الكلام على الحرب ومآلها في سوريا دخل في دائرة التكرار واليوميات والتفاصيل، لكن المسار العام لتطور الأحداث التي شهدناها منذ 30 شهراً، لم يعد محل شك: الدولة السورية صمدت وانتصرت، فلم يعد وارداً أو ممكناً صرف رواية «الثورة» الشعبية، وأصبح خطر تقسيم سوريا وراءنا. فلقد تم تجديد الاعتراف الدولي بالجمهورية العربية السورية وسيادتها واستقلالها وموقعها الخاص في الجيوسياسية الإقليمية، لا بل وتجديد الاعتراف بنظامها السياسي، وحق السوريين، وحدهم، في التفاهم على تطويره.

 

كل المشاريع التي استهدفت سوريا سقطت إذاً، والمهمة الوحيدة الباقية الآن من مهمات التصدي للعدوان الذي واجهته البلاد منذ ربيع 2011، هي تصفية الإرهاب وإعادة السيطرة الكاملة للدولة على كافة أراضي الجمهورية. وهذه، على ما تتطلّبه من وقت وجهود وتضحيات، هي مهمة عسكرية وأمنية اتخذت اليوم طابعاً عملانياً _ لا سياسياً _ لثلاثة أسباب، هي: (1) تراجع وضمور الحواضن الاجتماعية المحلية للتمرد المسلح، وانحساره المتزايد لمصلحة الجماعات الإرهابية، (2) وحصول دمشق على غطاء سياسي محلي ودولي، لتصفيتها، ربما نيابة عن العالم بأسره، (3) وبالنتيجة، استعادة الأطراف الوطنية السورية أولويّتها في إنجاز التفاهم الداخلي، على حساب الكمبرادور السياسي للعواصم وأجهزة الاستخبارات الإقليمية والدولية.

 

إلا أنه علينا، بعد هذا كله، وبرغمه، أن نواجه حقيقة أن الأزمة السورية لا تزال قائمة، بل وتتظهّر خطوطها واستحقاقاتها كلما اقتربنا من إنجاز المهمة العسكرية والأمنية لتصفية الإرهاب.

 

والأزمة السورية ليست أزمة سياسية بالمعنى البسيط للكلمة؛ إنها أزمة مركّبة، اقتصادية واجتماعية وثقافية واستراتيجية، تتطلّب حلاً جذرياً.

 

ــــ اقتصادياً، تعاني سوريا أزمة نمو وتنمية. فمواردها الطبيعية وطاقاتها البشرية وما تملكه من مخزون الخبرات والمهارات والحيوية الاجتماعية، أكبر بكثير من نسب النمو التي تحقّقها. وهو ما ينتج، بصفة مستمرة، فائضاً سكانياً معطّلاً ومهمّشاً. وفي تفاعلات هذا الخزان البشري المُفْقَرْ، توجد، دائماً، فرص للتيارات الرجعية _ وخصوصاً الدينية والعنفيّة _ لإعادة تجديد نفسها وتقويض الدولة ومنجزاتها من الداخل.

 

وفي العقد المنصرم، اقترحت الأوساط النيوليبرالية حلاً لمشكلة النمو يقوم على اتّباع نهج اقتصاد السوق المعولَم. وكانت النتيجة تحسناً نسبياً في النمو لحساب نخب كمبرادورية جديدة وعلى حساب التزايد غير المسبوق في كتلة المفقَرين المهمَّشين، هذه الكتلة التي زوّدت الرجعيين والغزاة بالغطاء السياسي والأفراد.

 

أزمة النمو في سوريا يمكن حلها، فقط، بالارتباط بالخيار التنموي الوطني الاجتماعي. ولا يتلخّص هذا الخيار بالآليات القديمة للقطاع العام، بل بسيطرة الدولة على السوق الوطنية وتحفيز إنتاج السلع والخدمات، والتمويل الذاتي للمشاريع التنموية، وتجنّب المديونية والهدر والفساد وإعادة توجيه الموارد على المستويين المركزي والقطاعي، لمصلحة الصناعة والزراعة وتطويرهما وتمكينهما من المنافسة.

 

على أن أي نموذج اقتصادي تنموي وطني، لن ينجح ما لم تكن الأولوية المطلقة للدولة الوطنية هي إقامة نظام ديموقراطي اجتماعي يكفل للأغلبية الشعبية ضمانات الأجور العادلة ودعم سلة الغذاء والدواء والسكن والتأمينات الصحية والاجتماعية والتعليم والخدمات العامة. وهذه الحقول لا يجوز خصخصتها بحال من الأحوال، ولا التباطؤ في تعميمها أو إخضاعها لمواقع النفوذ السياسي والامتيازات الاجتماعية.

 

وليس مصادفةً أن الدولة السورية التي قدمت الكثير من التنازلات الاقتصادية للكمبرادور في العقد الأول من هذا القرن، قدمت للرجعية في الوقت نفسه تنازلات عميقة في المجال الفكري والثقافي، فتراجعت إلى حد كبير عن تقاليدها القومية والعلمانية، لمصلحة الثقافة الفائتة، سواء في استعادة الإرث الرجعي لرجال الدين أو تحويل فولكلور الحارات إلى نمط ثقافي.

 

وتواجه الدولة السورية الآن ضرورة الحسم الفكري والثقافي في مواجهة تلك المستبقات، والعودة إلى أطروحة القائد الراحل حافظ الأسد القائلة بوضوح تام: «لا مكان للرجعية في سوريا».

 

وتصبّ الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في النهاية، في الأزمة الاستراتيجية للدولة السورية التي تواجه الآن سؤالاً تاريخياً: هل تنتهي الحرب بالعودة إلى الستاتيكو الذي كان قائماً قبلها، سواء لجهةِ المصالحة مع الرجعية الخليجية تحت مسمّى التضامن العربي أو لجهة العودة إلى احتضان أدواتها ـــ مثل حركة حماس ـــ تحت لافتة «المقاومة» أو لجهة تفعيل المقاومة ضد إسرائيل في الجولان والجبهات الأخرى أو _ أخيراً _ لجهة الضرورة التاريخية المطروحة للخروج من حدود الجمهورية السورية إلى الكونفدرالية المشرقية؟

 

لم يعد بالإمكان العودة إلى ما كان: سوريا تواجه اليوم الخيار بين أن تكون دولة نصف فاشلة يحملها محور إقليمي ودولي، وبين أن تكون قاطرة للتغيير الاستراتيجي، عربياً وإقليمياً، وفاعلاً أساسياً في تغيير العالم.

Syriadailynews - Alkhabar


التعليقات