سيسجل التاريخ أن عام 2017 هو عام دخول سلوك ترشيد استهلاك الخضار عند الأسرة السورية لأول مرة في القرن الواحد والعشرين, فقبل ذلك التاريخ, لم يسبق لها أن دخلت ترشيد استهلاك الخضار في سلوكها المعيشي! وعلى العكس عرف عن الأسرة السورية عادة الاستهلاك المضاعف لمشروع «المونة» للمواد التي يمكن تخزينها بشكل صحي واستخدامها في الطعام خارج موسم إنتاجها , لكن يبدو أن هذا السلوك قد انتهى مع دخول العام الحالي , وتواتر الأزمات الغذائية فيه بشكل مستمر بعد أن دخلت الخضار في سباق جنوني للأسعار.. 

جرأة رفع الأسعار

بعد ست سنوات من الحرب كانت الأسواق خجولة في مسايرة قيمة سلعها أمام الدولار لكن في العام الأخير بدا السوق أكثر جرأة وأنجز قفزته الأخيرة في معادلة أسعاره مقابل الدولار وخصوصاً ما يتعلق بأسعار السلع الغذائية والخدمات بل إن بعض السلع تجاوزت حالة التعادل وتخوض جولة لفرض مستوى جديد، وخصوصاً للسلع التي انخفض إنتاجها وتباع خارج مواسمها، مع إضافة الملحقات «النثرية» الجديدة على التكلفة كالترفيق وارتفاع أجور النقل وغيرها, فمن يعرف أسعار السلع قبل الأزمة يدرك جيداً أن هذا التدرج في الارتفاع كان متواتراً خلال السنوات الخمس الأولى، وبقي ضمن معادلة اكتشاف القدرة الشرائية للمواطن.

في قفزته الأولى ابتلع السوق زيادات الأجور التي تمت بعد بدء الحرب على سورية وبالتالي كان ارتفاع الأسعار بنسبة 20 إلى 25%، وفي قفزته الثانية ابتلع تحويلات المهاجرين وزادت الأسعار حوالي 25% مجددا، وفي قفزته الأخيرة تضاعفت الأسعار وأكمل السوق معادلته مقابل الدولار وابتلع المواطن نفسه لأن القدرة الشرائية عجزت عن مسايرة السوق، ووفق التسلسل نفسه تنازلت الأسرة بالتدرج عن بعض متطلباتها فكان التنازل أولاً عن الكماليات وتاليا الحلويات وهي من أوائل السلع التي قفزت أسعارها، وفي المرحلة الثانية تنازل المواطن عن اللحوم الحمراء والفواكه داخل وخارج المواسم , ولاحقاً تنازل عن اللحوم البيضاء كما قنن مصروف الألبان والأجبان والبيض, وأخيرا دخل مرحلة ترشيد استهلاك الخضر..!

أشبه بمغامرة

أم حسن التي تستهلك 30 كغ من الأرز للطبخ اليومي لإطعام «قبيلة الأولاد» في بيتها شهرياً, لم تعد لديها ما تقدمه أمام طبق الأرز إلا مرق الدجاج الممدد والمنكه بأوراق الغار الذي قطفته من حديقة الجيران.

وتقول: إن فطور الأولاد داخل المنزل أصبح يكلف أكثر من ألف ليرة للوجبة الواحدة، وبالتالي أصبحنا مجبرين على شراء سلع غير موثوقة من الأسواق، وخصوصاً الألبان والأجبان لكون أسعارها في متناولنا.

وتؤكد أم فؤاد لم نعد نلحق بالسوق ففي كل يوم ارتفاع جديد وفي كل يوم أزمة حول سلعة جديدة، وفي كل يوم نفقد سلعة، أو ترتفع أسعارها، لم نعد نعرف ماذا نطعم أبناءنا. كنا نعتمد البطاطا دائماً لكنها خرجت منذ شهرين من المائدة، كما خرج قبلها البيض , وغدا الفطور العادي المكون من الفول والحمص والفتة يكلف آلاف الليرات , لكن ربّنا أعاننا بخضار الصيف في هذه الفترة, ومن الآن نحمل هم الشتاء القادم إذا ما بقيت الأسعار على حالها أو استمرت في قفزاتها فقد لا نجد ما نطعم أبناءنا.

تكمل أم خليل حديثها بالقول: أصبح الدخول إلى البقالية أشبه بمغامرة , غير مأمونة النتائج , لأنها قد تخسرك كل ما في جيبك , وأصبح التأجيل والتسويف جزءاً أساسياً من سلوكنا , هكذا ندفع بمشاكلنا إلى المستقبل فقد يأتي الفرج ولو بعد حين!

يوم كنا نشتري عشر بطيخات

فيما يقول أبو موفق رزق الله أيام التي كنا نشتري عشر بطيخات دفعة واحدة ويوم كنا نشتري المشمش بالسحارة والخس بالعشرات اليوم تحولنا إلى جمهور متفرج في سوق الخضار وأمام بسطات الفواكه لا نستطيع إلا التحسر والتمني! وننتظر أن يباع البطيخ مقطعا كي لا يمر فصل الصيف ونحن نتحسر بمشاهدته عن بعد!

ويسأل أبو محمد ما الذي يجري في الأسواق وما هو سبب حالة السعار التي تجتاح الأسواق ؟ أصبحنا نفهم بعلم الاقتصاد وعرفنا أن العرض والطلب هما من عوامل تحديد سعر السلعة! وأن سعر السلعة خارج موسمها يتضاعف عدة مرات, وأن حماية السلع المنتجة محلياً تساهم في غض النظر عمن يرفع أسعارها خدمة لمصاصي دمائنا, لكن إذا توفرت السلعة بكثرة وبقي سعرها مرتفعاً فما هي الأسباب؟

حال مختلف للمهن الحرة

حال السيدات فيما تقدم ومحيطنا الاجتماعي.. هو حال كل الأسر السورية التي تعيش بدخل محدود لأن الأسر التي تعيش من الأعمال الأخرى حمّلت ارتفاع الأسعار على خدماتها أو أسعار سلعها وبالتالي لم تتأثر بنفس الحجم بالتغيرات التي حصلت فأصبحت أجرة زيارة عامل تصليح اللاقط الفضائي (5000) ليرة أغلى من أجرة طبيب قضى أكثر من عشرين عاماً من عمره بالدراسة. ومثل ذلك بالنسبة لكل المهن الأخرى إن وجدت من يصلح الأعطال فالمهنيون أصبحوا أهم من الأطباء وأساتذة الجامعات ومبلغ (5000) ليرة هي قيمة كشفه للعطل وأجاره فهو أكبر من ذلك, أما من يعمل بالتجارة فزادت أرباحه وتضاعفت عدة مرات وأصبح من أصحاب الأملاك.

فخ الزواج

حال السلع انسحب على كل شيء من المستلزمات الأساسية للحياة إلى المساكن والسيارات, فلا يحسد اليوم من توافق عائلة البنت على تزويجه لأن الموافقة هي أقرب لفخ ينصب للشاب فسعر البراد والغسالة لوحدهما يحتاجان لأجرة شاب لعشرين شهراً (25 ألف ليرة متوسط الأجور) ومثلهما ثمن غرفة النوم ومثلها أيضا لمستلزمات المطبخ, كذلك فإن أجرة أي مسكن هي ضعف أجرة الشاب.

7 ملايين ومافوق

وأسعار المساكن لم تعد بمتناول معظم أصحاب الدخل المحدود , وحلقت عاليا وأصبحت قيمتها أقرب إلى الخيال, وخاصة أن أرخص منزل في سكن المخالفات أصبحت قيمته لا تقل عن/7/ ملايين ليرة أما في السكن المنظم فالأسعار تبدأ من / 35/ مليون ليرة للمنزل البسيط ولا تقف عند مئات الملايين للمنازل الفخمة, وطبعاً عادت السيارات إلى قائمة أحلام المواطنين بعد أن أصبحت قيمة سيارة عمرها يزيد على عشر سنين أكثر من /3/ ملايين ليرة بينما يصل سعر 15 مليوناً.

من ذاكرة الماضي

يقارن مواطنون أحوالنا اليوم بأحوالنا في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، لكنهم يتذكرون أن السلع لم تكن موجودة آنذاك كما لم نكن نملك ثمنها، واليوم توفرت السلع من دون أن تتوفر القدرة على شرائها. وهذا التذكر لم يقف عند هذه المقارنة وإنما شمل الترحم على القانون 24 وقيمة الليرة وطريقة مكافحة ارتفاع الأسعار فآنذاك أصدرت الدولة القانون 24 الذي قضى بتجريم كل من يتاجر بالليرة أو يقوم بتهريبها، كما وضع قيوداً على تجارة الذهب ومنع تصريف الدولار، فثبتت الليرة أمام الدولار لمدة 25 عاماً، كذلك أنشأت الدولة محكمة الأمن الاقتصادي التي وضعت عقوبات رادعة لكل من يتلاعب بقوت الناس، فاستقرت الأسواق سنوات طويلة. كذلك يستذكرون بأن قانون الطوارئ كان يسمح بتوقيف كل من يتاجر بقوت المواطن، لكن المخالف اليوم تنتهي قضيته بتسطير مخالفة على الورق ويذهب كل إلى بيته.

يكمل المواطنون: ما الذي يمنع إعادة العمل بقوانين الماضي إذا كانت صالحة اليوم.

لقد عادل السوق أسعاره مقابل الدولار.. وبالتالي ألا توجد طريقة لمعادلة القوانين في مواجهة هذا السعار.؟

سيريا ديلي نيوز


التعليقات