سيريا ديلي نيوز - الدكتور المهندس محمد غسَّان طيارة

تناولت جميع وسائل الإعلام في العالم الاتفاق الذي توصلت إليه الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن + ألمانيا مع إيران حول الملف النووي الإيراني. وقد انقسمت الآراء بين مؤيد وهي معْظم دول العالم, ومتخوف كالسعودية والرافض بوضوح وهو الدولة العبرية, والانتهازي كالدولة التركية. وتبين الصورة بأن المؤيدين يشكلون الأكثرية الساحقة. كما ظهرت تحليلات من سياسيين محترفين كما لو أن أنهار العسل ستجري في منطقة الشرق الأوسط, والبعض ينظر بأن إيران ستكون بقرة حلوب للشركات الأوربية والأميركية. ومن الصعب حصر التحليلات لكثرتها وتنوعها. ولم أجد تحليلاً واضحاً يُظْهر طريقة المفاوضات الأميركية وإدارتها, فبعد كل تقدم في المفاوضات يعيد المفاوض الأميركي الأمر إلى نقطة الصفر بهدف كسب نقاط عند متابعة المفاوضات. إن هذه الطريقة في المفاوضات تُدرَّس في الجامعات الأميركية تحت عنوان "إدارة المفاوضات". ولتوضيح هذه الفكرة أسمح لنفسي بالعودة إلى الحرب الأميركية على فيتنام الشمالية بهدف تقسيم الدولة إلى فيتنام شمالية وفيتنام جنوبية, فقد بدأت المفاوضات بين القيادة الفيتنامية الشمالية بمشاركة ثوار فيتنام الجنوبية وأمريكا في أيار 1968 في فرنسا / باريس. وخلال هذه المفاوضات شنت قوات فيتنام الشمالية هجوماً كاسحاً نحو الجنوب بتاريخ 30 آذار 1970 الذي جاء رداً على مناورات نيكسون التفاوضية, فبعد أن قرر نيكسون سحب جنوده من فيتنام شن هجوما جوياً شرساً على هانوي وهابيونغ بتاريخ 17 كانون الثاني 1972 فصبت طائرات بي 52 الأميركية نيرانها في قصف المدينتين لم تعرف الحرب الفيتنامية نظيراً لها, وفقدت أميركا 15 طائرة منها كما فقدت 93 ضابطاً من سلاح الطيران وخسرت فيتنام عشرات الآلاف من ثوارها. نلاحظ كيف غيرت واشنطن قرارها من التفاوض إلى شن غارة همجية بهدف العودة إلى الصفر وكسب نقاط على الوفد الفيتنامي المفاوض, ولكن قوة الثوار وردهم السريع وقدرة المفاوض الفيتنامي اجبرت نيكسون على الاعتراف بالحل السياسي كي يسحب جنوده تحت القصف المستمرة من ثوار فيتنام, فبتاريخ 23 كانون الثاني 1973 اعلن نيكسون انتهاء المفاوضات وخروج آخر جندي أمريكي في 29 آذار 1973. مقاربة التواريخ بين الهجوم وانتهاء المفاوضات تعْطي فكرة عن طريقة التفاوض, ويتضح بأن الهدف من شن الهجوم الشرس على هانوي كان للعودة إلى نقطة الصفر وكسب نقاط جديدة. إلا أن فشل الهجوم وشن الهجوم المضاد من قِبَل الثوار أعاد واشنطن إلى خطة الهروب من فيتنام. ومثال آخر عن مفاوضات سلمية ربحتها واشنطن مع اليابان بهدف نزع التراث الياباني وتأمين دخول المنتجات الغربية وخاصة في المظهر الخارجي, فقد بدأت واشنطن مفاوضاتها مع طوكيو منذ سنة 1950 بهدف قبول التجارة مع واشنطن وأوروبا كي تخفف من حدة خسارة تلك الدول في الميزان التجاري مع اليابان, وقد استمرت هذه المفاوضات حتى نهاية 1990, فنجحت واشنطن مع أوربا بإدخال منتجاتهم إلى السوق اليابانية. هذه المعلومات تابعتها في دورة للإدارة بجامعة جورج واشنطن في سنة 1978 وناقشت هذا الموضوع مع عدد من النواب اليابانيين خلال زياراتي المتكررة إلى اليابان ما بين سنة 1976و 1998. من هذا كله نستنتج صعوبة المفاوضات التي جرت بين واشنطن وإيران وخاصة بأنه كان لها حلفاء وزعت الأدوار معهما: فرنسا وبريطانيا. إن نجاح طهران في المفاوضات واضح بغض النظر من ربح أكثر من نتائج المفاوضات. لقد حدد بعض المعلقين والمحللين السياسيين نسبة النجاح لكل جانب كما حددوا عدم النجاح أيضاً, وبكل صدق أنني بريْ من مضاعفات الأرباح أو تعْظيم الخسائر, وبعبارة