هي أهزوجة للسلام ، موطئ للفرح ، و ترنيمة عشق مقدسة .. مهما مدّ الله في عمرك لن تكتشف سرّ ذلك الشعور بالحنان الذي يغمر حنايا قلبك حالما تدوس أرضها .. تلك الراحة النفسيّة التي تتغلغل في جسدك لتلامس روحك ، فتنقيها من الآلام و الأحزان ..

 إنها دمشق الحبيبة ، و كما أمّها سورية ، مليئة بالأسرار التي تجعل في عشقك لها غموضاً و أسباباً لن تكفيك الأيام و السنوات لاكتشافها و عدّها و الكتابة عنها ، لأنها دائماً تأتيك بسرّ جديد يجعلك أكثر تعلقاً و وفاء لكلّ حجرٍ من أحجارها..

بعين من الغيرة ، تترقّب الشمس كلّ يوم كي يستيقظ في عيونها الصباح ، و يبدأ الياسمين بالاصطفاف متراقصاً مع نسماته الأولى حول عنقها ، ليتباهى بعطره الذي يفوح سماءً حدّ خصلاتها الشُقر ، فتراها تتدلل في فرد خيوط أشعّتها ، علّها تلفت الأنظار أكثر . ادخلها من أحد أبوابها العريضة ، و امشي في شوارعها لتكتشف كيف يكون للطرقات قلوباً تنبض بحبّ الحياة . و الأحجار كأنها تخبّئ بينها جرعات من الآمال و الأفراح ، يتلقفها كلّ قلبٍ مكسور فينجبر . و لديها قدرة عجيبة على امتصاص الهموم لتستبدلها بضحكات أمل و امتنان ، و لو أنّ لها ألسنة ، لهمست في آذان المارّة الكثير، الكثير من روايات العشق ، الأشعار و قصص الأحلام ..

الآمال و خيبات الأمل .. الوعود ، الغدر ، و التضحيات .. التي شهدت عليها منذ آلاف السنين و ما تزال . في أحيائها المعتّقة تمتزج رائحة البخّور مع أجراس الكنائس ، و أصوات الجوامع فتتصاعد سماءً بأجنحتها الهفّافة ، حاملةً معها طِلبات من قلوب أيقنت منذ أولى نبضات حياتها ، أن لهذه المدينة الصامدة ، عناية إلهيّة فائقة ، جعلتها تقوى على كلّ يد حاولت أن تمسّ ذرّة من ترابها ، أو تدنّس عبقه الذي تزكّى بدماء من قلّدوا دمشق تاجاً كرامة صنعته أرواحهم . هنالك بين ضجيج الشوارع ، و صخب الأيام ، تصدح قلوب ساكنيها بأصوات الصمود الجبّار ..

فتعلّم منهم أنّ المحبة المقدّسة لا يفنيها دمار الحروب ، و الأبنية المهدّمة ، و أصوات الرصاص أو الأسلحة الفتّاكة .. أما الموت فسيروي لك بانهيارٍ كيف مات ألف ميتة و هو يحاول أن يُميت في أبنائها الحبّ أو يُنضبه ، يتذاكى عليهم بجميع ما في الحياة من ضغوط ، و متاعب وتضحيات .. آبياً أن يلوي ظهرهم أو ينتقص من شموخ جبينهم الذي شغل بكبريائه دول و أمم و لأجله طؤطئت رؤوس ، و لوت كهول معلنة استسلامها أمام قدرات شعب أركع العالم بقدرة قلبه الذي اقسم أنّ الطعنات لن تضعف خفقاته .. بل سيخرج من كلّ نوبة قهر ، جبّاراً و شامخاً .. محبّاً للحياة أكثر .. و أكثر قدرة على العطاء . إذا قررت التجوّل في أسواقها المزركشة ، فستعود صغيراً عاشقاً للتنقل بين الأزقة و مغرماً بالغرابة التي تصيبك كلما تجاوزت سوقاً لتأتي على آخر .. فتنفتح عيونك لتكتشف ألواناً جديدة و حارات خبّأت بين دخاليجها قِدماً و جمالاً و جمال. تتيه و تركض كما طفلٍ شقيّ يهوى الاستطلاع ..

و مهما مررت فيها لن تكتشف هذا التناسق الخلاب بين روائح العطور و الخبر و البهارات الدمشقيّة . البن و التوت الشاميّ و الحلوى السكريّة الملوّنة بألوان المحبّة ، و التي تغري الكبار لتذوّها قبل الصغار . فتستحضر أمام عينيك أيام الطفولة ، حين كانت السعادة قطعة سكر ، و النجاح أن نحصل عليها بلا شروط . فترتسم البراءة على قلبك من جديد. توجّه بسرعةٍ نحو أيّ صنبور تصادفه ، لتستطيع أن تتلمّس انسكاب العطاء مع كلّ قطرة مياه تغدق نحوك ، و تنفجر برقّة بين يديك لتنعش شرايينك ، و تترك بذرات أوكسجينها أثراً في خلاياك ، تتعمّق فيها لتغسلها من الشرور . فتخال أن شيئاً من نقاء الجنّة ، كرّم به أهل هذه الأرض. إن حلّت عليك الظلمة فاحجز قطعة من السماء ، و قليلاً من ضوء القمر ..

و اسهر برفقة ليل دمشق الذي لا يعفى ، فهو يستمد قوّته من كلّ نجمة مسكونة بالأماني ، و متوهجة بالأحلام اللامعة .. فإذا ما اجتمعت حول عينيك قادتك إلى مجرّات سريّة ، لم يعرفها لا العلماء ، و لا مستكشفي الكواكب أو خبراء الأفلاك . إلى بحور بلا شواطئ ، تهيم بك غراماً لا سبيل للنجاة منه ، لذا فالدمشقيّون عشّاق دائمين بلا حدود. كلّ ما في الليل من غموضٍ يجعلك تيقن ، أنه لم يروي أحد قصصاً عن دمشق و عرف لحديثه نهاية . فكلما تكلّم أكثر ، أحس بمشاعر أكبر تتدفق بشدّة دون أن تجد في الأبجدية السبيل لترجمتها حروفاً .. و لم يكتب عنا أديباً أو يصفها شاعراً إلا واسترسل حتى ذاب قلمه حبّاً ، و انسابت على أوراقه ينابيع عشق . و ذلك لأن دمشق ، بأسرارها و قصصها ، تفاصيلها و تعقيداتها ، عظمتها وجبروتها .. بعذوبتها ، عطائها ، و شبابها المتجدّد .. رواية بلا خاتمة و حكاية لا تنتهي .

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات


S.A
هاد هو الرسم بالكلمات! بتجنننن الله يحميكي يا شام والله يديم هل فسحة الامل بحياة ابنائها وتسلم ايدين الكاتبة