التاريخ شاهد حي على الأحداث والوقائع والأشخاص، ومن يبحث ضمن الصفحات المطوية في التاريخ يقرأ الحوادث المخفية والمطوية في خزائن التاريخ، يقرأ سير حياة لأشخاص باعوا ضمائرهم مقابل المال والجاه!؟ التاريخ لا يرحم، والبحث به يوصلنا إلى الحقيقة ولو كانت في بعض الأحيان مرة!

تاريخ صحافتنا ورجال صحافتنا عبر الأيام والسنين الطويلة، كان ضمن الموجب والسالب، بمعنى هنالك صحف وصحفيون طالت قامتهم السماء وبذلوا الغالي والنفيس في سبيل إعلاء شأن الوطن، ومنهم من عملوا مأجورين للمستعمر العثماني أو الفرنسي، وباعوا ضمائرهم وأوطانهم مقابل مكافأة أو منصب! يروي تاريخ صحافتنا، أنه في زمن الاحتلال العثماني كان هنالك مجموعة من الصحف الدعائية للمحتل العثماني تصدر بالعربية على لسان العثماني، منها صحيفة (الرأي العام اللبنانية) وصحيفة (الكشكول) وصحيفة (الصدق) وصحيفة (المسرح) وصحيفة (العفريتة) وصحيفة (المشكاة) وجميعها لم تدم طويلاً. وكانت أهم هذه الإصدارات هي صحيفة «الشرق» إحدى أدوات المحتل التي وضع على رأسها شخصيات لم يزل بعضنا يعتز بها ويقدرها ويصفها بالشخصيات الوطنية حتى الآن!

في يوم ما حشد السفاح أحمد جمال باشا، قائد الجيش الرابع العثماني في سورية، نفراً كبيراً من حملة الأقلام العربية: خليل الأيوبي، تاج الدين الحسني، شكيب أرسلان، عبد القادر المغربي، علي حكمت ناهيد، ومن ثم محمد كرد علي، وخير الدين الزركلي، لإصدار جريدة «الشرق»، وانسحب من انسحب منهم بعد أن تبين له غايات وأهداف جمال باشا، واستمر الباقون في ركب صحافة المحتل العثماني..

جريدة الشرق

صدرت جريدة (الشرق) في دمشق يوم الجمعة 27/4/1916م في ظل ظروف صعبة جداً، فقد كانت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مشتعلة، وظروف الحياة الاقتصادية معقدة، وهنالك فقدان للمواد الأولية التي تحتاجها الصحف والطباعة والمطابع، ومع كل ذلك فقد وفر أحمد جمال باشا كل المستلزمات لجريدة « الشرق ». ويذكر أمين السعيد أن هذه الجريدة أُنشئت بالاتفاق مع البارون فون أوبنهايم، مندوب الإمبراطور الألماني وملك بروسيا غليوم الثاني، لتكون لساناً من ألسنة الدعاية التركية – الألمانية في الشرق الإسلامي، فكان لها مقر فخم بدمشق في ساحة المرجة، وأُحضرت لها المطبعة من مطابع الآباء اليسوعيين في بيروت، كما كان لها مصنع للزنكوغراف وصدرت بثماني صفحات كبيرة.

حددت «الشرق» خطتها في مقالها الافتتاحي بـ: الدفاع عن الدولة العثمانية وبيان مآثرها ومواقفها لخدمة الإسلام والمسيحيين! – إيجاد وحدة كافية بين الأمم والشعوب الإسلامية سواء كانوا تابعين للحكومة العثمانية أم كانوا تحت إدارة أجنبيه – إزالة سوء التفاهم الذي يحاول الأعداء دسه بين العناصر العثمانية. عمل أحمد جمال باشا على أن تكون (الشرق) ناطقة بلسان جيش الشرق الرابع العثماني الذي كان يخوض غمار الحرب العالمية الأولى، لذا وفر لها شخصيات سورية عثمانية يأمن ولاءها! فطلب من خليل الأيوبي الحصول على امتياز لهذه الجريدة، وأن يكون مديرها المسؤول الشيخ تاج الدين الحسني وشكيب أرسلان رئيس الهيئة التحريرية وعبد القادر المغربي مدير الهيئة التحريرية وعلي حكمت ناهيد مدير الإدارة.

لم يمر على إصدار الصحيفة سوى أيام معدودة، حتى ارتكب جمال باشا المجزرة البشرية بحق السوريين بدمشق وبيروت بقيامه بشنق مجموعة من الصحفيين السوريين الأحرار مع عدد من الوطنيين الآخرين في مجزرة السادس من أيار، ولم تمض ساعتان على هذه المجزرة حتى صدر عدد خاص من جريدة (الشرق) العدد العاشر ووزع مجاناً في البلاد الشامية، اشتمل على إعلان التهم والمحاكمات والأحكام وتنفيذها، ووصفت التهم بأنها اشتراك في أعمال خيانة غايتها فصل سورية وفلسطين والعراق عن السلطنة العثمانية لتشكل دولة مستقلة!! هذه المجزرة كان صداها مدوياً في جميع أرجاء بلاد الشام، وشكيب أرسلان رئيس الهيئة التحريرية لصحيفة (الشرق) لم يرض عن هذه المجزرة الدامية فقدم استقالته من الصحيفة، فعين جمال باشا مكانة محمد كرد علي الذي لم يكن راضياً عن هذا التعيين وبقي في منصبه هذا حتى غادر جمال باشا _ والذي عرف بعد إعدامه لأحرار سورية بالسفاح – أرض الشام، فاعتزل رئاسة تحرير «الشرق».

حين نقلت الدولة العثمانية جمال باشا السفاح من الشام، عينت بدلاً منه جمال باشا المرسيني الشهير بجمال باشا الصغير، فطلب هذا الصغير من محمد كرد علي العودة إلى رئاسة تحرير (الشرق) فقال له: «إني اُستعبدت مرة واحدة في حياتي ولا أحب أن أستعبد مرة ثانية، استعبدني جمال باشا الكبير لأنه حماني منذ وافى هذه الديار من دسائس الدساسين وأنا أكره الاستعباد مهما كانت صورته». أما عبد القادر المغربي فقد استمر بالعمل في جريدة «الشرق» لحين دخول الجيوش الأجنبية إلى دمشق وهروب جمال باشا الصغير وجماعته إلى الآستانة وإيقاف صحيفة الشرق. وانتهت بذلك كل الصحف الدعائية التركية بسقوط دمشق بأيدي القوات الأجنبية ودخول البلاد الشامية في دور سياسي جديد.

جمال باشا السفاح

هو التركي أحمد جمال باشا الشهير بالسفاح، وبالداغستاني، وبالكبير. جاء إلى دمشق بعد نشوب الحرب العالمية الأولى، 1914 – 1918، والياً على سورية خلفا للوالي خلوصي بك، وهو من مواليد عام 1872م، وكان ناظراً للحربية العثمانية وندبه الأتراك قائداً للجيش الرابع لإعداد حملة عسكرية لاحتلال قناة السويس.

قبض جمال باشا على زمام السلطة في سورية، واعتمد على الإرهاب والبطش.

وكانت سياسته تقوم على أساس تتريك العناصر العربية، وقد نسب إليه أنه كان يعمل للاستقلال عن الدولة العثمانية في البلاد العربية لينصب نفسه إمبراطوراً عليها، ولكن هذه المزاعم لم تثبت.

بقي أحمد جمال باشا السفاح ممعناً في غيه، إلى أن شعرت الدولة العثمانية بنتائج سياسته الفظيعة فنقلته من سورية وعينت بدلاً منه جمال باشا المرسيني الشهير بالصغير، وسافر إلى أفغانستان حيث عهد إليه تنظيم جيشها، وفي عام 1339 للهجرة قتله في مدينة تفليس أرمني يدعى إسطفان زاغكيان.

خليل الأيوبي

هو خليل بن حسني الأيوبي الأنصاري. ولد في دمشق، وتوفي في مدينة عكا (شمالي فلسطين)، وقضى حياته بين دمشق وعكا وحيفا. في دمشق تلقى العلوم الدينية، وأخذ التصوف على الطريقة الشاذلية واليشرطية.

عمل موظفًا بمحطة قطار حيفا في الثلاثينيات من القرن الماضي.

بعد انتهاء علاقته بالعمل بحيفا، انتقل إلى عكا حتى رحيله.

اختاره أحمد جمال باشا السفاح ليكون صاحب امتياز جريدة الدعاية التركية – الألمانية جريدة «الشرق»، وحدد له راتباً شهرياً خمس عشرة ليرة عثمانية ذهبية.

شكيب أرسلان

هو الأمير شكيب أرسلان (1869-1946) الذي تلقى تعليمه الأولي في بيروت، وأتقن اللغة العربية والفرنسية، ثم انتقل إلى المدرسة السلطانية، وتولى بعض الأعمال الإدارية، ثم عين نائباً عن جبل الدروز في مجلس النواب العثماني، وأقام في دمشق، وكان يراسل العديد من الصحف السورية والعربية وينشر فيها المقالات المتنوعة، عمل في تحرير جريدة (الشرق) براتب شهري قدره ستون ليرة عثمانية ذهبية، لكنه كان مستاءً مما قام به أحمد جمال باشا، لذلك ترك الأمير شكيب أرسلان العمل في الجريدة وسافر إلى سويسرا وأقام في جنيف نحو خمس وعشرين سنة، وأصدر هناك خلالها مجلة باللغة الفرنسية للدفاع عن حقوق العرب، كما كان عضواً في المجمع العلمي العربي في دمشق.

محمد كرد علي

تولى رئاسة تحرير «رئيس الهيئة التحريرية» لصحيفة «الشرق» مرغماً خلفاً لشكيب أرسلان، وكان يتقاضى راتباً شهرياً بلغ أربعين ليرة عثمانية ذهبية من الصحيفة.

هو من مواليد دمشق عام 1876و توفي عام 1953م، وتعلم في المدرسة الرشيدية وأجاد اللغة التركية والفرنسية إلى جانب اللغة العربية، وعمل في الصحافة باكراً حيث حرر في جريدة (الشام) التي صدرت عام 1896 في دمشق، لمدة خمس سنوات، ثم هاجر إلى مصر، وأنشأ هناك مجلة (المقتبس) عام 1906 وبعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد، عاد إلى دمشق، وأصدر جريدة المقتبس في 17/12/1908، وكانت جريدة يومية سياسية اقتصادية اجتماعية، ثم أغلقت جريدته، وقد تحدث في مذكراته أن عمله في تحرير جريدة (الشرق) كان من الفترات العصيبة في حياته، وقد أسس محمد كرد علي المجمع العلمي العربي السوري في دمشق عام 1921 وأصدر مجلة خاصة بالمجمع، ثم عاد وأصدر جريدته (المقتبس) التي استمرت حتى تخلى عن امتيازها عام 1927.

محمد عبد القادر المغربي

تولى تحرير «مدير الهيئة التحريرية» لجريدة الشرق. هو من مواليد طرابلس الشام عام 1867م وتوفي عام 1956م.
تلقى علومه الأولية لبنان، وعين كاتباً في المحكمة الشرعية في طرابلس وساهم في تأسيس الكلية الإسلامية في المدينة المنورة عام 1914، وعاد إلى دمشق وعمل في جريدة الشرق لحين توقفها مع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 وخروج القوات التركية من البلاد العربية. كان راتبه الشهري من «الشرق» ثلاثين ليرة عثمانية ذهبية.

الشيخ تاج الدين الحسني

يبدو أن تاج الدين الحسني المراكشي الأصل، (1890م – 1943م) ولد وتوفي بدمشق، كان أهم الشخصيات التي اعتمدها جمال باشا السفاح للعمل في صحيفة الشرق، فالباحث في تاريخ الصحافة السورية يقرأ دائماً اسم الشيخ تاج مقروناً باسم صحيفة الشرق.. والشيخ تاج اشتهر عبر صفحات التاريخ بتعاونه مع المحتل العثماني والمستعمر الفرنسي!!

تميز تاج الدين بالذكاء والدهاء وحسن التودد إلى الناس، واستغل رغبة الحكام العثمانيين في إرضاء والده فانصرف إلى الاتصال بهم، فعين مدرساً للعلوم الدينية في المدرسة السلطانية بدمشق سنة 1912م، ثم كان من أعضاء مجلس إصلاح المدارس، ومن أعضاء المجلس العمومي لولاية سورية في عهد العثمانيين، كما تولى المدير المسؤول لجريدة الشرق براتب شهري قدرة خمسة عشر ليرة عثمانية ذهبية.

وكان كل من خليل الأيوبي وتاج الدين الحسني لا يعملان في التحرير أو الإدارة ومهمتهما تقتصر على الحضور إلى الصحيفة متى أرادوا لاستقبال والأصدقاء.

تولى الشيخ تاج رئاسة الوزارة السورية في عهد الانتداب مرتين من عام 1928-1931 ومرة ثانية من 1934-1936.

لقد كانت الصحف المأجورة من المحتل والمستعمر، تهدف إلى خداع الرأي العام السوري، وتضليل المجتمع والفرد بما يمليه عليهم المستعمر.
المراجع: تاريخ الصحافة السورية شمس الدين الرفاعي – الصحافة السورية أديب خضور – مذكرات أمين السعيد.

الوطن – شمس الدين العجلاني

سيريا ديلي نيوز


التعليقات