمل دنقل” يقول: لم يِصح قاتلي بي: “انتبه”، كان يمشي معي، ثم صافحني، لكنه في الغصون اختبأ!
السعودية وقطر وتركيا والصومال وبنين…الخ، يحاربون الإرهاب!؟ حقاً قاربت القيامة أن تقوم، وباتت الكرة الأرضية قفصاً، وعما قريب سوف تفترسنا السحب السوداء، ليسقط فوقنا نحن الذين لم نُقتل في الحرب بعد، ليل جديد حاملاً المزيد من الكوابيس والسخرية، ودليل طريق للوصول إلى مدينة من!؟
ومن..هنا؟ مرتبطة بكل المرئيات التي خلّفناها وراءنا على مدار خمس سنوات، حيث بيوتنا خراب، وقلوبنا أكفان، ونزهاتنا مجالس عزاء، وجثثنا ملقية في الشوارع، لا يجرؤ أحد على حملها إلى المستشفى، خوفاً من صاروخ أو هاون جديد، يجعل المسعف شهيداً، برعاية “سامية” من أصحاب الجلالة والفخامة سكان مدينة: من!؟
من؟ تستفزني، أنا التي أرهقني التجوال في دروب الافتراض، والحزن من ترهلات النهار، والبكاء على الأسواق تتحدى خطواتي وسط الدمار، والمجد يقترن بالموت، والشعر عطلة رسمية، واللغة تابوت واسع نودع فيه من نحب، وقصص عناوينها سكاكين جديدة، والنهايات حزينة، ويقين طفلة (كنتها يوماً) يتهشم على مداخل مدينة “من” بأن الحلم تسكنه خراف وملائكة صغار.
من؟ تقتلني، لأن الجنون أيقظني منذ ما يقارب الخمس سنوات على صوت سائق الحافلة وبائعي الملابس والخضار وتجّار الأوطان، وهم يبرّرون الأسعار بالوقود الأسود والحرب، كما أيقظني على خطواتي وهي تَقيس الحياة، بالمسافة بين الشارع والبيت، وتزهو بالنجاة، وتتساءل في عقل محض: هل الحياة حياة!؟
من؟ مدينةٌ الآن، رغم أن المكان هو المكان، والشخوص واللاعبين والمتلاعبين، ذات الوجوه، وستة أيام أو أقل تفصل بين زمن ادعاء الرغبة والرسولية للوصول إلى سلام، وبين زمن الوصول إلى مدينة من؟ حيث كلب القاتل ينحني ويدّعي البكاء على القتيل، وأصداء المدافع قادمة من منطقة الفنادق في مدينة “من”، تشير إلينا بحقيقة ما يدور!
وسائل الإعلام الغربية بحسّها المهني البراغماتي بدأت المزاد، ليس فقط عبر نقدها للتخبط الواضح في السياسات الغربية عموماً والسياسة الأمريكية خصوصاً تجاه محاربة الإرهاب، ثم رفع الرئيسان الأمريكي ونظيره الفرنسي سقف المزاد عالياً، عبر إعلانهما ضرورة التدخل البرّي عبر حلفائهم في المنطقة لمحاربة الإرهاب، مع تصعيد كلامي غير مسبوق ضد روسيا واتهامات بالتهور واللامسؤولية، وغير ذلك من قصص وحواديت، تنتمي في حقيقتها إلى تاريخ روايات الجيب، وحكايات الجدّات قبل النوم، عن الأميرة النائمة وقبلة الحياة والأقزام السبعة، الذين تعدّوا في تحالف الأمس الثلاثين، ولا نعرف من فيهم سيجد الأمير، ولامن سيكون الأمير، لأن نوم الأميرة متعمّد، وغاية ومقصد لتجار مدينة “من”؟ وهو إعلان سَرّع في تدحرج كرة ثلج المواقف وتناميها على كل الجبهات العربية والإقليمية، على وقع هديرٍ مفاجئ من التصريحات المدروسة المفضوحة في العالمين العربي والغربي وردهات الأمم المتحدة، التي على ما يبدو أنها مكلّفة الآن بلعب لعبة الثلاث ورقات لجرّ ملف مكافحة الإرهاب إلى سراديب مجلس الأمن، ومن ثم استيلاد قرار دولي بتدخل برّي في سورية والعراق، يسمح لسكان مدينة “من” تحت بند محاربة الإرهاب، بحماية الإرهاب، واستكمال مهمّتهم “النبيلة” في ملاحقة حتى خيالاتنا، لكن بقنابل ذكية وذات ميول إنسانية، وربما يسقط علينا مع القنابل من فرط إنسانيتها، شاش لتضميد الجروح ومناديل لمسح الدموع، وملابس سوداء لزوم تشييع الوطن “بأناقة” إلى مثواه الأخير كما يحلمون و يخططون!
لذلك، ولأن بلاغة الإحياء بالإيحاء، ألا تتفقون معي أن تحالف اليوم هو مجرّد تاريخٍ نجترّه، ويصدّر إلينا (بالة)، نرتديها بديلاً عن تاريخ لم نستطع حتى اليوم حياكته وفق أذواقنا ورغباتنا، لأننا في سورية كلما بدأنا الحياكة، ظهرت لنا ذقون ولحى تحرّم علينا العيش خارج الصورة الممسوخة لسكان مدينة “من”، أي مجرّد قتلة، وفي أحسن الأحوال مجرّد رعاع أو صبيان، لكنهم يتناسون أنه ليس لمدينة “من” محطات إقلاع في بلدنا، وأن جوازات سفرنا مدوّن عليها، كل دول العالم ما عدا إسرائيل و”من”.
سيريا ديلي نيوز
2015-12-18 09:33:24