“إنه اتفاقٌ جيدٌ… متينٌ … و متوازنٌ، لبى احتياجات كلا الطرفين … باختصار، إنه اتفاقٌ تاريخي” لا شك أن هذه صورة الاتفاق النووي الإيراني في أذهاننا لحظة الإعلان عنه، و رؤيتنا تلك المصافحة الحميمة بين الطرفين اللذين افترقا طويلاً. بل راودنا شعورٌ بالطمأنينة و الأمل بأنه سيسمح بإيقاف عقارب الحالة المتدهورة في المنطقة عموماً، و في سورية خصوصاً. فمنطق الأمور همس لنا بأنه لم يكن ممكناً التوصل إلى الاتفاق المؤقت مع إيران في جنيف لو أنه اقتصر على الملف النووي، و هذا شعاعٌ من الحقيقة، لكن من أين آتى مصدره؟
دعونا نلقي نظرة تاريخية على مشروع برنامج إيران النووي الذي بدأ قبل الثورة الإسلامية لعام 1979 عندما اتخذ شاه إيران جميع الخطوات اللازمة لإطلاقه. ثم جُمِدَّ المشروع، إبان الثورة، بسبب نقص المواد و الخبرات اللازمة. لكن بعد نهاية الحرب العراقية-الإيرانية التي شهدت استخداماً للغاز السام من قبل القوات العراقية ضد الجنود الإيرانيين، و كانت فيها إيران شبه وحيدة في مواجهة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين المدعوم من قبل ملكيات الخليج و فرنسا و أوروبا و الولايات المتحدة الأمريكية. و على ما يبدو أن طهران قررت حينها إحياء برنامجها النووي المدني و ربما العسكري على اعتبار أنها بحاجة لتكون قادرةً للدفاع وحيدةً عن نفسها في وجه ما تبقى من العالم، بمعنى امتلاكها الهيبة و قدرة الردع.
الآن و بعد عشر سنوات من أزمة نووية حادة حملت في طياتها مخاوف دولية كبيرة من خطر التوجهات العسكرية للبرنامج النووي الإيراني، و تعثرت خلالها المفاوضات و تجمدت عدة مرات بين إيران و مجوعة الـ 5+1 (الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن+ألمانيا)، ولدَّ هذا الاتفاق إثر مفاوضات شاقة استمرت لخمسة أيام في ليل الأحد 24 تشرين الثاني، ضمن أجواء من الابتهاج و الرضى الكامل بين الأطراف المعنية.
لقد كشفت لنا الصحافة الأمريكية مؤخراً، أنًّ الاتصالات السرية و مشاورات جس النبض بدأت منذ ثماني أشهر بين إيران و أمريكا بعد انقطاع العلاقات الدبلوماسية بينهما منذ الثورة الإسلامية عام 1979، عندما حطت طائرة عسكرية أمريكية منتصف آذار الماضي في سلطنة عُمان، الوسيط المميز بينهما منذ عام 2009. كان على متنها فريق تفاوضي قوي ضم الرجل الثاني في وزارة الخارجية الأمريكي ويليام بيرنز، و جاك سيلفان و عدد من الخبراء التقنيين جاؤوا جميعاً للقاء عدد من المفاوضين الإيرانيين من أولئك اللذين يلعبون دوراً رائداً في القطاع النووي. كان هدف اللقاء متواضعاً جداً استكشاف مدى إمكانية فتح مناقشة ثنائية للملف النووي الإيراني، ثم تلاها أربعة لقاءات سرية بعد تنصيب الرئيس الجديد حسن روحاني في شهر أب، ثم لقاءين اثنين في شهر تشرين الأول، و جميعها جرت على أراضي سلطنة عُمان، و شكلت لاحقاً أساس الاتفاق النووي.
و كانت صحيفة اللوفيغارو الفرنسية قد نقلت لنا عن مصدر فرنسي في الخليج قوله: ” إن المرشد الأعلى هو الذي أعطى الضوء الأخضر في فصل الربيع الماضي للقيام باتصالات مباشرة مع الشيطان الأكبر”. طبعاً لا يجهل خامنئي أن الإيرانيين يقومون بمفاوضات سرية مع الدبلوماسيين الأمريكيين حول الملف النووي الإيراني وأفغانستان والعراق وسورية والتجارة المتبادلة بينهما.
ولا تبتعد هذه المعلومات عن كونها أحد أسباب تغيُّر موقف الرئيس الأمريكي في الملف السوري، عندما كان باراك أوباما مستعداً لإطلاق صواريخ توماهوك، وأقنع العالم بتصميمه على توجيه الضربة.
و إذا تسألنا ما هو الدافع المباشر و المُطلِق لعملية المفاوضات المعلنة بين الجانبين؟ نعلم جيداً أنَّ إيران اليوم هي الدولة الوحيدة المستقرة داخلياً و المنغمسة خارجياً في بيئة شرق أوسطية غير مستقرة، تلك البيئة التي انتقلت بطريقة دراماتيكية من حالة الاستقرار النسبي نحو الفوضى الغامضة إثر ما تُفِقَ على تسميته “الربيع العربي”، و الذي أنتج بدوره تغيراً جذرياً في المعادلات الحاكمة للتوازن الإقليمي لدرجة انفلاتها نحو استقطابات اثنية – طائفية ذات طموحات جيوسياسية انكشفت بوضوح في تأزم الملف السوري حيث تسارعت الوتيرة بشدة نحو الانزلاق في حرب تحصد الأخضر و اليابس. نعم، إن إدراك ضرورة ضمان مصالح الأطراف المعنية، و تجنب الحرب هو من ضرب ناقوس بدء المفاوضات العلنية بين الجانبين.
لقد أدراك جيداً صانع القرار الإيراني أن توازن التهديد الذي يضمنه برنامجه النووي لم يعد مجدياً ضمن المتغيرات العاصفة في المنطقة، فكان لابد من استبداله بتوازن المصالح أساس الاتفاق النووي الحالي. و كما أصبح معلومٌ للجميع أن عصب الاتفاق يقوم على وقف تخصيب اليورانيوم فوق معدل 5% مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية على إيران، بمعنى تخلي إيران عن السعي لامتلاك القنبلة النووية، وهذا في الحقيقة ما يشكل المفتاح الأساس لإدراكنا أنه اتفاقُ تاريخي سيغير وجه المنطقة.
و إذا نظرنا إلى ما هو أبعد من ذلك، تبدو أن المفاوضات خبأت مبادلات كبيرة بين هرمي المصالح لكلا الطرفين لتكشف عن أن إيران خاضت مفاوضات حساسة و تكاملية بالمعنى الحقيقي أبدعت فيها بخلق قيم لبدائل أوسع في إطار من ضمان أمن و استقرار المنطقة ككل، و ذلك على أساس المبادلة بين التوجهات العسكرية لبرنامجها النووي و ضمان مصالح حليفها السوري، و هذا ما يفسر لنا التزامن بين التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني و الإعلان عن موعد انعقاد مؤتمر جنيف -2 من أجل حل الأزمة السورية بالطرق السلمية.
في الواقع، لقد كانت مكاسب كلا الطرفين غنية على المستويين الدولتي و الإستراتيجي: بالنسبة لإيران ضمنت حقها بتخصيب اليورانيوم على الأرض الإيرانية الذي طالما أكدت بأنه حق غير قابل للمساومة، و حافظت على البنية التحتية الضخمة لبرنامجها النووي، و “معرفة الصنع/ SAVOIR FAIR” الضمانة لأي تغييرات مستقبلية غير متوقعة. و هذا كافٍ حقيقةً لحفظ ماء وجهها في الداخل الإيراني لدرجة أنه اعتبر انتصاراً حقيقياً لبى حاجات قوة الدولة المعرفية و الاقتصادية، بالإضافة إلى أنه لبى تطلعات فئة كبيرة من الشعب الإيراني لاسيما شريحة الشباب المتعطشة نحو مزيد من الانفتاح على العالم الغربي.
من الواضح أن صانع القرار الإيراني وسع خياراته و مجموعة بدائله في هذه المفاوضات، فمن شأن هذا الاتفاق أن يضمن الأمن الإيراني و استقرار الدولة في بيئة إقليمية و دولية تعج بالمتغيرات العاصفة. و من جهةٍ أخرى ، سيمنح إيران قوة ضمنية مضافة من الناحية الاقتصادية و التكنولوجية (النووي السلمي باعترافٍ دولي)، و الإستراتيجية من خلال حجم الدور الذي تلعبه و قوة التأثير في حل القضايا الدولية الشائكة على غرار الأقطاب الدولية (روسيا و أمريكا)، فإيران مدعوةً الآن لحضور مؤتمر جنيف-2 حول إحلال السلام في سورية.
أما فيما يتعلق بالغرب، لقد حقق جميع ما يتمناه…بدءاً من وضع حد لمنع تزايد انتشار الأسلحة النووية في الشرق الأوسط، لاسيما لجهة لجم تلك الدول التي كانت تنتظر القنبلة النووية الإيرانية لتدلو بدلوها. و هذا كافٍ لدرجة كبيرة أيضاً لإظهار الدول الغربية بموقع الرابح، و يحفظ لها ماء وجهها الدولي لتقاربها مع دولة كانوا يعتبرونها حتى الأمس القريب “مارقة”، و غير منضبطة دولياً.
في الحقيقة، يرسم هذا الاتفاق ملامح جديدة للسياسية الخارجية الأمريكية هي: نهاية عقدٌ من الحروب في الشرق الأوسط، وإعادة التوازن باتجاه آسيا. و ذلك بدءاً من معالجة الملف السوري الشائك إلى أفغانستان حيث طلب الأمريكيون من الإيرانيين تسهيل انسحاب قواتهم اعتباراً من عام 2014 ، من خلال تأمين المناطق الحدودية التي تملك إيران فيها نقاط للاتصال، وصولاً إلى العراق حيث يتمنى الأمريكيون والعراقيون تدعيم السلطة الحالية وتجنب انقسام البلد.
وعن كيفية استئناف الصفقات التجارية بين طهران وواشنطن بعد التوقيع على الاتفاق النووي، كشفت لنا صحيفة اللوفيغارو أيضاً نقلاً عن أحد المصادر بالخليج إلى أن الإيرانيين أجروا نقاشات مباشرة مع الدبلوماسيين الأمريكيين في الولايات المتحدة أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في شهر أيلول الماضي. حيث أكدَّ هذا المصدر قائلاً: “بقي وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف عشرة أيام في الولايات المتحدة بعد الجمعية العامة للأمم المتحدة. رافق الرئيس الإيراني إلى نيويورك 75 شخصاً، ومن بينهم العديد من الصناعيين في مجال النفط والغاز، واجتمعوا مع ممثلين عن شركتي شفرون Chevron و إكسون Exxon”. و “ربما وعَدَّ الإيرانيون بصفقات تبلغ مئات مليارات الدولارات إلى الشركات الأمريكية”. تطمع شركة بوينغ الأمريكية بالحصول على عقد استبدال عشرات الطائرات لشركة الطيران الإيرانية، كما تتحين شركة جنرال موتوزر الفرصة منذ عدة أشهر.
و على الضفة المقابلة، يذكرنا المنتظرون بألم اتفاق عام 2003 الذي أشادت به الدول الغربية آنذاك باعتباره اتفاقاً تاريخياً حول الملف النووي الإيراني، ثم اكتشفت بعد عدة سنوات أن إيران انتهكت جميع تعهداتها. و هم يخبرونا أيضاً بأن المدة لن تطول لتعود إيران و الغرب إلى مربع النزاع الأول… و في هذا جزءٌ من الحقيقة أيضاً، لأن بنود الاتفاق (المعلن منها و السري) هي بمثابة وعد ينتظر البرهان، و هو الالتزام بتنفيذ بنود الاتفاق من أجل بناء الثقة. فهناك امتحانٌ فوري لحسن نية جميع الأطراف، ولاسيما الإرادة الإيرانية بفتح المنشآت وتجميد جميع النشاطات الحساسة، و الإرادة الدولية حول إحلال السلام في سورية و ضمان مصالح الحليف السوري في مؤتمر جنيف -2، فالاتفاق مازال مؤقتاً و يتطلب الكثير من إجراءات بناء الثقة، و من ثم تتجه الأطراف كافةً نحو الاتفاق الشامل بعد ستة أشهر. و تجدرً بنا الإشارة إلى أن أي فشل سيعود بالأطراف كافةً إلى مربع النزاع الأول حيث تنعدم الثقة و تتلاشى الأهداف المتفق عليها مما يعزز مواقف معارضي الاتفاق لدى الجانبين، و الخاسرين منه في البيئة الدولية المحيطة، لذلك يجب عليهم المضي بسرعة نحو بناء الجسر الذهبي للاتفاق الشامل.
و بعيداً عن السياسية، يقدم لنا الاتفاق النووي الإيراني نموذجاً مثالياً للمفاوضات رابح – رابح (WIN-WIN)، و إثباتاً على القدرة في خلق القيمة و الإبداع في إعادة توزيعها، و هذا ما يسهل علينا، نحن الدارسون و المهتمون في تقنيات التفاوض، استيضاح النقطة التي غالباً ما نعجز على استيضاح كافة جوانبها.
أخيراً، لاشك أن المفاوض الإيراني يمتلك مزايا أهمها العقلانية، المرونة الكافية، و القدرة على تقبل الآخر بعد أن رفع القبعة الأيديولوجية بكل مهارة عن رأسه، فكم كانت تبدو المسافة كبيرة بين صورة أمريكا “الشيطان الأكبر” في أدبيات الثورة الإسلامية، و تلك المصافحة الحميمة بين محمد جواد ظريف وجون كيري. لقد نتج هذا الاتفاق عن مفاوض إيراني تمرس بمهارات التفاوض الموضوعي، و خاصةً لجهة تركيزه على المصالح و ليس على المواقف المعلنة و قدرته على النظر إلى ما وراءها، لذلك و من هذا المنطلق، دعونا ننتظر العودة الإستراتيجية لإيران الكبرى ذات العلاقات الطيبة مع الغرب.
د.سلام سفاف - رأي اليوم
2013-12-03 22:46:17