لعل أكثر المتشائمين والمعارضين لدمج وزارتي الاقتصاد والتموين في وزارة واحدة لم يكن يتوقع النتائج السلبية والكارثية لهذه الخطوة التي تجلّت آثارها بقوة خلال الأزمة الراهنة التي تمر فيها البلاد حالياً.

فالتقصير كان جلياً واضحاً في مراقبة الأسواق، الأمر الذي ترافق بضعف في اتخاذ القرارات والإجراءات الرادعة بحق المخالفين ما شجع الكثير من التجار والباعة على رفع الأسعار وزيادة الاحتكار... والمشكلة، بحسب الباحثين وخبراء الاقتصاد، قد تكون بأن قرار الدمج اتخذ على الورق فقط، لكن على أرض الواقع وفعلياً بقيت المديريات والمؤسسات التابعة لكل وزارة على حالها، حتى إن وزارة التموين سابقاً مازالت في بنائها القديم في ابن النفيس، ووزارة الاقتصاد في بنائها المعروف في الصالحية.

كذلك دمج مديريات حماية المستهلك مع مديريات الاقتصاد في المحافظات لم يمض عليه الكثير من الوقت على الرغم من مرور سنوات عديدة على صدور قرار الدمج، ولعل المواطن الذي استبشر خيراً آنذاك بقرار الدمج كان للأسف الحلقة الأضعف والخاسر الأكبر نتيجة حالة الفلتان والفوضى التي سادت الأسواق.

تحرير الأسعار

لعل الانتقال السريع وغير المدروس الذي اتخذته الحكومات السابقة بالانتقال إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، والذي برأي أغلب الاقتصاديين والباحثين في سورية كان أقرب إلى الاقتصاد الحر لأنه فتح الباب على مصراعيه أمام المنتجات المستوردة من كل حدب وصوب، فكانت النتيجة الإغراق واختلاط الحابل بالنابل وتحكّم قلة من التجار بتحديد الأسعار في ظل الآلية الجديدة لهذا النوع من الاقتصاد المبنية على العرض والطلب، وترك الباب للمنافسة وغياب الرادع الأخلاقي لدى قسم كبير من التجار وفي ظل قوانين حماية مستهلك لم تحقق الأهداف المرجوة منها.

كل هذا دفع ببعض من أعضاء مجلس الشعب السابق إلى إعداد توصية لإرسالها إلى رئاسة مجلس الوزراء لفصل الدمج القائم بين وزارتي التموين والاقتصاد، وطلب إعادة دور وزارة التموين في ضبط الأسعار، والاتجاه نحو الأسواق الداخلية بصورة أكثر فاعلية.

حاولنا استطلاع آراء المسؤولين في وزارة الاقتصاد ولاسيما ممن لهم علاقة مباشرة بشؤون حماية المستهلك، إلا أنهم تمنّوا علينا عدم الخوض حالياً في هذا الموضوع واعتذروا عن الكلام لحساسيته –حسب تعبيرهم- ولاسيما في ظل الأزمة الراهنة، مع العلم أن عماد الأصيل- معاون وزير الاقتصاد، وفي تصريحات صحفية سابقة أشار إلى أن ارتفاع الأسعار غير مقترن بعودة وزارة التموين والتجارة الداخلية بغية ضبطها لأنها مرتبطة في الأساس بالتكاليف وسعر الصرف، وأن مشروع الهيئة الوطنية لحماية المستهلك بصدد استكمال الجوانب التفصيلية لها، وقريباً ستعرض على الحكومة، نافياً أن تكون بديلاً عن وزارة التموين والتجارة الداخلية لأن هدف الهيئة الوطنية لحماية المستهلك بحسب الأصيل هو توحيد الجهات الرقابية.

تحفظ وتحذير

عزت الكنج- نائب رئيس الاتحاد العام لنقابات العمال وأمين الشؤون الاقتصادية أوضح لتشرين أن الدمج بين وزارتي التموين والتجارة الداخلية ووزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لم يكن قراراً ٍسليماً لجهة آثاره السلبية على الأسواق وعلى المواطن الذي لم يلمس من وراء هذا الدمج إلا فلتان الأسعار وارتفاعها غير المبرر ولاسيما من قبل بعض السماسرة وتجار الأزمات الذين ظهروا للأسف في هذه الأزمة، فتحرير الأسعار وإعادة هيكلة الجهات العامة ودمج بعضها بالآخر هي في الحقيقة –بحسب الكنج- إجراءات تندرج ضمن مقررات إجماع واشنطن لأن الهدف منها ربط اقتصاديات دول العالم النامي باقتصاديات العالم المتقدم.

وقال الكنج: إن الدمج إذا كان قد اتخذ للعمل على تقليل النفقات وتقليل السلبيات والتشتت الإداري وآراء البعض حول أهمية الفكرة على صعيد الإصلاح لأنها تعالج واقعاً غير صحيح أو غير مقبول، إلا أن التجربة العملية في سورية أثبتت مدى الخطأ الناجم عن الدمج حيث ارتفعت الأسعار ارتفاعاً جنونياً وحدث شرخ كبير بين الدخول والأجور وبين الأسعار، الأمر الذي فاقم أزمات المواطن والوطن.

وأكد الكنج أن الاتحاد العام لنقابات العمال تحفظ على هذه الخطوة منذ طرحها، واليوم يجدد الاتحاد مطالبته  بفصل الوزارتين لأن هذا الدمج لم يحقق النتائج المرجوة منه ولاسيما أن المرحلة التي تمرّ فيها سورية أثبتت أن إلغاء وزارة التموين والحد من صلاحياتها لم يعط النتائج التي حلم بها من اقترح هذا المشروع، مع الأخذ بالحسبان أن إعادة وزارة التموين ضرورة حقيقية يفرضها واقع السوق والأسعار والأوضاع الاجتماعية التي تمر فيها البلاد حالياً، ولو كانت إعادتها بآلية وهيكلية وتكوين جديد شرط تمكينها من ضبط الأسواق والحد من مغامرات الأسعار وضرورة إناطة مسألة الجودة بالتوازن مع الأسعار.

وأضاف الكنج: إن الاتحاد العام لنقابات العمال حذّر في مختلف مؤتمراته النقابية ودورات المجلس العام على مدى السنوات العشر الماضية من الأثر السلبي للسياسات الاقتصادية التي انعكست سلباً على العمال ولاسيما محاولات خصخصة القطاع العام وتحرير الأسعار وانتشار البطالة وتراجع دور الدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والاتحاد يرى أن حالات الدمج كان من الممكن أن تكون صحيحة وسليمة إذا كانت حالة الدمج ستؤدي إلى تفعيل العمل وتخفيض التكاليف وزيادة الإنتاجية، لكنها لم تثبت ذلك بل إن عملية الدمج نسفت البنية التحتية المستقرة لكل وزارة، وأسهمت في فلتان الأسواق، وهنا تساءل الكنج: لماذا لا يتم تعيين مراقبي تموين في كل المحافظات السورية يناط بهم ضبط الأسعار، الأمر الذي سيفتح المجال أمام إيجاد المزيد من فرص العمل للشباب والحد من البطالة..؟

وختم الكنج: إن الاتحاد العام للعمال يرى أن مصلحة الوطن والمواطن تكمن في تعزيز دور الدولة في قيادة العملية التنموية وأن تقوم الدولة بضبط الأسواق والتوسع بالتدخل الإيجابي للدولة في هذا الشأن بعد أن أثبتت الأزمة الحالية التي تحولت اليوم إلى أزمة اقتصادية تجتاح العالم أن مقولة: إن السوق يضبط ذاته بذاته قد سقطت وثبت بطلانها، الأمر الذي يقتضي ضبط الأسواق من قبل الدولة والحد من تحريرها والعمل على مراقبتها.

قرار ليس في مكانه

عدنان دخاخني- رئيس جمعية حماية المستهلك تحدّث لـ(تشرين) عن دمج وزارتي التموين والاقتصاد موضحاً أن الحكومة السابقة اتجهت نحو تطبيق اقتصاد السوق الاجتماعي ما أدى إلى تحرير العديد من السلع التي كانت وزارة التموين تتابعها من خلال دراسة الاسعار وإيصال السلعة إلى المستهلك بالسعر المناسب، لكن سياسة السوق الاجتماعي عمدت إلى تحرير الأسعار للعديد من السلع وتركت المنافسة للسوق، لذلك ارتأت الحكومة السابقة في ظل هذا النهج الاقتصادي الجديد دمج وزارتي الاقتصاد والتموين ولاسيما أن عمل وزارة التموين تقلص بعد تحرير الأسعار وكان الهدف من الدمج آنذاك بحسب القرار الذي تم اتخاذه تخفيض التكاليف في وزارة واحدة.

وأكد دخاخني: إننا منذ البداية كجمعية حماية مستهلك لم نؤيد هذا القرار الذي لم يكن في مكانه كون الوزارتين، أي وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية ووزارة التموين والتجارة الداخلية مختلفتين تماماً عن بعضهما من حيث العمل والأنشطة التي تمارسانها، فوزارة الاقتصاد تعنى بعملية الاستيراد والتصدير، بينما وزارة التموين تعنى بالرقابة على الأسواق والسلع وضبط حالات الغش والتزوير والتأكد من صحة وسلامة الأسعار الموجودة في الأسواق، حتى إن دمج مديريات الاقتصاد بجمعية حماية المستهلك لم تكن في مكانها لاختلاف عملهما بشكل كامل.

السطل: الفصل بات ضرورياً بين الوزارتين دخاخني: قرار الدمج كان خاطئاً ولم نؤيده

وأضاف دخاخني: إننا كجمعية حماية مستهلك نؤكد على ضرورة فصل هاتين الوزارتين عن بعضهما وإعادة كل وزارة إلى عملها السابق لأن هذا الدمج لم يأتِ بنتائج إيجابية، بل كان خطوة في غير محلها حيث اختلط الحابل بالنابل لغياب التخصص لأن موظف التموين له اختصاص هو مراقبة الأسعار ومتابعة الأسواق بينما موظف الاقتصاد عمله الأساسي تسهيل الإجراءات ومنح موافقات الاستيراد والتصدير، وهذا العمل مختلف كلياً عن عمل مراقب التموين.

وختم دخاخني: إن زيادة عدد مراقبي حماية المستهلك قد يكون مفيداً لأن الوقاية هي الأساس وتالياً تأمين السوق من خلال زيادة عدد المراقبين النزيهين والمدربين والأمينين على مصالح البائع والمواطن، لذلك نحن كجمعية حماية مستهلك نطالب بإعادة وزارة التموين والعمل على تطوير قانون موحد لحماية المستهلك ليشمل كل القوانين السابقة وإيجاد هيئة متخصصة لحماية المستهلك أسوة بغيرها من الهيئات تعطى الدعم البشري والمادي اللازم.

الفصل بات ضرورياً

جمال السطل- أمين سر جمعية حماية المستهلك أوضح أنه في عام 2003 في ظل الحكومة السابقة تم إصدار صك قانوني بدمج وزارتي التموين والتجارة الداخلية بوزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية وسميت بوزارة الاقتصاد والتجارة، وهنا تساءل السطل عن المعطيات في ذلك الوقت التي اقتضت هذا الدمج..؟

برأي السطل، كانت بدايتها من عام 2000 عندما بدأت مظاهر وسياسات اقتصاد السوق الاجتماعي والتي ارتبط بها تحرير الأسعار والتي تنص على أن السعر يتحدد في السوق من خلال العرض والطلب، وتالياً لم يعد برأي الذين أصدروا الصك القانوني للدمج حاجة إلى وزارة التموين بصفتها ضابطة للسوق والأمر اتجه نحو الدمج.

وهنا نبّه السطل إلى أمر وهو أنه لم يتم دمج المديريات في المحافظات في مديرية واحدة، حيث كان يوجد مديرية للاقتصاد ومديرية للتموين، أي أن المديريات بقيت منفصلة على أساس مديرية اقتصاد معنية بمنح تراخيص الاستيراد والتصدير ومديرية تموين بقيت مسؤولة عن السوق، والمشكلة برأي السطل أن هذا الدمج أدى إلى عدم الاهتمام بالقطاع العام للتجارة الداخلية بدليل أن وزارة التموين المعنية بالتجارة الداخلية بقيت في ابن النفيس والوزارة المعنية بالتجارة الخارجية في الصالحية، ومن هنا أصبح الاهتمام بالسوق وبالقطاع العام والتجارة الداخلية ضئيل، ولاسيما في ظل ما يمر فيه القطر من أزمة بات فيها من الضرورة العودة عن قرار الدمج بين الوزارتين وفصلهما عن بعضهما، ولاسيما أن هذا الأمر قد تم في دول مجاورة وقريبة إلينا مثل جمهورية مصر العربية حيث تم فيها دمج وزارة الاقتصاد مع وزارة التموين، ومن ثم تم الفصل وعودة وزارة التموين إلى عملها السابق لأن الغاية هنا، وبحسب السطل، أن تكون هناك جهة مسؤولة عن السوق الداخلية وعن الأسعار وعن ضبط المخالفات والإشراف على مؤسسات التوزيع التابعة للقطاع العام.

وختم السطل بأن الفصل بات ضرورياً بين الوزارتين لاختلاف الظروف التي كانت قائمة عند الدمج، مؤكداً أن إنشاء هيئة مستقلة لحماية المستهلك ليس لها علاقة بوزارة التموين لأنها لا تشرف على مؤسسات التجارة الداخلية، بل سيكون هدفها ضبط الأسواق بالتحديد، والدمج، برأي السطل، كل ما قدمه هو نقل المشكلات التي تعانيها إحدى المؤسسات إلى المؤسسات الأخرى التي تم الدمج معها بدل أن يتم حلّها.

إعادة تقويم

الدكتور رسلان خضور- المحاضر في كلية الاقتصاد تحدّث لتشرين موضحاً أنه من حيث المبدأ يجب التمييز بين الدمج بين المؤسسات الحكومية والدمج بين المؤسسات الاقتصادية أو بين الوزارات، فدمج المؤسسات الحكومية له غايات مثل تخفيض التكاليف، أو تداخل الصلاحيات بين المؤسسات، فيكون الدمج لتوحيد هذه الصلاحيات وإتباعها لجهة واحدة، أما المؤسسات الاقتصادية فهدف الدمج فيها السيطرة على السوق والحد من التكاليف.

في سورية عمليات الدمج التي حدثت في السنوات الماضية عديدة مثل دمج وزارة الاقتصاد ووزارة التموين بوزارة واحدة، وتجربة أخرى سابقة وفاشلة هي دمج وزارتي الإدارة المحلية ووزارة البيئة سرعان ما تم إعادة فصلهما وإعادة وزارة البيئة إلى دورها السابق.

السؤال الذي يجب أن يطرح -بحسب خضور- هو: هل نجحت تجربة الدمج أم لم تنجح..؟

لا تمكن الإجابة على هذا السؤال بجملة واحدة –كما قال الدكتور خضور- لأننا بحاجة إلى  إعادة تقويم أداء وزارة الاقتصاد والتجارة حالياً ضمن المهام المتعلقة بالتجارة الداخلية، أي التموين، أي أن الأداء بعد عملية الدمج هل تحسن أم تراجع، وفي حال تراجع ما هي الأسباب..؟

على أرض الواقع يرى الدكتور خضور أن النتائج كانت سيئة وهذا يدل برأيه على وجود خلل نتيجة الدمج بين الاقتصاد والتموين، وتالياً نحن بحاجة إلى دراسة علمية ميدانية عن تأثير وأسباب الفشل، ولكن لنكن منصفين أيضاً، ولنطرح السؤال، ولكن بطريقة أخرى: لو افترضنا أن وزارة التموين لاتزال موجودة إلى وقتنا الحالي هل كان وضع الأسواق سيكون أفضل أم أسوأ مما هو عليه الآن..؟

قال خضور: للأسف لدينا مشكلة كبيرة في تطبيق القوانين المتعلقة بحماية المستهلك، وفي آليات التطبيق لأن المؤسسات الحالية غير قادرة بكوادرها وبآليات العمل المتبعة حالياً على تطبيق هذه القوانين. ورأى خضور أن عودة وزارة التموين بحاجة إلى دراسة لتقويم الفترة السابقة تضم اقتصاديين من خارج الوزارة ومن داخلها لأن عودة الوزارة لن يحلّ المشكلة، فالحل ليس بكثرة المؤسسات والوزارات، بل في دعم المديريات المسؤولة بشكل مباشر عن كل قطاع كمديريات حماية المستهلك مثلاً، وبالتالي كل عملية دمج بحاجة إلى إعادة تقويم لاكتشاف نقاط الضعف والخلل والعمل على إصلاحها مع ضرورة تأهيل الكوادر وتحديث آليات العمل المتبعة.

وختم خضور: أشك في أن إنشاء هيئة حماية المستهلك ستكون قادرة على تقديم أي جديد إذا لم تختلف آلية عملها عن آلية العمل المتبعة حالياً، وتالياً نحن بحاجة إلى آلية عمل جديدة، وأنا، كباحث اقتصادي، أرى أن النتائج بعد دمج وزارتي التموين والاقتصاد كانت سلبية للأسف حيث وصلنا إلى مرحلة لم نعد قادرين فيها على حماية المستهلك ليس بالسعر فقط، وإنما الأهم ما يتعلق بمواصفات السلعة ومدى مطابقتها للمواصفات المطلوبة وحماية المستهلك من أخطار مكوناتها إن كانت ضارة.. ولنكن منصفين، إذا فشل الدمج في مكان ما لا يعني أن نعمم الفشل على كل التجارب الأخرى لأن لكل دمج هدف، لذلك علينا أن نسأل دائماً: ما هدف الدمج؟.. أو ما هدف الفصل؟

المصدر :تشرين

سيريا ديلي نيوز

التعليقات