سيريا ديلي نيوز- يزيد جرجوس

 

  ماذا يحدث في العمق الاستراتيجي للحدث الذي يجري على مساحة المنطقة، وخاصة في منطقة الهلال الخصيب السوري أو سوريا العظمى، مركز ومحور العمليات في مشروع مايسمى"الفوضى البناءة"؟!

الكثيرون يقرؤون في سطح المشهد، خاصة أولائك المنغمسين حد التورط في تنفيذ فصول هذا المشروع، وبغباوة تصل في كثير من الأحيان حد العمالة، إن لم تكن هي كذلك بالفعل. نحن سنحاول الاجتهاد في سبر المخفي من المشروع، وما يبدو أنه هدفا أو أهدافا له. فبعد أن تأكدنا وبات واضحا للجميع وبالوثائق التي لا تقبل الشك كونها منشورة قبل أحداث مايسمى"الربيع العربي" والتي تؤكد ضلوع الولايات المتحدة للتخطيط لهذه الفوضى منذ مطلع الثمانينيات إبان رئاسة رونالد ريغن، حيث كلفت مراكز الدراسات في واشنطن وقتها، بدراسة الثورة الفرنسية والبلشفية كحالات "انقطاع تاريخية" من أجل "استنباط الوسائل والآليات لتحريض الشعوب من أجل القيام بمشروع الفوضى المنتجة" على حد قولهم وقتها.

  إن مسار الأحداث وتطورها باتجاه تفاقم حالة العداء الكبيرة بين سوريا والعراق من جهة وبين دول الخليج من جهة ثانية، ممثلة بشكل رئيس بقطر والسعودية اللتين شكلتا رأس الحربة في الهجوم على البلدين، وفي تمويل وتحريض البيئة المتطرفة حتى الجنون، وخلق الأجواء الإعلامية وحتى الشعبية الحاضنة لها، ففي السعودية تم احتضان المعادين للسلطات السورية وتمويلهم على مدى عقود، مؤخرا انضمت قطر إلى نفس

الأسلوب، وبشكل أخف بقية الدول. وإذا أضفنا الخلفية الواضحة للأحداث في الإقليم، والأكثر أهمية فيه، ألا وهي زوال حالة العداء العربية الإسرائيلية بشكل عام، وخاصة في الخليج حيث تم استبدالها حتى بعلاقات ودية ومعلنة. مما يعني بالضرورة انتهاء فاعلية الكيان كوسيلة لابتزاز المنطقة وتركيع حكام الخليج والاستمرار بنهب ثروتهم الهائلة، والتي من المقدر أن تعيش قرنا آخر من الزمن. يدعم ذلك حالة العداء المستجدة مع إيران في خضم الحدث الدامي في المنطقة، وإقحامها كطرف فاعل في دعم سوريا والعراق مقابل تخلي وتآمر دول الخليج. كل ذلك يصب في اتجاه واحد لنشوب عداوة كبرى وصراع تاريخي جديد بين تكتلين كبيرين الأول هو إيران والعراق وسوريا، والثاني هو دول الخليج وربما الأردن. صراع يستمر عقودا تضمن استمرار وجود الفزاعة التي ينهب بناء عليها نفط الخليج وغازه. هكذا تبدو الأمور أكثر استراتيجية وأفقا من مجرد الحديث عن خط غاز هنا أو خلاف ما هناك، ناهيكم عن الحديث عن "الحرية" و"الديمقراطية".

  في هذا الإطار العام الواسع والمفتوح على خيارات تكتيكية ومرحلية لا حدود لها، ضمن سياق هذه المواجهة بين الشمل والجنوب، ستبقى "إسرائيل" العدو ليس فقط كالمتفرج، ولكن كالمساهم في تحمية الأجواء تارة، واستثمارها تارة أخرى، وربما تنتقل وبصورة أكبر إلى بيع السلاح والتكنولوجيا للمتصارعين كما يخطط لها. وتبقى اليمن مثلا كاختراق أو احتمال اختراق لحساب الشمال السوري في الجنوب الخليجي وبدرجة أقل سلطنة عمان كعنصر تبريد، تماما كما في المقابل لبنان. هذه أمور تزيد من إمكانية ابتكار الاحتمالات والشد والرد

بالنسبة لصناع المشروع والمخططين له، فهي تشكل توزيعا "إيجاببا" للأدوار يسهل عملية إدارة الصراع وإدامته كما يحب الأميركيون دائما.

