لا تختلف الآراء الحكومية وآراء الكثير من القوى السياسية، والرأي العام السوري في ضرورة تطبيق برامج الإصلاح الاقتصادي والمالي والإداري.

فحالة الاقتصاد أصبحت بحاجة قصوى إلى المعالجة والتغيير. ولقد كانت الإجراءات والسياسات التي اتبعت سابقاً غير ناجحة وأدت إلى نتائج سلبية أهمها تراجع الاقتصاد الحقيقي وتوقف وتآكل التنمية، وتآكل الأجور، وانخفاض الدخول، وازدياد معدل البطالة والبطالة المقنعة، وخسارة معظم مؤسسات القطاع الحكومي. وجاءت الأزمة فتركت آثاراً اقتصادية كارثية أدت إلى تراجع كبير في معظم المؤشرات الاقتصادية، سواء في حجم الإنتاج أو الناتج المحلي أو معدلات النمو أو الصادرات، وتزايد الواردات، وارتفاع كبير في معدلات البطالة، وازدياد عدد الفقراء وتزايد التفاوت الاجتماعي، والهجرة الواسعة للقوى المنتجة السورية إلى الخارج للبحث عن نوافذ جديدة لها من أجل العيش وغيره.

من كل ذلك إذاً، تكاد تجمع الآراء على أمرين أساسيين. الأمر الأول الإجراءات التصحيحية الهيكلية التي تؤدي إلى تنمية الموارد واستغلالها على نحو كفؤ وسريع، والأمر الثاني رسم استراتيجية مستقبلية للاقتصاد السوري تؤدي إلى إعادة النمو للاقتصاد السوري، وتحقيق التنمية المستدامة في البلاد.

على أن صياغة السياسات والإجراءات المناسبة لمعالجة القضايا وتطبيقها يكشف عن عدد من الآراء والمواقف الاقتصادية والسياسية الوطنية المتباينة. ولعل أبرز محاور الاختلاف هو التقييم السياسي للآثار السلبية للسياسات الاقتصادية والمالية والنقدية الكلية التي تشكل رأس الحربة في أي برامج للإصلاح الاقتصادي والمالي.

تجمع الآراء على أن تخفيض العجز المالي في الموازنة الحكومية العامة، بتخفيض الإنفاق الحكومي من جهة، وزيادة الإيرادات العامة من ناحية ثانية هو الأساس في أي إصلاح اقتصادي، إلا أن الخلافات تتركز في تجسيد ذلك في الممارسة العملية.

سنتوسع في نقد ذلك الاتجاه الذي يقول بإلغاء الدعم المقدم لتوفير عدد من السلع الغذائية الأساسية وبعض مستلزمات القطاع الزراعي على سبيل المثال، وكذلك منتجات الطاقة (الكهرباء والمنتجات النفطية)، والمياه لاحتياجات المواطنين المدنية، بأسعار مخفضة، وكذلك تقليص نشاط مشاريع القطاع الحكومي، وإلغاء الدعم المالي الممنوح لها، وتطبيق برنامج متكامل لخصخصتها، والسعي إلى زيادة الإعفاءات الضريبية، وتحسين جباية الضرائب، وإنهاء البيروقراطية والحلقات الإدارية الزائدة في التعامل مع الشؤون الاقتصادية على المستويات كافة، وتنفيذ السياسات النقدية الرامية للسيطرة على التضخم، بتخفيض العرض النقدي والامتناع عن تمويل العجز من البنوك المركزية، والسعي لتأمين الاستقرار في أسعار الصرف. إن تحقيق ذلك كله هو السبيل للإصلاحات الاقتصادية حسب رأي هذا الفريق. لأن النتائج المتوقعة لهذه السياسات حسب اعتقاده ستؤدي إلى تخفيض العجز المالي في الموازنة الحكومية العامة باعتباره مصدراً أساسياً في الاختلالات المالية الكلية، وإلى تحقيق إصلاحات هيكلية تساعد في تفعيل عوامل اقتصاد السوق.

ويرى أنصار هذا الرأي أن التحليل الموضوعي لمشكلة الاختلالات يؤكد أهمية تطبيق السياسات التي يشترطها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لدعم المجهود في تنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي والمالي، وذلك عن طريق تقديم القروض والدعم المباشر للمساعدة في معالجة مشكلة قلة الموجودات من العملة الصعبة وتقليص العجز في الميزان التجاري وفي ميزانيات المدفوعات، ولتأمين الاستقرار في اسعار الصرف للعملة الوطنية. إن تطبيق هذه السياسات ذات الآثار الانكماشية حسب هذا الرأي يؤدي إلى تجنيب البلاد أزمات اقتصادية ومالية أعقد إذا ما جرى تجاهل أسبابها الرئيسة. وبعبارة أخرى، إن معالجة الاختلالات الاقتصادية والمالية الكلية ضروري لوضع عمليات اتخاذ القرارات الاستثمارية والإنتاجية والاستهلاكية لكل أطراف العمل الاقتصادي في إطار أو مناخ ملائم وظروف مستقرة نسبياً تسمح بأن تكون هذه القرارات أكثر كفاءة في التعبير عن قوى السوق.

لكن السؤال الذي يبقى مثاراً هو: كيف يمكن أن تنعكس نتائج هذه السياسات الانكماشية في تأمين متطلبات النمو الاقتصادي والتنمية على المدى البعيد؟ وهل ستؤدي سياسات الإصلاح الاقتصادي التي ينصح بها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إلى النمو والتنمية، في إطار دعوتهما للاندماج الاقتصادي في السوق العالمية من خلال التحرير الكامل للأنشطة الاقتصادية الوطنية من أية قيود إدارية وحصر وظيفة الحكومة في تنظيم النشاط الاقتصادي على المستوى الكلي، بينما تترك الفعاليات الاقتصادية تشتغل وفقاً لقوانين السوق، وآلية الأسعار وحرية المنافسة، والمضي في تحرير التجارة الخارجية والتدفقات الرأسمالية من وإلى الخارج؟ للإجابة عن هذا التساؤل يجدر أولاً البدء في تفسير التهافت لبعض اقتصاديي البلاد للحصول على دعم صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من أجل إعادة الإعمار، ويلقى ذلك دعماً من بعض الأوساط النافذة في السلطة السياسية. إن هذا القبول ناشئ عن مركز المساومة الاقتصادي والمالي الضعيف للحكومة تجاه إغراءات الحلول ولو الآنية للمشكلات التي تواجهها.

إن من المناسب الإشارة هنا إلى الظروف السياسية التي مرت بها البلاد منذ بداية السبعينيات، والتي كانت انعكاساً لعوامل الصراع الاقتصادي السياسي الداخلي وارتباطاته الخارجية بالقوى الاقتصادية السياسية الدولية التي كانت هي الأخرى انعكاساً للحرب الباردة التي كانت قائمة آنذاك. ففي أوائل الثمانينيات، حين تزايدت مؤشرات ضعف الاشتراكية وتدهورها، كانت قد بدأت سياسات الإصلاح الاقتصادي في البلاد معبرة عن توجهات جديدة. ثم كان الحسم النهائي للحرب الباردة في بداية التسعينيات عندما  انهار النظام الاشتراكي وأعلن عن انتصار الرأسمالية، وبذلك أصبحت سيادة اقتصاد السوق، والسوق الرأسمالية، حقيقة موضوعية لا مفر من التعامل معها. وبدأت منذ ذلك الحين تتغير أطراف العمل الاقتصادي السياسي في البلاد.

وفي كل الأحوال، فإن تطبيق سياسات الإصلاح الاقتصادي في سورية والبلدان العربية وفقاً لنصائح المؤسسات المالية الدولية يفيد في استكمال مقومات السوق العالمية بما يساعد في تجاوز بعض مشاكل الأنظمة الرأسمالية المتقدمة. إن التنمية المستدامة لا يمكن أن تقوم دون تفعيل عوامل النمو الاقتصادي والتنمية الوطنية أولاً، حتى ولو كان هذا التفعيل مرافقاً لخطوات استكمال متطلبات اندماجها الاقتصادي في السوق الرأسمالية الدولية. أما الشرط المهم الذي يجب استيفاؤه لضمان تفعيل عوامل النمو والتطور الذاتية فهو تأمين التطابق بين السلطة السياسية وأهداف التنمية العامة.

وبعبارة أخرى لا بد من قيام مؤسسات الاقتصاد السياسي للتنمية على أسس ديمقراطية حقيقية وشاملة تتجاوز العمل في إطار ضيق من المصالح الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الفئوية. من هنا تبرز ضرورة إجراء التغييرات في عناصر القوى الاقتصادية السياسية وعلاقاتها ووسائلها في تشكيل الاقتصاد في البلاد لتتناسب مع متطلبات المساهمة في السوق العالمية.

إن السعي الظاهر للعيان، وبطريقة فجة أحياناً، لبعض المؤسسات المالية الدولية لفرض أدوار مباشرة لها في إطار الاقتصاد الوطني، وكأنها تريد المساهمة في تشكيل تفاصيل هذا الإطار، وتملي على المسؤولين ومتخذي القرارات سياساتها وإجراءاتها لتسيير النشاط الاقتصادي والسياسي في البلاد، إن هذا السعي سيغير تماماً من خصائص الاقتصاد السياسي للتنمية لتحل محلها خصائص الاقتصاد السياسي التابع للسوق الرأسمالية العالمية وليس المتكامل معها. وإذا كانت سورية بحاجة إلى الاستثمارات لزيادة النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية والتشغيل، ولإقامة مشاريع البنى الأساسية واستكمالها، فإن عليها إدراك حقيقة أن المشاكل التي تعانيها لا يمكن أن تعالج إلا من خلال تعبئة مواردها وادخاراتها لضخ استثمارات كبيرة لتوسيع طاقاتها الإنتاجية واستيعاب التكنولوجيا المتطورة، إضافة إلى تنفيذ مشاريع التنمية الاجتماعية العامة، أي لتنمية مواردها الاقتصادية والبشرية. إن مجرد التذكير بما أدت إليه السياسات الماضية  خرى أخريمن خلال موجات التضخم في الأسعار وما ترتب عليها من التهام للادخارات الفردية وإعادة توزيع الدخول والثروات بين المواطنين على نحو جذري وسيئ ومن دون وجود منطق اقتصادي أو اجتماعي أو مبرر سياسي، وتضاؤل مكانة الفئة الاجتماعية المتوسطة وتدهور دورها الاقتصادي، كفيل بتبرير الدعوة للتغيير في عناصر إدارة الاقتصاد والتنمية.

جريدة النور

سيريا ديلي نيوز


التعليقات