يستحوذ مصطلح «الحرب الاقتصاديّة» على اهتمام الكثير من الباحثين والمتابعين والمعنيين في الحدث السوريّ اليوم، وذلك بالتزامن مع بروز أزمة توريد العديد من المواد الرئيسة، وتأمين تدفقها إلى السوق السوريّة، وما رافقها من حالة استياء في الشَّارع، كانت مواقع التواصل الاجتماعيّ مسرحاً لها.

ترافَقَ ذلك مع إصدار الاتحاد الأوروبيّ عقوبات أحادية الجانب بحقّ عدد من رجال الأعمال في سورية، والحديث عن مشروع قانون «قيصر» الأمريكي الذي يفرض عقوبات أحادية الجانب، موسّعة، تطول كلَّ من يتعامل مع سورية، اقتصادياً وسياسياً.

إنَّ متابعة تطورات الحدث السوريّ بعد ثماني سنوات، يضعنا أمام مرحلة جديدة من التصعيد في محاور الحرب الهجينة، فبعد تراجع شدّة التصعيد في المجالات العسكرية والسياسية؛ كان خيار التصعيد في المحور الاقتصاديّ كفيلاً بإحداث تأثيرات غير متوقعة (لا-خطية) في المجتمع تضغط على الحكومة، وتظهر كشكل من أشكال الحرب الاقتصادية... فما الحرب الهجينة؟ وما علاقتها بالحرب الاقتصادية؟ ولماذا تغيرت محاور التصعيد مع نهاية العام 2018 وبدايات 2019؟ وكيف؟ هذا ما تحاول هذه الورقة الإجابة عنه من منظور مفهوم الحرب الهجينة والحرب الاقتصادية ودورة حياة الحرب.

  • مقاربة لتوصيف الحرب الهجينة (Hybrid Warfare).
  • مفهوم الحرب الاقتصادية (Economic Warfare).
  • دورة حياة الحرب.
  • تطورات الحدث السوريّ: نظرة مُحَمْلِقَة.

 

 

مقاربة لتوصيف الحرب الهجينة (Hybrid Warfare)

توصف الحرب الهجينة بأنها الاستخدام المتزامن لمجموعة من أدوات وعناصر القوة المصمّمة خصيصاً لاستهداف المجتمعات والسياسات العامة، عبر نقاط الضعف فيها، لخلق تأثيرات متآزرة، وصولاً للهدف المعلن للحرب.

هذا، وبحسب دراسة ضمن مشروع حملة تنمية القدرات متعددة الجنسية (MCDC)[1] لمواجهة الحرب الهجينة بعنوان «فهم الحرب الهجينة»[2]، هناك خمس وسائل قوة (MPECI) يتم استخدامها بشكل متزامن، وهي: العسكرية (Military)، السياسية (Political)، الاقتصادية (Economic)، المجال المدني (Civil)، والمعلومات (Information).

يتم التصعيد في الحرب الهجينة عبر محورين: أفقي، ذلك بوساطة الاستخدام المتزامن لوسائل القوة (MPECI)، بشكل كامل، أو انتقائي؛ ومحور عمودي، يتم فيه التصعيد بدرجة استخدام القوة ضمن كل وسيلة أو مجال، وهذا ما يوضحه الرسم البياني الآتي:

 

 

كما أنّه وفق دراسة الـ (MCDC) فإنَّ وسائل القوة المختلفة تستخدم بأبعاد ومستويات متعددة، في الوقت نفسه، لخلق حزم هجومية متزامنة (SAP¢s)[3] مصمّمة خصيصاً لضرب الكيان المستهدف في نقاط ضعفه، علماً بأنَّ وسائل القوة المستخدمة تعتمد على إمكانيات الكيانات التي تدير الحرب الهجينة، ونقاط الضعف في المجتمعات المستهدفة، إذ يتم استخدام وسائل القوة بتزامن مصمّم بطرق غير مألوفة، لجعل إمكانية توقعها غاية في الصعوبة بالنسبة للكيانات المستهدفة.

تقوم إدارة الحرب الهجينة على الاستخدام الدقيق لعناصر الإبهام، والتطور التكنولوجي، لتنفيذ هجمات غير منظورة، بمعنى أنها تبقى دون عتبات الكشف والاستجابة من قبل الكيان المستهدف، وذلك لإعاقة عملية صنع القرارات اللازمة للردّ عليها، وجعلها أكثر صعوبة، لذا فإن حملة الحرب الهجينة لا تمكن ملاحظتها إلا بمرور وقت على تنفيذها، ومن ثم بروز تأثيراتها الضارة بإضعاف قدرة الهدف على الدفاع عن نفسه.

توفر المسائل الموضحة أعلاه أساساً لتوسيع نطاق تحليل التهديد التقليديّ الذي يركز على العدو. ولهذه الغاية، يركز نموذج الإطار التحليليّ للحرب الهجينة الذي تعرضه دراسة الـ (MCDC) على نقاط ضعف المدافع، وقدرة المهاجم على مزامنة مجموعة واسعة من قدراته أثناء هجومه، والتأثيرات التي تنشأ نتيجة لهذه الإجراءات، وعليه، يستند الإطار التحليليّ على ثلاثة تصنيفات، هي:

  • الوظائف الحرجة ونقاط الضعف لدى المدافع.
  • تزامن وسائل القوة لدى المهاجم (التصعيد الأفقيّ).
  • التأثيرات واللاخطية.

إنَّ الوظائف الحرجة هي أنشطة أو عمليات موزعة عبر الطيف السياسيّ والعسكريّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والمعلوماتيّ والبنى التحتية (PMESII)[4]، والتي إذا توقفت يمكن أن تؤدي إلى تعطيل الخدمات التي تقدمها الدولة والتي يعتمد عليها المجتمع بشكل رئيس.

يمكن تقسيم المهام الحرجة إلى مجموعة من الجهات الفاعلة (الأفراد أو المنظمات) والبنى التحتية (شبكات الطاقة... وغيرها) والعمليات (القانونية/القضائية، التقنية، السياسية... إلخ).

هذا، ولجميع الوظائف الحيوية نقاط ضعف، تشكل فرصاً للاستغلال من قبل المهاجم في الحرب الهجينة، وذلك بناءً على الوسائل المتاحة لديه، وهنا، من المهم إدراك أن ليس جميع نقاط الضعف، بالضرورة؛ تقدم كفرص على الخصم استغلالها، إذ، قد يختار الخصم عدم استغلال نقطة ضعف معينة، اعتماداً على مقاصده من ذلك.

وتبين الدراسة أنَّ مواجهة الحرب الهجينة تتطلب تقييماً للوظائف الحيوية، والترابط بين هذه الوظائف، ومواطن ضعفها، وهذا يتطلب عملية تقييم للمخاطر تكون حساسة لنقاط الضعف في السياسات العامة والمجتمع بوجهٍ عام، وليس فقط داخل القطاع العسكريّ أو الأمنيّ.

أما بالنسبة لتزامن وسائل القوة لدى المهاجم (التصعيد الأفقي)، فالمقصود به قدرة المهاجم على تنسيق استخدام وسائل القوة (MPECI) بفعالية، في الزمان والمكان والغرض المناسبين لخلق التأثيرات المطلوبة، وتعد القدرة على مزامنة كافة الوسائل العسكريّة وغير العسكريّة في الوقت نفسه، وفي ساحة المعركة نفسها؛ سمة رئيسة، للمهاجم في الحرب الهجينة.

مستطيل مستدير الزوايا: إن التأثيرات في الحرب الهجينة تُفهم على أنها تغيير لحالة كيان ما، وهي نتائج للإجراءات المتزامنة، المصمّمة لضرب الكيان المستهدف في نقاط ضعفه.يتيح تزامن استخدام وسائل القوة للمهاجم إمكانية التحكّم بالتصعيد أفقياً، بدلاً من التصعيد الرأسي (شدة استخدام وسيلة القوة) فقط، وبالتالي توفير مزيد من الخيارات أمامه، وعلى سبيل المثال، من خلال التصعيد على طول المحور الأفقي عبر طيف الـ (MPECI) عبر المزامنة بين وسائل قوة مختلفة؛ يمكن للمهاجم في الحرب الهجينة أن يبقى دون عتبات معينة من الكشف والاستجابة، من قبل المدافع، لذلك يمكن باستخدام هذه الطريقة تحقيق ضغوط أكبر، مقارنة بالتصعيد، عبر رفع درجة استخدام وسيلة قوة واحدة كالعسكرية.

بعبارة أخرى، إن التصعيد الأفقي يمكّن المهاجم في الحرب الهجينة من خلق تأثيرات مشابهة، أو حتى أكبر، من تطبيق الضغط العلنيّ المتزايد في وسيلة قوة واحدة كالعسكرية أو السياسية، كما يسمح التزامن بتخفيض واحد أو أكثر من أدوات القوة و/أو التبديل بين وسائل القوة مع الحفاظ على التصعيد العام عند مستوى معين، أيضاً، يمكن استخدام وسيلة واحدة للتدابير التعويضية، مثل الجزرة، في حين أنَّ بعضاً آخرَ يستخدم للضغط وسيلة، مثل العصا.

في جوهر هذا المدخل التحليلي، يوفر التزامن والتصعيد الأفقي للمهاجم خيارات أكثر مما لو كان يستخدم تصعيداً رأسياً غير متزامن، والأهم من ذلك بحسب دراسة الـ (MCDC) أنَّ الكثير مما يحدث في المحور الأفقي يمكن أن يكون غامضاً، أو غير مرئيّ كالعمليات السيبرانية مثلاً.

أخيراً، فيما يخص التأثيرات واللاخطية كمدخل تحليلي، فإن التأثيرات في الحرب الهجينة تُفهم على أنها تغيير لحالة كيان ما، وهي نتائج للإجراءات المتزامنة، المصمّمة لضرب الكيان المستهدف في نقاط ضعفه.

إنَّ قدرة المهاجم في الحرب الهجينة على استخدام متزامن لوسائل القوة المختلفة، تستهدف نقاط ضعف محددة في الكيان المستهدف، لخلق تأثيرات، تجعل من الصعوبة بمكان تمييز سلسلة أحداث خطية سببية لها، فكلما ازدادت العناصر الموجودة في مزيج وسائل القوة المتزامنة؛ ازدادت صعوبةً ملاحظة أي علاقة سببية فيما بينها، بحيث لا يؤدي الإجراء (A) بالضرورة إلى النتيجة (B)، وعلاوة على ذلك، قد يؤدي الإجراء نفسه إلى تأثير مختلف، في سياق مختلف.

رغم أنه يمكن تحليل التأثيرات من خلال نتائج الإجراءات المحددة التي يتم اتخاذها ضد أهداف معينة، على سبيل المثال، يؤدي تفجير سد إلى حدوث فيضان ينتج عنه مقدار من الضرر بسبب تدفق المياه المحبوسة وراء السد، إلا أنه في بعض أشكال السببية تتأخر ملاحظة التأثيرات، وفي حالة اللاخطية يكون التحليل، وبخاصّة التنبؤ القائم على الأمثلة التجريبية، أمراً بالغ الصعوبة، إذ تكمن المشكلة في أنه لا يمكن ملاحظة تأثيرات اللاخطية إلا بمجرد ظهورها، وهذا من أبرز سمات تأثيرات الحرب الهجينة.

 

 

مفهوم الحرب الاقتصادية (Economic Warfare)

كان مفهوم الحرب الاقتصادية يُستخدم تقليدياً كأداة تكميلية للنزاع المسلح، وذلك عبر الضغوط الاقتصادية على الدول المستهدفة، أما حالياً، فأصبح يعبّر عن أسلوب جديد لإعلان الحرب.

وفي هذا السياق، سلّطت دارسة حديثة نسبياً (2016) بعنوان «الحرب الاقتصادية المعاصرة» الضوء على الجوانب المفاهيمية الحديثة للحرب الاقتصادية، حملت توقيع الدكتور ميروسلاف كرو أستاذ الاقتصاد والإدارة في جامعة مساريك التشيكية، بالتعاون مع الدكتور فيندولا هينكوفا من التشيك أيضاً[5].

هذا، وبحسب الدارسة، فإن ميزان القوى بين الدول لا يعتمد بشكل كبير على تقييم القوة المسلحة التقليدية، فبعد نهاية الحرب الباردة أصبح الاقتصاد هو المعيار الرئيس لمستوى قوة الدولة إقليمياً وعالمياً، ويقوم هذا النهج الجديد في قياس القوة على المؤشرات الاقتصادية، وليس فقط على الإمكانات العسكرية.

مستطيل مستدير الزوايا: إن الحرب الاقتصادية لها تأثيرات سلبيّة في المواطنين، واستخدام الأدوات والوسائل الاقتصادية كأسلحة يعني إحداث خسائر اقتصادية، ليس فقط للبلد المستهدف، بل للدول التي تستخدم تلك الوسائل والأدوات أيضاً.

كما أنه خلال المواجهات بين الدول، يتم استخدام نقاط الضعف باعتماد الدول المستهدفة على المصادر الخارجية كالمساعدات المالية، من أجل تخفيف أو إضعاف قوة الدولة اقتصاديّاً، وهنا، عملياً لا تستخدم وسيلة القوة العسكرية، وتستخدم حالياً الموارد الطبيعية، الطاقة، الصناعة، السندات، وانسياب البضائع والخدمات... وغيرها، كأدوات لتحقيق أهداف السياسة الخارجية، وتعدّ العقوبات الاقتصادية مثالاً تقليدياً للحرب الاقتصادية، التي تستخدمها الدول إلى جانب التحرك العسكريّ.

يُعبّر مفهوم الحرب الاقتصاديّة التقليديّ عن التكتيكات الاقتصادية للنزاع المسلح، أما حالياً فهي إحدى وسائل إعلان الحروب، وأصبحت تأخذ عدة أشكال واسعة التطبيق، ومفضّلة أكثر من النزاع المسلح، وتستهدف الصادرات بشكل رئيس، ضمن الإجراءات التجارية العدائية.

إنَّ العقوبات الاقتصادية التي تسمّى الإجراءات التقييدية بحقّ الدول المستهدفة؛ تفرضها الدول أو الكيانات الدولية مثل الاتحاد الأوروبي، بما ينسجم مع مبادئ سياساتها الخارجية والأمنية.

هذا، وبوجهٍ عامٍّ، يفرض الاتحاد الأوروبي، مثلاً، إجراءات تقييدية، لإحداث تغيير في سياسات وأنشطة الدول المستهدفة، لتشمل القطاعين العام والخاص.

وتبين الدراسة أن الحرب الاقتصادية، وبخاصّة العقوبات، مثل الحظر، الحصص التجارية، التعرفات، تجميد الأموال... إلخ، لها تأثيرات سلبيّة في المواطنين، كما أن استخدام الأدوات والوسائل الاقتصادية كأسلحة يعني إحداث خسائر اقتصادية، ليس فقط للبلد المستهدف، بل أيضاً للدول التي تستخدم تلك الوسائل والأدوات.

وتعرض الدراسة لتصنيف اقتصاديٍّ للعقوبات، ضمن قائمتين، سلبية وأخرى إيجابية، إذ تضم القائمة السلبية كلّاً من الحظر، والمقاطعة، زيادة الرسوم والتعرفات التميزية غير المرغوبة، الإقصاء، الإغراق، القائمة السوداء، حصص الواردات والصادرات، رفض التراخيص، تجميد الأصول، تقييد حركة رؤوس الأموال، الضرائب العكسية، إيقاف المساعدات، إيقاف مدفوعات المنظمات الدولية، والتهديد بكل تلك الإجراءات.

أما القائمة الإيجابية، فتضم كلّاً من تخفيض التعرفات والتجارة المباشرة والأفضلية في الترخيص، المساعدات الداعمة، الضرائب المفضلة، التمييز في التعرفات التجارية المفضلة، ضمانات الاستثمار، التحريض على استيراد وتصدير رأس المال، والوعود بتلك الإجراءات.

وتخلص الدارسة إلى أنَّ خطة إدارة الحرب الاقتصادية هي جزء من الخطة الاستراتيجية الشاملة للتحضير للحروب والخوض فيها.

هذا، ولأهمية الحرب الاقتصادية، هناك مداخل رياضية متقدمة تستخدم لتحليل تأثيرات الحرب الاقتصادية في الأطراف المرتبطة بها كافةً، وتحديد القطاعات الواجب استهدافها، وطريقة ودرجة الاستهداف، وذلك للتأثير سلباً في دخل وإنتاج الدول المستهدفة في الحرب الاقتصادية، وفي هذا الخصوص، هناك ورقة بحثية بعنوان «تحليل الحرب الاقتصاديّة»، نشرت في العام 2013 في مجلة أميركية اقتصادية أكاديمية، تعرض لحالة العقوبات الأمريكية على أفغانستان وكيف أثرت في الناتج والدخل[6].

استناداً إلى ما سبق عرضه ضمن أطر مفاهيمية للحرب الهجينة والحرب الاقتصادية، يمكن ملاحظة عدم وجود تعارض بين الشكلين، وإنما انسجام، وتركيز، إذ إنَّ الحرب الاقتصادية كمفهوم، كما ورد سابقاً، تنطبق حالياً على الحالة الذي يختار فيها المهاجم في الحرب الهجينة؛ التصعيد الرأسي (درجة الاستخدام) في وسيلة القوة الاقتصادية، وذلك بدرجة أعلى من بقية وسائل القوة (MPECI)، أو في ظلّ تراجع شدة استخدام/أو القدرة على استخدام وسائل القوة الأخرى، بحسب مرحلة الحرب ضمن دورة حياتها.

 

 

دورة حياة الحرب

كانت مراحل الحرب وطيف العمليات في النزاعات بين الدول محط اهتمام الباحثين في السياسة والعلاقات الدولية، ومن أحدث الإنتاجات النظرية في هذا السياق؛ دراسة نشرت المنظمة الأميركية «strategic bridge» المعنية بشؤون الأمن القومي والقضايا العسكرية إلى جانب التنمية، في 22 كانون الثاني/يناير 2019، بعنوان «دورة الحرب: نموذج لإدارة الحرب» للباحث في أكاديمية قوى الدفاع الأسترالية ألبرت بالازو، تم خلال تقسيم دورة حياة الحرب إلى أربع مراحل رئيسة[7].

إذ بحسب الدراسة، تبدأ الحرب بمرحلة «المنافسة والتعاون» التي تتم فيها محاولة إقناع الدولة المستهدفة للموافقة على شروط الدولة التي بدأت الاستهداف، من دون استخدام أي أدوات عسكرية، ويتم التركيز في هذه المرحلة على ما تسمّى الأدوات غير الحركية، مثل استخدام أنشطة العالم السيبراني، وبخاصّة وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث يكون العنفُ والحوادثُ نتيجة لإجراءات مُتَّخذة، تسبب اضطرابات داخلية وإجهاداً اجتماعيّاً في الدولة المستهدفة، علماً بأن إشراك المنظمات على اختلافها في العمليات أثناء هذه المرحلة تكون على أساس أنها غير عسكرية[8].

إنَّ المرحلة الثانية هي مرحلة «القوة البعيدة» إذ يتم فيها اللجوء إلى العمليات الحركية، ويبرز هنا دور الجانب العسكريّ لتمكين المنافسين من خلق ما تسمّى «مناطق قتل» في الدولة المستهدفة، وذلك ضمن مناطق محدودة، تأخذ بالتوسع بشكل كبير على الأرض، وإسقاط  تأثيراتها على مسافة كبيرة، ويتم استخدام المقدرات الحركية العسكرية، وما تسمّى الهجمات المعرفية، كما يتم استخدام وكلاء في داخل البلد المستهدف للقتال، إلى جانب دعم المعارضة، علماً بأن الوكلاء يشكلون قوة قريبة، لكنهم بالنسبة للداعمين؛ شكل للقوة البعيدة، ويكون الدور الرئيس هنا للمؤسسات العسكرية.

تنتقل الحرب إلى المرحلة الثالثة، في حال إخفاق المرحلتين السابقتين بتحقق هدف الحرب، وتسمّى هذه المرحلة «القوة القريبة»، إذ يتم فيها تنظيم دور التحركات العسكرية، والمعارك داخل البلد المستهدف، من أجل السيطرة على مناطق القتل التي تم تأسيسها والتوسع فيها سابقاً من أجل كسب الميدان، باستخدام جميع الوسائل الممكنة والتدخل المباشر، وفي حال الفشل في تحقيق أهداف الحرب، يتم الانتقال إلى المرحلة الرابعة وهي «القوة النووية» من باب الاحتمال والترجيح، علماً أن استخدامها فاشل، مع التأكيد أن إخفاق الحرب بتحقيق أهدافها المعلنة لا يعني انتهاء الصراع الذي يأخذ أشكالاً عديدة.

يلاحظ مما سبق أنَّ نظرية دورة الحياة الحرب تنطبق على الحرب الهجينة، إذ تختلف تشكيلة وسائل القوة المستخدمة واتجاهات محاور التصعيد، ودرجاته، من مرحلة إلى أخرى، وهذا ما يقدّم مدخلاً نظريّاً شاملاً يمكن الاعتماد عليه في النظر إلى الحدث السوريّ بشمولية أكبر، بما يشبه نظرة الطائر (bird's eye view) بمعنى النظرة المُحَمْلِقة في الموضوع.

 

 

تطورات الحدث السوري: نظرة مُحَمْلقة

يمكننا تمييز المراحل الثلاث الأولى لدورة حياة الحرب، بوضوح، ضمن سياق الحرب الهجينة ضد سورية، إذ كانت البداية باستخدام مكثف لأدوات الحرب الاقتصادية والإجهاد الاجتماعيّ، مع توسيع مروحة العقوبات الاقتصادية لتشمل التجارة والأصول، بأغلب بنود «العقوبات السلبية»، بمعنى اختيار حزمة هجومية اقتصادية معلوماتية، لشنّ الحرب ضد سورية، عبر تزامن مدروس لوسائل القوة الاقتصادية والمعلوماتية، بشكل رئيس، واستغلال بعض نقاط الضعف في السياسات العامة والمجتمع في هذين المجالين، مع تركيز كبير على البعد المعيشي للمواطن، بهدف الضغط على المجتمع ونقله إلى حالة المعارض للدولة، واستخدام وسائل التواصل الاجتماعيّ والوسائط المعرفية المختلفة للضغط على الدولة السورية، من أجل تحقيق أهداف الحرب  المعلنة بـ «إسقاط النظام السياسيّ والدولة».

إنَّ عدم تحقيق أهداف الحرب في المرحلة الأولى، دفعها إلى المرحلة الثانية، بشكل سريع، بتوسيع الحزمة الهجوميّة، عبر التصعيد الأفقي، والرأسي، لوسائل القوة السياسية، والعسكرية، نوعاً ما، بالتزامن مع وسائل القوة الاقتصادية والمعلوماتية، وذلك عبر دعم المعارضات، وزرع وكلاء في الداخل في ظل موجة اضطرابات واحتجاجات ذات بعد اقتصاديّ واجتماعيّ، لتأسيس ما تسمّى بـ «مناطق القتل»، والعمل على توسيعها لتشمل أكبر مساحة ممكنة من الأراضي السورية، ومن ثم إعطاء وزن أكبر للتحرك العسكري، أي زيادة التصعيد الرأسيّ في المحور العسكري، لأننا أصبحنا نتحدث يومياً عن ضحايا مناطق القتل، وهذا ما تطور بشكل دراماتيكي إلى المرحلة الثالثة مع تدخل مباشر من الدول المشاركة في العدوان على سورية، حيث يسيطر التصعيد العسكريّ على سياق الحرب الهجينة، دون إهمال التزامن مع الحزمة الكاملة الهجومية التي تشمل كافة وسائل القوة، بما فيها البنية التحتية، وذلك في العام 2013، بالتزامن مع تهديدات أمريكية بشنّ عملية عسكرية مباشرة ضد سورية، بذريعة السلاح الكيميائي، واستمر الحال حتى العام 2015، من دون تحقيق الأهداف المعلنة للحرب.

تحول مسار الحرب، العسكري، لمصلحة الدولة السورية، بشكل رئيس، مع نهاية العام 2015، مع دخول روسيا عسكرياً بشكل مباشر، لمساندة الدولة السورية، فبدأ يتراجع دور العمليات العسكرية تدريجياً، نتيجة لاتساع سيطرة الدولة السورية على أغلب مناطق القتل في الميدان، وهذا ما برز بشكل جلي بعد ثماني سنوات من عمر الحرب، حيث شهد العام 2018 تطورات مهمة جداً، تمثلت أولاً بعودة كاملة لنحو 65-70 بالمئة من الجغرافية السورية إلى كنف الدولة، وثانياً، سقوط أهداف الحرب المعلنة، وبروز أهداف جديدة تتمثل بالضغط للحصول على أعلى مكاسب ممكنة في مرحلة إعادة إعمار البلد، وهذا ما اقتضى إعادة هيكلة محاور التصعيد في الحرب الهجينة، بإعطاء أولوية للتصعيد الاقتصاديّ والمعلوماتيّ والسياسيّ، من خلال استغلال نقاط الضعف في السياسات العامة والمجتمع، إذ إنَّ نقاط الضعف أصبحت أسهل استهدافاً وأوسع نطاقاً، نظراً لعدم استفادة الحكومة من دروس الحرب في المرحلة الأولى، مستطيل مستدير الزوايا: لم تتغير طريقة تعاطي الحكومة مع مستجدات الحرب، وترافق ذلك بضعف الخطاب الحكومي، ذلك بتجاهل الأسباب الحقيقية لما وصلنا إليه، ما أسهم في تعزيز حالة انخفاض الثقة بين المواطن وحكومته.وإجراء تقييم دقيق لنقاط الضعف في السياسات العامة وتصميم برامج قادرة على التنبؤ والاستجابة، في ظل إجهاد الحكومة والمجتمع بعد ثماني سنوات حرب، وزيادة مستويات الضغط على الخدمات العامة، بالترافق مع اتساع سيطرة الدولة السورية في الميدان وتجهيز المناطق المحررة وتأهليها لاستقبال الأهالي.

في نهاية شهر تشرين الثاني/نوفمبر من العام 2018، بدأت الحكومة السورية تنتبه إلى تغير محاور التصعيد في الحرب الهجينة، لتأخذ شكل الحرب الاقتصادية، وبرز هذا الأمر بشدة مع بداية العام 2019، حينما بدأ توريد الموارد الرئيسة، وبخاصّةً المشتقات النفطية، بالتراجع الحادّ، وفرض الاتحاد الأوروبي حزمة عقوبات أحادية الجانب على رجال أعمال سوريين يعملون في مجال البناء والتجارة، وبرز الحديث عن مشروع قانون «قيصر» الأمريكيّ لفرض عقوبات موسَّعة على كل من يتعامل سياسياً واقتصادياً مع سورية، الأمر الذي ولّد حالة استياء لدى الشَّارع السوريّ، كان مسرحها صفحات مواقع التواصل الاجتماعيّ، إذ يصعب على هذا الشارع نفسه تقبّل العودة إلى الظروف المرافقة لذروة الحرب، بعد التنعم بتحسن كبير في مستويات الأمان والخدمات والاستقرار النسبيّ في سعر الصّرف والأسعار لأكثر من عام ونصف العام.

أمام هذا الواقع، لم تتغير طريقة تعاطي الحكومة مع مستجدات الحرب، وترافق ذلك بضعف الخطاب الحكومي، ذلك بتجاهل الأسباب الحقيقية لما وصلنا إليه، أو تسويق الأسباب الحقيقية بطريقة استفزازية، ما أسهم في تعزيز حالة انخفاض الثقة بين المواطن وحكومته، وهذا يعني زيادة في حساسية نقاط الضعف في السياسات العامة والمجتمع، إلى جانب الفساد وغياب نسبي للعدالة في توزيع أعباء المرحلة، وهي ما يعطي تأثيراً أكبر للتصعيد في المحورين الاقتصاديّ، والمعلوماتي (وبخاصّة عبر مواقع التواصل الاجتماعي)، بهدف الضغط على الحكومة والمجتمع لتحقيق أهداف الحرب الجديدة، والمرتبطة بإعادة الإعمار، وفرض شروط التفاوض على الدولة السورية في هذا السياق.

أمام هذا الواقع، نقترح على الحكومة السورية الانتباه إلى النقاط الآتية:

  • رصد تطورات الحرب الهجينة ضد سورية بشكل دقيق، واحتمالاتها، بعيداً عن الانفعال، والمبالغة في التقديرات، لمحاولة التقليص من تأثيراتها اللاخطية.
  • إعادة تقييم المخاطر المحتملة جراء اشتداد الحرب الهجينة في محورها الاقتصادي، لتبيان نقاط الضعف في السياسات العامة بخاصّة، والمجتمع بعامّة، دون اقتصارها على القطاعات العسكرية والأمينة فقط.
  • تشكيل فريق وطني من الاقتصاديين بمختلف الاختصاصات، وخبراء السياسة والاجتماع، تكون مهمته رصد ومتابعة أشكال الصراع على سورية، بأساليب منهجية، تقدم إطاراً استراتيجيّاً، لصنّاع القرار في الحكومة، يضمن تكامل السياسات العامة، ويحول دون تضاربها كما هو حاصل حالياً.
  • تحويل تعظيم الثقة بين الحكومة والمواطنين إلى مشروع وطني حقيقي، يُحدَّد له إطارٌ منهجيٌّ تنفيذيٌّ واقعيٌّ وفعّال، في المجالات الاقتصادية والخدمات العامة... وغيرها.
  • الانتقال بالحديث عن محاربة الفساد إلى مرحلة المحاسبة العلنية المناسبة.
  • تفعيل مشاركة المواطن بشكل حقيقي في القرار، بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعيّ، وتطوير أداء مجلس الشعب في هذا المجال، واعتماد تجربة البث المباشر لجلسات مجلس الشعب وبعض جلسات الحكومة التي تخصص لمناقشة مشاريع القوانين، بشكل استثنائي، على اعتبار أن جلسات الحكومة سريّة.

التفاعل الإيجابيّ (بمعنى الاستيعاب) مع ما ينشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي والأدوات الرقمية للمجتمع الافتراضي، والابتعاد عن الصيغ الاتهامية، وتحديد الطرق العلمية المناسبة للتعامل مع هذا الفضاء الرقميّ، وهنا يمكن تشكيل مجموعات عمل من متخصّصين وخبراء في علم الاجتماع وعلم النفس والإعلام، وذلك لتحديد السياسات الحكومية المثلى للتعاطي مع هذه المنصّات الرقمية وتطوير آليات وأشكال تواصل الحكومة مع المواطنين ومحتوى الخطاب الموّجه لهم بناءً على مبدأ الشفافية الذي طالما أكد عليه رئيس الجمهورية بشار الأسد في خطاباته.

 


[1] Multinational Capability Development Campaign.

[2] “MCDC Countering Hybrid Warfare Project: Understanding Hybrid Warfare”, Multinational Capability Development Campaign (MCDC), January 2017.

https://assets.publishing.service.gov.uk/government/uploads/system/uploads/attachment_data/file/647776/dar_mcdc_hybrid_warfare.pdf?fbclid=IwAR1-gY-DRTUvI_RoUbjv3XFubjxubEyweJrS0KXf0BkpT1-7V6lBM4Mtykg

[3] Synchronized Attack Packages.

[4] Political, Military, Economic, Social, Information, Infrastructure.

[5] Miroslav Krč and Vendula Hynková, “Current Economic Warfare”, The 10th International Days of Statistics and Economics, Prague, September 2016.

https://msed.vse.cz/msed_2016/article/101-krc-Miroslav-paper.pdf

[6]  Jeffrey Clemens, “An Analysis of Economic Warfare”, American Economic Review, Papers & Proceedings 2013. https://pdfs.semanticscholar.org/ff38/0d33d8dd36566989b2a5aea325e76dbd1cb5.pdf

 

[7] By Albert Palazzo, “The War Cycle: A Model for Managing War”, Real Clear Defense, 22 January 2019.

https://www.realcleardefense.com/articles/2019/01/22/the_war_cycle_a_model_for_managing_war_114128.html

[8] تم الاستفادة من هذه الدراسة في مقال للباحث حول الحرب الاقتصادية في سورية من مداخل دورة حياة الحرب والاقتصادي العصبي، نشرته صحيفة الاقتصادية بعددها الصادر بتاريخ 10/2/2019، لذا تم الاستعانة بأجزاء من النص الوارد في المقال، في هذه الورقة، وذلك لتقاطع الموضوعين في بعض النقاط.

 

 

            علي نزار الآغا

مركز دمشق للأبحاث والدراسات

                   مِداد

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات