عندما توجّه المخطط الاقتصادي في سبعينيات وثمانينيات الدولة الحديثة لتوطين “احتياطي الأمن الغذائي” والذي أصبح ميزة وقيمة مضافة ثابتة لعقود من الزمن، كانت خريطة الاستقرار تقوم على معايير الجغرافيا الزراعية والاستثمار الكامل للبقع المنتجة عبر شعار أُطلق آنذاك، قوامه تشكيل بيئات تستوعب الدورة الكاملة للإنتاج والتصنيع الزراعي الذي يجعل كل شيء في خدمة المحصول، ولاسيما ذاك المرتبط بالإستراتيجيات المتبناة والمدعومة حكومياً.
على مدار زمن قطاف ثمار التخزين وتوسيع مساحات الاستيعاب كان التقييم لا يبرح الإيجاب وصوابية مشروع الدولة التي وصلت في اختبارات الأزمات التاريخية المتكئة على سلاح الحصار والتجويع إلى درجة كانت فيه مستودعات “القمح” لا تكفي أفران البلد سوى لأيام، لتبدأ رحلة التحدي والتصدي ببناء الصوامع التي كانت الخيار الإستراتيجي الذي يتفوق أهمية على إستراتيجية أطنان الحنطة نفسها.
خلال مسيرة الإنجاز استطاعت الدولة أن تتسلح بأكثر من 30 صومعة قمح بطاقة تخزينية تصل إلى 3,5 ملايين طن موزعة على مساحة المحافظات الأكثر إنتاجاً للقمح، لتحتل المنطقة الشرقية المرتبة الأولى حيث تستوعب صوامعها نحو مليون طن، ليصل الانتعاش إلى درجة باتت سورية مكتفية ذاتياً لخمس سنوات قادمة في حال لم تنبت الأرض ولا حبة قمح واحدة، لا بل تجاوزت المنعة هذا المستوى ليتم تسجيل إطعام أكثر من خمس دول عربية بالقمح السوري وللعلم أغلبهم من الشركاء الحاليين في “رد الجميل” بالنموذج الذي تربّى عليه قليلو الأصل؟!.
اليوم ثمّة آية مقلوبة قوامها أن نصف الصوامع تتركز في محافظات ومناطق خارج سيطرة الدولة، لتنخفض الطاقة الاستيعابية الحالية إلى 2 مليون طن، من أصل إنتاج 3 ملايين طن قمح مأمول أن تستلمه الدولة التي راحت تفتح صنابير الإغراء والتحريض الذي بلغت فاتورته المرصودة 100 مليار ليرة لتحفيز المزارع على إيصال “قمحاته” إلى مراكز الشراء.
ومع أن المتابعين يرون بالخريطة التوزعية للصوامع التي شُيّدت سابقاً إنجازاً موفقاً ومحموداً لا يمكن القفز فوقه، إلا أن الأمانة تفرض اعترافاً بأن توزيعاً تنموياً يجب أن يحكم الخيارات القادمة التي بدا التفكير فيها جلياً بعدما تبيّن أن تجميع البيض كله في سلة واحدة سيزيد من فرص المخاطرة كما تؤكد المعادلة الرأسمالية للاستثمار، وبالتالي باتت ظرفية الأزمة تلقي بتوجهات انعطافية تعطي المناطق المستقرة والآمنة حصة أكبر على الأقل لإبقاء سلة الغذاء السوري بمأمن من الخطر الذي ربما يضرب هنا وهناك حتى في زمن الاستقرار فكيف الحال ونحن على كف عفريت الحرب؟!.
تقول الأخبار إن نوايا من هذا القبيل تحركت، فالخطط تقول بإنشاء صومعة في ريف دمشق، كانت مقررة في المنطقة الشرقية، وتسريعاً لإعادة تأهيل صومعة اللاذقية المنقول وصايتها من وزارة النقل إلى وزارة التجارة الداخلية عدا عن تأهيل وتوسيع الصوامع القائمة والمتضررة، إلا أن الصوت القائل بأولوية تحصين القمح وتأمينه عبر صوامع تبنى في الساحل الآمن يعلو، لأن نظرية توحيد الحقل والتخزين لا تصلح عند البطون التي لا تنتظر طرقات الـ”شدوق” المقطوعة؟!.

سيريا ديلي نيوز - البعث - علي بلال قاسم


التعليقات