واحدة بسيطة فقد أصبحت إيران عضوا في نادي الدول النووية. ولتحديد أهداف واشنطن يجب التأكيد على أن واشنطن كانت تعْرف منذ البداية بأن برنامج طهران النووي كان سلمياً مائة بالمائة, ولهذا يمكن استنتاج بأن خسارة واشنطن لإيران بعد ثورتها الإسلامية كانت فادحة وخاصة أن طهران كانت الشرطي الأول في المنطقة وجميع دول المنطقة تصادقها ولا تعاديها وتخطب ودها وكان الشاه منفذاً أميناً لسياسة واشنطن في المنطقة. إن خسارة واشنطن لطهران أثر على سياساتها في المنطقة وخاصة أن القوات المسلحة الإيرانية كانت تحتل المرتبة الأولى في المنطقة, ونعرف أنها شجعت صدام حسين بشن حرب ضد تلك الثورة الوليدة وزودته مع بريطانيا بترسانة متقدمة من الأسلحة, وإن خسارة هذا الحرب جعل واشنطن تصبح صارمة مع عملائها قيادات تلك المنطقة من عربان الخليج فلم تسْمح لهم بأي نشاط سياسي خارج توجيهاتها. وحتى تتوضح الصورة لا بد من التعرُّف على قدرات إيران الاقتصادية, فمن زار إيران أو من قرأ عنها بعد الثورة الإسلامية فيها وخلال فترة العقوبات الاقتصادية, يعرف بأن إيران أصبحت قوة اقتصادية صاعدة حتى مع العقوبات الاقتصادية بقدرة أبنائها, فإيران دولة متقدمة في السياحة الدينية والتاريخية والمناخية ومتقدمة زراعياً وصناعياً وتجارتها متقدمة حتى في فترة العقوبات, وخير دليل على ذلك طلب اليابان السماح لها بعدم تطبيق العقوبات لشراء النفط من إيران وكذلك فعلت الهند....كما أن الصناعات العسكرية متقدمة على جميع دول العالم بعد الدول الخمسة دائمة العضوية وألمانيا أي ترتيبها رقم 7 في قدرات الصناعات الحربية لديها رغم شدة العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها, ومن الطبيعي إن يؤدي رفع العقوبات الاقتصادية عنها إلى دعمها ويزيد في قوتها الاقتصادية ويزداد دورها في المنطقة. أي أن إيران تحت العقوبات الاقتصادية كانت قوية وستزداد قوتها بعد إزالة تلك العقوبات. ومن خلال المفاوضات شعر الجميع بأن فرنسا كانت أشد تصلُّباً من باقي المشاركين ومع ذلك ما أن توصَّل المجتمعون إلى الاتفاق مع إيران حتى أعلن وزير الخارجية الفرنسي رغبته بزيارة طهران وقد أعقبه بنفس التصريح وزير خارجية بريطانيا, وهذا هو سوء ووقاحة رجال السياسة الغربيين, وإن مصالحهم الاقتصادية هي التي تؤثر على سلوكهم. أطلعنا أثناء المفاوضات الأخيرة على محاولات التهديد التي صدرت عن وزير خارجية واشنطن وعن رئيس الولايات المتحدة نفسه وعن وزير خارجية فرنسا بالإضافة إلى الصراخ للصهاينة واللوبي الصهيوني في الكونغرس الأميركي, بينما يرد المفاوض الإيراني بهدوء بأن إيران لا تُهدد ويتابع صناعة سجادته بعُقَد ملونة ومتنوعة. إن نجاح المفاوض الإيراني تتكامل مع قدرته وصبره على صناعة السجادة بآلاف العقد في السنتيمتر المربع. وفي النتيجة فإنه سيكون لإيران دور مميز في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم وستساعد بقوة في دفع الحلول السياسية بين أبناء كل بلد في المنطقة وبين دول المنطقة ومحاربة الإرهاب والتقوقع الطائفي. والمستقبل القريب سيُظْهِر هذا الدور على السلم والأمن في منطقتنا من دون الدخول في تسميات أي دولة, وسيظهر الحجم الحقيقي لكل دولة معادية للاتفاق أو متخوفة منه ودور من سينتهز للتقرب من إيران ولن يكون ذلك خافياً على القيادة الإيرانية. وما هو واضح سلمية الطروحات الإيرانية فمن يؤمن بهذا التوجه سيربح ومن يخالفه سيُجْبر عليه. ومن دون التغني بأهمية هذا الاتفاق فإن السلام والسلم ومحاربة الإرهاب سيكون شعار المرحلة القادمة وهي النتائج الهامة من هذا الاتفاق.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات