هوت الحياة المعيشية إلى السحيق، لم يعد ثمة قاع يحتويها، ولا توجد إمكانية للبحث عن قاع آخر، فالتردي الهائل في مستوى الدخول، والغلاء المنفلت من كل عقال، وغياب الإجراءات الحكومية الممكنة، دفعت إلى فرز طبقي جديد، حوّل السوريين إلى فقراء بامتياز، وإلى شريحة اجتماعية عنوانها الفقر والعوز. فقر مدقع تجاوزت نسبه، وفقا لإحصاءات دولية، 30%، منذ عامين، بطالة هائلة تخطّت حدود 65%، حسب تقديرات الخبراء، على اعتبار أن القطاع العام يشغل 2,5 مليون عامل من أصل قوة عمل تزيد على 5 ملايين دون النظر إلى المهاجرين، ارتفاعات غير مسبوقة في الرقم القياسي لأسعار المستهلك إذ بلغ في أيار الماضي 430%، ومعدلات مخيفة للتضخم مرتفعاً إلى 39% بين عامي 2014و 2015، إذ وصل إلى 308% في أيار 2014، وفقاً للمكتب المركزي للإحصاء، فيما تقديرات جمعية حماية المستهلك وعدد من الخبراء حول ما تحتاجه الأسرة شهرياً للإنفاق على مستلزماتها الرئيسية يزيد عن 150 ألف ليرة، في وقت لايتوفر لدى الغالبية الساحقة من هذه الأسر ثلث هذا الرقم.
هذا المشهد المؤلم، لا يمكن رمي أسبابه إلى الحرب الطاحنة في البلاد فقط، فهذا هو الجزء المغمور من جبل الجليد العائم، أو السبب الرئيس الذي جعل من حال المواطن السوري سيئاً للغاية، ويرضخ لفقر مدقع، وعوز مثير للشفقة. وبرغم قساوة الحرب في سورية ومرارتها، إلا أن الإجراءات الحكومية، لعبت دوراً أكبر في تعميق الفجوة السحيقة أساساً في المستوى المعيشي، ومنها على سبيل المثال، ذهابها قدماً إلى المطارح المحظورة، والتي تمس الشرائح المعدمة والمعوزة، إذ زادت أسعار المواد الأساسية، كالخبز والمازوت والأدوية والغاز المنزلي والكهرباء والماء. هذه مفاجأة غير سارة، فجرتها الحكومة، ضاربة عرض الحائط بكل طمأناتها السابقة، ووعودها مع كل جلسة لمجلس الوزراء، بأنها تسعى لتحسين المستوى المعيشي، وتعزيز مقومات صمود المواطن. فما قدمته الحكومة يثبت يقيناً، أن الحكومة لا تنظر إلى قضايا المواطن المعيشية باهتمام، إذ يكفي أنها تزيد أسعار المواد الأساسية، لتعبّر عن موقفها المحابي لما تبقى من الطبقة الغنية، والمناهض للغالبية العظمى، والسواد الأعظم من المواطنين الذين لم تعد خطوط الفقر تغطيهم، وعجزت هذه الخطوط ورسومها البيانية عن اكتناف هذه الشرائح التي شكلت قاعاً جديداً، من الصعب انتشالهم منه. وإذا كان العاملون بأجر، اقتنعوا تماماً، أن الحكومة نهبت كل ما تبقى من الزيادة الأخيرة على رواتبهم، بإجراءاتها المثيرة للدهشة، فما هو حال الآخرين الذين لا دخول ثابتة لديهم؟ وهل هذا هو الطريق الوحيد الذي يمكن اتباعه للملمة ما تبقى من أوراق مبعثرة في حيوات الناس المعيشية؟ ومن طالب بتحسين المستوى المعيشي بهذا الشكل؟
حتماً، يحتاج المستوى المعيشي للناس إلى معالجة جدية، وتقديم ما يناسب من تعويضات تردم الفجوة العميقة بين الدخول والإنفاق، لكن من يزعم أنه لا يوجد طرق غير تلك المتعلقة بزيادة رواتب ومن ثم رفع الأسعار وزيادة الضرائب والرسوم، نؤكد له أن هذا فشل ذريع وغير مقبول. لا يمكن اعتبار أن مبلغ الزيادة على كل دخل، يعالج الفجوة المتسعة بين الدخول والاحتياجات، رغم أن لهذه الزيادة أثراً معنوياً ونفسياً لدى الناس، وخلقت حالة من التمسك بالبلاد بدل الهجرة، والرضا بالحالة المُتعِّبة على أمل أن المستقبل أفضل، والاكتفاء بالتفاؤل بدل هذا التشاؤم الذي خلقته الإجراءات الحكومية.
إن التعاطي الحكومي السلبي مع القضايا المعيشية، وردود فعل الوزراء المعنيين إزاء الإجراءات الناقصة المتخذة، تعبر عن نهج حكومي بالدرجة الأولى، ورغبة مستترة في المحافظة على مستوى معيشي غير لائق لمواطنينا الذين، بصدق، يستحقون الأفضل. لا يوجد مسؤول كبير، أعلن عن اكتفائه بالحد الأدنى من المطلوب لحياة أسرته المعيشية، فأساطيل السيارات الحكومية مازالت كما هي، والإنفاق على حاله، ومظاهر البذخ والإسراف على حساب أموال الشعب لكبار المسؤولين تتزايد، فلماذا عند الاقتراب من حيوات الناس المعيشية وضرورة تحسينها تتخذ الحكومة الإجراء المعاكس؟
لن ننتظر من حكومتنا العمل أكثر من قدرتها، ولن ننتظر منها أن تشعر بما تعانيه الأسر من غياب للخدمات الأساسية، وحالة العوز، ولن نطلب منها أن تعالج المشكلات المعقدة المعيشية والاقتصادية بما يزيد من الأعباء على الناس، لكننا ندعوها ألا تمارس الشطارة والفهلوية علينا، وألا تنظر إلى القضايا المعيشية من برجها العاجي، وفي الوقت عينه نقول لها: كفى!
المصدر : جريدة النور
سيريا ديلي نيوز
2015-10-26 09:03:41