فهل ستمشي سوريا في هذا المخطط كما يراد له، أم أنها ستذهب لخيار استخدام التطورات لمصلحة القضايا الإقليمية، على حدود إفشال الأهداف البعيدة من الاستراتيجية الغربية، وإن على حساب تحقق الكثير من الأهداف المرحلية والتكتيكية على الأرض، كعملية التدمير الشاملة التي تتعرض لها سوريا وبعض الدول، وهذه أصلا كانت أمرا لا مفر منه طالما أنها ناتجة عن التكتيك الأول للمواجهة ألا وهو الحرب.

في سبعينيات القرن الماضي دخلت سوريا إلى لبنان وفق تفاهم دولي، كان يأمل منه المخطط الأميركي أن تلعب سوريا دور القضاء على المقاومة الفلسطينية بالدرجة الأولى، ولكن الذي حدث هو أن سوريا استخدمت التفاهم الدولي منتجة فيما بعد مقاومة أخرى لبنانية ناهيكم عن الفلسطينية، أدت إلى عكس ما كان يراد منها. نفس العقلية نراها اليوم تسيطر على السياسة السورية، بل ربما أكثر مواجهة وقرارا في الحسم مع إفشال المرامي النهائية في إشعال المواجهة المفتوحة مع دول وشعوب الخليج، ونحن نركز هنا على كلمة الشعوب، لأن حكومات الخليج ليست باقية للأبد، ولا مصلحة لسوريا ولا للمنطقة في استعداء كل ما هو خليجي، لذلك بالضبط رأينا ضبطا لرد الفعل الرسمي الديبلوماسي والإعلامي وخاصة الإعلامي السوري تجاه شعوب الخليج، ضبطا ضاق به صدر الكثير من السوريين لعدم إدراكهم لمقاصده. تماما كما أتت وستأتي سياسة سوريا في قبول التراجع من بعض الدول الخليجية المحرجة كالكويت حاليا، والإمارات في القريب، علما بأن آلية ما بقيت تعمل بين هذه الدول وبين سوريا، وبرغم كل الجراح والعتب السوري على الجحود الخليجي،

سترحب سوريا بأي مبادرة لطي الصفحة، ليس فقط لإحراج الدول والكيانات المصرة على العداء، ولكن لوضع أسس لإجهاض مشروع المواجهة المفتوحة في المنطقة بين سوريا وحلفائها وبين الخليج. هذا كله يدفعنا لرؤية ما مفادها أنه وبالمنظور القطري الضيق ربما لا يكون ما يحدث كله شر مباشر لسوريا، ولكنها هي لم تتعود أبدا النظر إلى الأحداث والقضايا من هذه الزاوية، ولحكمة ترى مصلحة البعض من مصلحة الكل، وتؤمن أن الالتزام بالمبادئ ينجي ولو بعد حين.

ولكننا لا نعلم ماذا تخبئ لنا السياسة الأميركية بالضبط من احتمالات ومفاجآت. فهي وبعد أن عجزت عن انتاج دولة مسخ وتابعة لها في سوريا تقف معها في مواجهة إيران وربما روسيا وكل محور بريكس وتعمل على إضعافه عبرها، وانتقلت إلى تصورات عن تدمير سوريا دون الحاجة إلى تدخل خارجي كلاسيكي، وربما تقسيمها حتى تكون أسهل للقيادة والتحكم، ربما لن تقف عند حد، خاصة مع قراءتها للتمنع السوري عن الذهاب إلى تحقيق رغبات التحالف الغربي ضد المنطقة، كما يفعل حكام الخليج وعصابات الإسلام السياسي.

يبقى الفيصل في تمكن سوريا من صد المفاجآت إضافة لتماسك شعبها ودولتها، هو تماسك الحلف الاستراتيجي الأكبر بريكس وإيران وسوريا وغيرها من أصدقاء وحلفاء هذا الحلف، وقدرته الاستخبارية والاقتصادية والسياسية على تطوير الحلول وربما الهجوم كوسيلة للدفاع أحيانا.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات