بين فترة وأخرى تطالعنا الأخبار بقرار حجز احتياطي للأموال المنقولة وغير المنقولة، لشخصية ما تشغل موقعاً إدارياً في أي مؤسسة من المؤسسات العامة، لتقوم بعدها الدنيا ولا تقعد ولاسيما إن كانت تشغل موقعاً مهماً، ربما أغلبية الناس لا تعلم أن الحجز لا يعني اتهاماً لأحد أو إدانة أو لا يعني اختلاساً للمال العام في أي إدارة، وهذا يعني أن الموضوع يصبح بعهدة القضاء ريثما تظهر نتائج التحقيق، وهذا بالتأكيد يستغرق وقتاً طويلاً، ما يؤثر سلباً في الأشخاص، ولاسيما البريئة ذمتهم من هذا الموضوع.

يؤكد أصحاب الخبرة أن الحجز هو من مبدأ المحاسبة إلا أن في طريقته جانباً من الظلم عندما تتم محاسبة أشخاص على أخطاء غير مقصودة ولم يجنوا من خلالها أي مكاسب شخصية ويتم وضعهم في خانة واحدة مع الأشخاص المتعمدين الخطأ لتحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة.

بينما يرى من وقع عليهم الحجز أن هذا الإجراء هو ضريبة المسؤولية التي يتم في الغالب تحميلها للصغار ويخرج منها الكبار.

رئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية محمد برق يقول: إن هذا الإجراء هو تدبير احترازي لحفظ المال العام، ولا يعني من يصدر بحقه قرار حجز احتياطي أنه متهم ولا حتى مدان، لافتاً إلى أن قيمة الأموال المطلوب استردادها لعام 2017 تزيد على سبعة مليارات ليرة سورية تتعلق بـ99 قضية، بينما وزارة العدل تشترط اتخاذ القرار بسرية تامة وسرعة حتى لا يتسنى للبعض تهريب أموالهم… إذاً حقيقة ما الحجز الاحتياطي وما الهدف منه؟.. وبعد اتخاذ الإجراءات اللازمة وتداول هذا الاسم هنا وهناك وووو ماذا بخصوص الشخصية البريئة الذمة؟ وكيف نعيد اعتبارها بعد تلوث سمعتها بالفساد؟.. ترى هل تكفي كلمة شكراً أو (آسفين ظلمناك).. موضوع الحجز على الأموال المنقولة وغير المنقولة ما له وما عليه من وجهة نظر أصحاب الشأن تناولته «تشرين» في هذا الملف..

ضريبة المسؤولية

فترة عصيبة في سجل تاريخ كل شخص صدر بحقه حجز وتعد مدمرة له على كل الجوانب وأولها الصحية والاجتماعية، إذ رغم حصول البعض على قرار المحكمة بالبراءة أو عدم المسؤولية، وتالياً رفع الحجز الاحتياطي عنهم، لكن ذلك لم يشفع لهم أو ينظف تاريخهم الوظيفي ولم يعد لهم اعتبارهم أو حفظ ماء وجههم، سواء أمام مؤسستهم أو أمام مجتمعهم، فالذاكرة الجمعية لا تنسى شيئاً..

قصة مدير عقود سابق

قبل سنوات شغل عبد الفتاح تمر آغا- مدير دائرة العقود في المؤسسة العامة للطيران المدني، وبناء على نتائج تحقيق بعثة الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش المتعلق بتوريد تجهيزات وأجهزة كشف حقائب لمطار دمشق الدولي التي تم توريدها استناداً إلى توصية اللجنة الاقتصادية تاريخ 2/1/2002 ووفق طلب عروض أسعار دولي عن طريق مديرية الطيران المدني يحقق أفضل الشروط الفنية، ولمخالفتها للمواصفات الفنية تم إبلاغ الهيئة من قبل الإدارة بوجود مخالفات للمواصفات الفنية لتلك الأجهزة، ليتم تحميل المسؤولية له ولآخرين، إضافة لتغريمهم بتسديد مبلغ يزيد على خمسة ملايين دولار، ليدخل بعدها متاهة القضاء التي استمرت خمس سنوات من 2007- 2012، ثم صدر قرار رفع الحجز الاحتياطي عن أمواله بناء على قرار محكمة الجنايات الثالثة في دمشق، المتضمن إعلان عدم مسؤوليته، إضافة لأشخاص آخرين عن الجرم المسند لهم، وذلك لعدم توافر أركان وعناصر الجرم.

لمجرد الحضور!

لن تنتهي القصة هنا – يضيف تمر آغا- بعدها عدت إلى عملي، وبعد تقديم تسعة كتب تظلمات لوزير النقل آنذاك وبناء على قراره بإعادة اعتباري، والاستفادة من خبراتي، سواء في مكاني السابق أو حتى في أي قسم آخر، لكن المسؤولين لدى المؤسسة لم يأخذوا بكتاب الوزير، وكل صباح أحضر لمجرد الحضور فقط… يختم حديثه متسائلاً: هل هي ضريبة المسؤولية؟ لست أنا إلا أداة تنفيذية أنفذ قرار اللجنة الاقتصادية وإدارتي، لكن ما يحدث أنه يتم تحميل المسؤولية للصغار ويخرج منها الكبار!

شبهة عالقة

قد يكون من المتعب الغوص في تفاصيل القانون لتحري أحداث ونتائج قضية ما، وقد يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، لكن أن تستمر شبهة ما على أحدهم ما يزيد على أربع سنوات متواصلة، لتتم فيما بعد تبرئته قضائياً، لكن مع بقاء استمرار الشبهة عالقة به.. هو ما يثير التساؤل، ذاك بعض مما حصل مع محمد حسن- مدير سابق في المؤسسة العامة السورية للتأمين، كاشفاً عن مجريات إلقاء الحجز الاحتياطي على أمواله المنقولة وغير المنقولة التي تعود بالتاريخ إلى بداية عام 2014 حينما تقدم بصفته معاون مدير عام ومدير حسابات مع ثلاثة من المديرين المركزيين لمدير عام المؤسسة المذكورة بمذكرة تشمل حيثيات صرف عمولة لأحد وكلاء المؤسسة مع اقتراح صرف عمولة مناسبة له، وبعد حوالي ثمانية أشهر صدر قرار من الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بكف يد المدير العام بتهمة صرف عمولة غير مستحقة للوكيل المذكور.

إساءة للسمعة

وبعد سيل من الاستجوابات وحملات التشهير المقصودة وغير المقصودة التي سبقت حكم القضاء، يضيف حسن: «تم إعفائي من منصب معاون مدير عام مع بقائي بمنصب مدير حسابات من قبل المدير العام الجديد المكلف، وهنا تقدمت بطلب إعفائي من منصب مدير الحسابات، مستغنياً عن أي ميزة من شأنها تشويه سمعتي المهنية، بعد مسيرة طويلة من العمل المضني وخاصة خلال سنوات الحرب قضيتها متنقلاً بين حمص والشام لتسيير أمور العمل في أحلك الظروف وأسوئها على الإطلاق، ولاسيما بعد خروج مقر الإدارة العامة للمؤسسة في حمص عن سيطرة الدولة في تلك الفترة.

وصول متأخر

يضيف حسن: بعدها بحوالي تسعة أشهر تم إعفائي من عمل مدير الحسابات، تلاه صدور طلب من مدير الرقابة الداخلية بنقلي خارج المؤسسة واختيار مؤسسة أخرى، مع بقاء المديرين المركزيين المتهمين بمناصبهم من دون نقل، وفي نهاية عام 2015 صدر قرار قاضي التحقيق الأول في دمشق الذي يصح فيه مقولة «أن تصل متأخراً خير من ألا تصل»، والذي قضى بعد سنتين من الأخذ والرد بقرار منع محاكمة قابل للاستئناف، لتنتهي القصة أواخر عام 2016 بصدور قرار قاضي الإحالة برد الطعن، ورغم إبلاغ الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش بذلك لايزال الحجز على أموالي قائماً رغم تبرئة القضاء.

تحت طائلة الحجز

لم تنته قصة حسن بمجرد التعرض لإجراء قانوني احترازي طبق عليه، بل تبعه العديد من الآثار النفسية والمادية التي تحملها الرجل، فإلى جانب الإساءة إلى سمعته الوظيفية في تلك القضية التي يفترض أن تبقى سرية ريثما يصدر القرار النهائي للقضاء بإثبات التهمة أو التبرئة، كما لم يكلف بأي عمل حتى تاريخ إعداد هذا التحقيق بحجة وجود قرار حجز احتياطي، كما تحمل أعباء تصليح سيارة المؤسسة التي تعرض بها إلى حادث على طريق الشام- مصياف، اضطره لدفع 335 ألف ليرة ثمن تصليح سيارة المؤسسة المخصصة باسمه، إلا أن ملكيتها تعود للمؤسسة وليست من أملاكه الشخصية، وعندما راجع المؤسسة لقبض التكاليف التي دفعها لأن السيارة مؤمن عليها، رفضت الأخيرة صرف أي مبلغ بحجة أن أمواله مازالت تحت طائلة الحجز رغم تبرئة القضاء له!!.

لحفظ المال العام

يؤكد رئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية محمد برق أن الحجز الاحتياطي هو تدبير احترازي لحفظ حقوق الخزينة العامة تجاه الأشخاص الملقى عليهم الحجز، إذ إن هذا الإجراء يمنعهم من تهريب أموالهم إلى أن تظهر نتيجة الدعوى أمام القضاء، مشيراً إلى أنه يمكن إلقاء الحجز في حال وجود ما يشير إلى هدر أو ضياع للأموال العامة، وهذا لا يعني اتهاماً لأحد بالسرقة أو الإدانة إنما مجرد إجراء لحفظ المال العام، وقد يصل الأمر أحياناً إلى إصدار قرار بمنع الشخص من السفر أو المغادرة ريثما تنتهي التحقيقات في الجهات القضائية.

13 قراراً خلال ستة أشهر

بالأرقام تحدث رئيس الجهاز المركزي، مبيناً أنه وصلت قيمة المبالغ المطلوب استردادها نحو 7.6 مليارات ليرة تتعلق بـ99 قضية وذلك لعام 2017، ووصلت قيمة المبالغ المستردة أكثر من مليار ليرة سورية.

وبلغ عدد قرارات الحجز الاحتياطي للنصف الأول من هذا العام أي من 2/1/2018 وحتى 30/6/2018 نحو 13 قراراً تأمينياً لمبلغ 84923169 ليرة سورية، وتم تعديل خمسة قرارات حجز لمبالغ 253116853 ليرة سورية، وتم رفع الحجز الاحتياطي للفترة نفسها لـ11 موضوعاً تخص مبالغ 9688859 ليرة سورية وللقروض المتعثرة نصيب!

أيضاً طال الحجز أصحاب القروض المتعثرة، حيث تشكل المبالغ المحصلة بقرارات حجز احتياطية جزءاً من القروض المتعثرة.

بكل شفافية تحدث لنا رئيس الجهاز، إذ أكد أن مجموع المبالغ المحصلة من القروض المتعثرة من تاريخ نهاية 2017 وحتى النصف الأول من 2018 تتجاوز الـ125 ملياراً من مجموع الكتلة الإجمالية التي تصل إلى نحو 280 ملياراً، مشيراً إلى أن جزءاً من هذه المبالغ المحصلة أتى بناء على قرارات حجز احترازي، وتم وضع استراتيجية، وتم تحصيلها وفقاً لشرائح بدءاً من قروض الـ500 مليون ليرة، ومازالت اللجان المختصة تعمل في هذا الاتجاه.

يضيف برق أنه يتم رفع الحجز الاحتياطي في حال رغبة المحجوز على أمواله بتسديد مبلغ الحجز، بشرط تسديد مبلغ الحجز مع فوائده القانونية، وأيضاً في حال صدر حكم قضائي قطعي منتهٍ لمصلحة المحجوز عليه بموضوع الحجز، يتم رفع الحجز الاحتياطي في حال تقديم المحجوز على أمواله حكماً قضائياً قطعياً منتهياً إلى إحدى الحالات (رفع الحجز- البراءة- عدم المسؤولية).

900 مفتش على امتداد القطر

كما بقية الجهات العامة لدى الجهاز ما يعانيه من عقبات، فإذا عدنا للمرسوم التأسيسي للجهاز 38 لعام 1938، حيث كان يسمى بديوان المحاسبات، يتضمن محاكم مالية فيها قضاة يحاسبون من يسيء للمال العام، وفي عام 2003 صدر مرسوم /64/ أعاد بموجبه تشكيل الهيكلة وفك الارتباط بوزارة المالية لترتبط برئيس مجلس الوزراء.

يؤكد برق أن الجهاز مستقل بقراره، ولا يمارس عليه أي ضغط باتخاذ القرارات ومن العراقيل التي تعترض سير العمل الحاجة لبناء سيادة قانونية تناسب الظروف الحالية بمعنى بحاجة لمنظومة من القوانين تتمتع بالمرونة، والنقطة الثانية التي تحدث عنها رئيس الجهاز موضوع التعويضات التي مازالت 36% لعام 2013!! التي لا تتناسب والظروف الحالية، فضلاً عن نقص في الكادر التفتيشي، إذ لم يزد على 900 مفتش على امتداد مساحة القطر، ما يعني أن الجهاز بحاجة إلى توسيع الملاك العددي.

الحجز يشترط السرعة والسرية وإلا لا قيمة له

يعرف القاضي والمستشار في محكمة الاستئناف خير الله المقداد أن الحجز هو المنع والفصل بين شيئين، وفي اصطلاح القانونيين يعني وسيلة قانونية شرعها المشرع بيد الدائن ليصل عن طريقها إلى المحافظة على حقه المهدد بالضياع إذا توافرت إحدى الحالات المبررة لإيقاعه التي نصت عليها المواد 314 وما بعدها من قانون الأصول.

وللحجز شروط، أن يكون المال المحجوز عليه من الأموال الصالحة للتنفيذ عليها، فمثلاً لا يجوز حجز الدفاتر والوثائق والمراسلات، لأن هذا الحجز لا يوصل إلى ضمان استيفاء حق بالتنفيذ عليها، ولا يجوز حجز الثمار والمزروعات القائمة قبل نضجها، ولكن يجوز وضعها تحت الحراسة القضائية.

يشير إلى أن من يصدر قرار الحجز هو قاضي الأمور المستعجلة في غرفة المذاكر، أو من قبل دعوة الخصوم، وقد أعطى المشرع استثناء من هذا الأصل المحكمة المختصة بنظر النزاع أصلاً صلاحية إلقاء الحجز الاحتياطي سواء أكانت محكمة صلح أم بداية أم نقض أم محكمة جزائية أم الشرعية لوزير المالية وفق ما خوله القانون أن يلقي حجزاً احتياطياً لمصلحة إحدى الجهات العامة، شرط أن تتقدم بادعاء بأصل الحق أمام المحكمة المختصة ضمن المرحلة القانونية (خلال ثمانية أيام تبدأ من انتهاء التحقيق والتفتيش وإحالة الموظف إلى القضاء أو مجلس التأديب أو المحكمة المسلكية).

وعن إجراءات الحجز الاحتياطي يقول القاضي المقداد: إذا صدر قرار الحجز الاحتياطي إن تنفيذه يكون بإجراءات يتم اتخاذها أمام دائرة التنفيذ المختصة بعد إلزام طالب الحجز بدفع كفالة أمام المحكمة التي أصدرت قرارات الحجز إلا إذا كان طالب الحجز يحمل سنداً للحجز حكماً قضائياً أو سنداً رسمياً واجب التنفيذ وتكون الكفالة مالية نقدية تحدد المحكمة مقدارها تدفع للمحجوز عليه، إذا تبين أن الحاجز غير محق في طلب الحجز، فضلاً عن التعويض الذي يمكن أن يطالب به إذا كان لحق به ضرر من إلقاء الحجز وفقاً للمادة 319 من قانون الأصول، شرط إثبات الضرر، أما الضرر المعنوي وتقديره فيعودان للمحكمة.

ماذا بعد البراءة؟

ما يحصل بعد رفع الحجز من تبعات لا يعلم تفاصيلها إلا الشخص ذاته، فقد يحصل البعض على البراءة من المحكمة إلا أنهم لم تعد لهم حقوقهم من إداراتهم كأن يمارسوا وظائفهم أو حتى الاستفادة من خبراتهم السابقة، إنما ينحصر عملهم فقط في الحضور اليومي للتوقيع! فضلاً عن نظرة زملائهم المليئة بالشك والريبة لهم، وأحياناً عدم الاحترام، وغير ذلك يبين القاضي المقداد أن وزير المالية حينما يلقي الحجز الاحتياطي بصفته الطبيعية وليست الاعتبارية، علماً أن قرار الحجز يشترط السرعة والسرية وإلا لا قيمة قانونية له.

فقط في المحاكم الجزائية

يحق له إعادة الاعتبار!

عن مفهوم إعادة الاعتبار لمن ألقي بحقهم الحجز الاحتياطي، ولماذا لا يحق لهم رفع دعوى على الجهة المدعية عليه في حال البراءة، يؤكد هنا أن الحجز لا يعني اتهاماً أو إدانة، وإنما إجراء لحفظ المال العام، ولكن في الدعاوى الجزائية فقط التي تصدر عنها أحكام اتهام بعد مدة من تنفيذ الحكم الجزائي يحق له أن يطلب إعادة اعتباره بتنظيف سجله العدلي من هذه التهمة، وتالياً يصبح من حقه أن يأخذ لا حكم عليه.

ملاحظات قانونية..

ما تجدر الإشارة إليه -حسب القاضي في عدلية حلب حسين أحمد- أن امتداد صلاحية الوزير بالحجز لتشمل أموال الموظفين وغير الموظفين وزوجاتهم، فيما إذا ألحقوا الضرر أو الخسارة بالمال العام، نتيجة إهمال أو خطأ، بات الشرط الوحيد لممارسة الوزير مثل هذه الصلاحية، هو أن يكون المال الذي لحق به الضرر أو الخسارة هو مال عام، باعتبار صلاحية الوزير في هذا الخصوص، باتت تشمل الموظف وغير الموظف ممن يلحقون الضرر أو الخسارة بالمال العام، وعليه فإن المال المعتبر من المال العام هو المال المعرّف وفق أحكام ومواد القانون المدني، لا سواه من قوانين، ولاسيما القوانين الجزائية، كقانون العقوبات وقانون العقوبات الاقتصادية، باعتبار تعريف المال العام الوارد في هذه القوانين، كان لغايات جزائية هي فرض العقاب، والقوانين الجزائية هي قوانين خاصة، لا يجوز التوسع في تفسيرها أو القياس عليها، محافظة على مبدأ قانونية الجريمة والعقوبة، وهنا يجب إخراج الأموال الخاصة التي نص القانون على معاملتها معاملة الأموال العامة، في معرض معاقبة الأشخاص الذي يرتكبون جرائم بخصوصها، لأن هذه المعاملة كانت من باب الحماية والمحافظة على هذه الأموال وهذه المعاملة لا تجعل المال الخاص من الأموال العام.

صلاحية مشروطة

وعن أحقية أن يعطى وزير المالية كل تلك الصلاحيات قال أحمد: إن القانون أعطى وزير المالية صلاحية واسعة بموضوع الحجز إلا أنها مشروطة وواضحة، إذ من حق وزير المالية أن يصدر قرارات الحجز الاحتياطي، لكن وفق عدة شروط أولها أن يكون المستهدف بالحجز الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للموظفين أو للمحاسبين أو لأشخاص غير موظفين، أو لأي من زوجات هؤلاء. وثانيها أن يكون هؤلاء قد تسببوا بالخسائر أو ألحقوا الضرر بالأموال العامة نتيجة خطأ أو إهمال منهم، وتالياً -حسب أحمد- صلاحية الوزير في الحجز تدور مع هذين الشرطين، وهذا يعني وجوب توافر هذين الشرطين في الحالة، حتى يمكن القول بجواز الحجز احتياطياً على الأموال العائدة لهؤلاء، وإذا ما تخلف شرط من هذين الشرطين لم يعد من المقبول أو الجائز القول بجواز الحجز.

خلط تشريعي

وأما عن صلاحية الوزير بالحجز التي جاءت على سبيل الاستثناء من الأصل والمبدأ، يشير أحمد إلى أنه، ووفق القواعد القانونية، يجب عدم التوسع في تفسير هذه الصلاحية أو القياس عليها، وإلا أدى ذلك امتداد هذه الصلاحية لتقرر الحماية لأموال هي ليست من الأموال العامة، كأموال الجمعيات السكنية وأموال النقابات المهنية والعلمية، وأموال الأحزاب المرخصة وفق القانون، وقطعاً لم يكن هذا ما قصده المشرع، من وراء منح وزير المالية مثل هذه الصلاحية.

حسٌّ انتقامي

الحجز على الأموال هو مبدأ محاسبة، ولكن المشكلة تكمن في آلية المحاسبة الإدارية في بعض الدوائر الحكومية القائمة على الحس الانتقامي وتطغى عليها صفة التشفي والثأرية على حساب الطابع الوظيفي أو الإداري، وحسب د.بركات شاهين- معاون وزير أسبق في وزارة الصناعة أنه إضافة إلى مخالفتها بعض الأمور، فالتحقيق الذي يجرى مع أي وزير يتم من دون رفع الحصانة عنه، ومن دون توقيفه عن العمل خلال فترة التحقيق، ويأتي ذلك بالتزامن مع آلية خاطئة أخرى تكمن في كيفية اختيار الإدارات غير المبنية على أساس علمي أو إداري، فلا توجد معايير وأسس علمية واضحة، ما جعل مواقع تلك الإدارات تتحول إلى مناصب تشريفية منفصلة عن طبيعة العمل الذي تشرف عليه، فنرى مناصب لأشخاص غير مختصين كأن يشغل مهندس مدني مديراً لمؤسسة غذائية في وقت يعين الشخص المختص بالشأن الغذائي مديراً لقطاع النقل أو النفط أو غيرها بلا اختصاص أو أدنى خبرة بالمهام الموكلة إليه، وكم من مدير يأتي من خارج المؤسسة التي يتولى إدارتها، وذاك النموذج يقصم ظهر البنية المؤسساتية في بلدنا ويجعلها عبارة عن مؤسسات لأفراد وكل شيء لا تقوم له قائمة إلا على يد المدير.

في خانة واحدة

يؤكد أن في آلية الحجز الاحتياطي جانباً من الظلم عندما تتم محاسبة أشخاص على أخطاء غير مقصودة ولم يجنوا من خلالها أي مكاسب شخصية، ويتم وضعهم في خانة واحدة مع الأشخاص المتعمدين الخطأ لتحقيق مكاسب شخصية غير مشروعة، مستشهداً بحادثة حصلت في إحدى كبريات الشركات الأوروبية، إذ تسبب مدير بخطأ في مبيعاتها أدى إلى خسارة الشركة أكثر من 700 مليون دولار، وخلال التحقيق تبين أن الرجل لم يكن متعمداً ذلك ولم يحصل على أي مكاسب مادية وحصلت الخسارة بسبب خطأ في الحسابات، ولم يحجز على أمواله وفضلت الشركة تحمل الخسارة على أن تظلم مديرها بعد أن تم إثبات صدق نيته، في حين حصل في بلدنا أن الكثير من المهندسين الذين أشرفوا على تنفيذ عقود وقعوا في خلل إداري تسبب بخسائر مادية لم ينتفعوا منها وتم تجريمهم والحجز على أموالهم والإساءة إلى سمعتهم رغم التحقق من عدم تورطهم بأي مكاسب شخصية…!

حصيلة تقريرية

الخلل الأكبر، من وجهة نظر شاهين، يكمن في آلية تعيين المديرين في الجهات المحاسبية أيضاً، فبدلاً من أن يكون المدير المحاسب حيادياً في التقييم يحاسب على أساس دراسة الحالات بلا تعميم، حيث تقيّم كل حالة على حدة، تتم المحاسبة على النتائج التي غالباً ما تكون حصيلة تقارير ترفع لتلك الجهات، ويتم التقييم بناء عليها سواء أكانت المعلومات المقدمة فيها مغلوطة أم لا.

تضحية… ولكن

شاهين الذي قضى 33 عاماً في الوظيفة الحكومية يرى أن الدولة تعثرت في كثير من الأحيان بتحصيل مالها العام، بل على العكس خسرت ودفعت الثمن، فمعظم نتائج الإجراءات التحكيمية تثبت تلك الخسارة بسبب بعض القرارات الاعتباطية وغير المدروسة، ضارباً مثالاً القروض المصرفية بالعملة الصعبة التي لجأ إليها الناس قبل الحرب في سورية عندما كان سعر الدولار بـ35 ليرة، وبعد ثماني سنوات أعفت الدولة أولئك الناس من فوائد التأخير نتيجة ظروف البلد مع السداد وفق سعر الليرة القائم، فضحت بذلك بقسم كبير من مالها العام.

في المقابل، نرى أنها تحاسب الطلاب (المعتّرين) الموفدين لتسديد ضماناتهم وفق سعر العملة الصعبة تطلب من التجار والصناعيين المقترضين سداد ضماناتهم بالليرة وفق سعرها الرائج.

خطوة… متأخرة

الإجراءات التحكيمية ليست وحدها الدليل على تعثر الحكومة في تحصيل مالها العام – حسب شاهين – فضمانات التعاقد على المشروعات الصناعية يشوبها الخلل هي الأخرى، فكفالة حسن التنفيذ بأي مشروع لا تعادل سوى 10%، أي شركة تخل بتنفيذ مشروع لا تدفع إلا 10% من تكلفة المشروع، ما جعل الكثير من المشروعات تخسر مقابل حصول الدولة على 10% فقط، وذلك يسري على مشروعات المفتاح باليد ومشروعات التعهدات التي كانت الدولة فيها خاسرة لأنها لم تعتمد على مبدأ التنفيذ -خطوة بخطوة– إلا مؤخراً.

بناء على مراسيم تشريعية

لوزارة المالية وجهة نظر لأنها إحدى الجهات المصدرة لقرارات الحجز الاحتياطي وغير الاحتياطي، لكن وجهة نظرها جاءت بالعموميات، علماً أننا طلبنا أرقاماً عن عدد القرارات التي أصدرتها وقيمة الأموال المستردة وهي كالآتي:

يؤكد وزير المالية مأمون حمدان أن الحجز الاحتياطي تدبير احترازي لحفظ حقوق الخزينة العامة تجاه الأشخاص الملقى عليهم الحجز، حيث إن هذا الإجراء يمنعهم من تهريب أموالهم إلى أن تظهر نتيجة الدعوى أمام القضاء، وهي تصدر عن وزير المالية، بناء على أحكام المرسومين التشريعيين 177-12 لعام 1952-1969 والمرسوم التشريعي 63 لعام 2012.

وبيّن وزير المالية أن المرسوم التشريعي رقم /2/ تاريخ 5/7/1952 يتضمن أنه يحق لوزير المالية أن يقرر الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للموظفين والمحاسبين التابعين لجميع إدارات الدولة والمؤسسات العامة ذات الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي تأميناً للخسائر والأضرار التي يلحقونها بأموال الإدارات والمؤسسات المذكرة بسبب أخطائهم أو إهمالهم، ويجوز أن يتناول الحجز الأموال العائدة لزوجات هؤلاء الموظفين والمحاسبين ما لم تثبتن أنهن اكتسبن تلك الأموال من مالهن الخاص، وفي هذه الحالة تتولى مديرية القضايا في وزارة المالية إعداد قرارات الحجز الاحتياطي، بناء على دراسة إضبارات التحقيق أو التفتيش بحق المواطنين والمحاسبين المسؤولين عن الخسائر والأضرار التي تكبدتها الإدارات والمؤسسات العامة.

وفيما يتعلق بالأشخاص الذين ينسب إليهم بموجب تحقيقات رسمية اختلاس الأموال العامة أو إلحاق الضرر بها يطبق عليهم حكم المرسوم التشريعي رقم 177 لعام 1969.

حجز ومنع من السفر

وأوضح أنه يحق لسلطات الضابطة العدلية في معرض التحقيقات التي تجريها بشأن الجرائم الواقعة على أمن الدولة الداخلي أو الخارجي والجرائم الواردة في القانون رقم 19 تاريخ 2/7/2012 أن تطلب خطياً إلى وزير المالية اتخاذ الإجراءات اللازمة على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للمتهم، كما أن للنيابة العامة وقاضي التحقيق أثناء نظر الدعوى اتخاذ هذه الإجراءات في مواجهة المتهم أو المدعى بما في ذلك المنع من السفر، وذلك إلى حين البت بحكم قضائي مكتسب الدرجة القطعية.

قصر الحجز الاحتياطي

والحالة الأخيرة التي تحدث عنها وزير المالية هي قصر الحجز الاحتياطي، وهو من الأمور التنفيذية المنوطة بوزارة المالية وفقاً لأحكام القرار 640 لعام 1989، حيث يمكن وبناء على طلب من المحجوز على أمواله، قصر الحجز على مبلغ يساوي مبلغ الحجز، مضافاً إليه 35% كهامش احتياطي في حال عدم وجود فوائد على المبلغ الحجز و100% في حال وجودها أو على عقار عائد له تساوي قيمته مبلغ الحجز الاحتياطي.

مآخذ تنفيذية

ولعلم الاقتصاد وجهة نظره في الحديث عن الشبهة الطويلة الأمد التي تلتصق في الأشخاص ويرى المحلل الاقتصادي محمد الكوسا من حيث المبدأ القانوني والاقتصادي حقاً تمارسه السلطات الرقابية والتشريعية لحماية المال العام عند الشك بشبهة الاعتداء عليه، من خلال الحجز على أموال الأشخاص المشتبه بهم، مضيفاً أن الحجز الاحتياطي يتم وفق قانون جباية الأموال وتعود صلاحية البت فيه إلى وزير المالية مباشرة أو بطلب من الهيئة المركزية للرقابة والتفتيش أو من الجهاز المركزي للرقابة المالية، إلا أن الإجراءات التنفيذية لتطبيق ذلك القانون تسمح بسبب الروتين والتأخر في التحقيق بإعطاء فرصة للأشخاص المتعمدين بالاعتداء على المال العام بأخذ احتياطاتهم المسبقة، فمنهم من يقوم بتهريب أمواله بطريقة أو بأخرى، حيث يبقي النزر اليسير على ذمتهم المالية أو ذمة أولادهم وزوجاتهم، وتالياً قد لا يكون لقرار الحجز أي مفعول على الأشخاص سواء أكانوا متهمين أو متورطين، وأما بالنسبة للأشخاص الذين تثبت براءتهم فيجب الإسراع برفع الحجز عن أموالهم وإعلان براءتهم على الملأ ليكون ذلك بمنزلة اعتذار لهم وتعويضاً عن المضايقة التي تعرضوا لها بسبب سمعة الحجز على أموالهم وإثارة الشكوك بهم.

حصر المسؤوليات بدقة

وفي السياق ذاته، يبين د. الكوسا أن التأخر في إجراءات التحقيق أحد أبرز مآخذ قانون الحجز، ففي المحكمة يكرم المرء أو يهان، وكل مخطئ يعاقب، مقترحاً العديد من الإجراءات المكملة التي يمكن اتباعها للحفاظ على المال العام يأتي في مقدمتها لزوم التصريح المسبق عن الممتلكات الشخصية وتقديم ضمانات مالية مسبقة من قبل الأشخاص المشتبه بهم، إضافة إلى تفعيل المراقبة المستمرة للتصرفات والتعاملات المالية في القطاع العام عن طريق إدخال التقنيات المناسبة لضبط الواقعات المالية. ولا يضر – حسب تعبيره – تغيير بعض التشريعات وإصدار أخرى يتم من خلالها حصر المسؤوليات بدقة وعدم توزيعها على عدة أشخاص، فالمسؤولية النهائية يجب أن يتم حصرها بآمر الصرف أو عاقد النفقة.

مبدأ إشغال المواقع

والأهم من كل ذلك -حسب الكوسا- هو ضرورة إعادة هيكلة الأنظمة والإجراءات من قبل الإدارات العامة، وتغيير الشكل القديم الذي يتيح للفاسدين استغلال الثغرات القانونية في التعدي على المال العام، لتبقى المسألة في النهاية متعلقة بالذهنية الإدارية القائمة حالياً، واعتماد مبدأ إشغال المواقع الإدارية من دون معايير مناسبة تجعل الشخص المناسب في المكان غير المناسب.

سد إحدى الثغرات

بعض الثغرات القانونية التي تحدث عنها الكوسا والتي يمكن أن يستغلها الأشخاص المتورطون بالاعتداء على المال العام عندما يلجؤون إلى نقل أموالهم إلى ذويهم وأقاربهم قبل صدور قرار الحجز، يرد عليها القاضي حسين أحمد في محكمة البداية الأولى في حلب، مبيناً أن أحد البنود القانونية تعطي لوزير المالية صلاحية إقرار الحجز الاحتياطي على الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة للموظفين والمحاسبين التابعين لجميع إدارات الدولة العامة والمؤسسات العامة ذات الشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي تأميناً للخسائر والأضرار التي يلحقونها بأموال الإدارات والمؤسسات المذكورة أو بسبب أخطائهم أو إهمالهم، ويجوز أن يتناول الحجز المذكور الأموال العائدة لزوجات هؤلاء الموظفين والمحاسبين، ما لم يثبتن أنهن اكتسبن تلك الأموال من مالهن الخاص، وهذه الصلاحية توسعت لتشمل الأموال المنقولة وغير المنقولة العائدة لغير الموظفين وزوجاتهم.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات