من عادة الحروب أن تنجب أدباء يتغنّون بالألم ويصفونه بأرقى كلماتهم وأكثرها وجعاً، يناضلون لأجل إيجاد فسحة أمل يتنفسّ الناس من خلالها ويشعرون بوجود مستقبل منير ينتظرهم في وقت ما.

لكنّ الأمر مختلف في الحرب السورية، فقد اختفت فسحة الأمل باختفاء الأدباء تدريجياً وعدم ظهور من يكتب عن ألم الناس في هذه الحرب. لم تتوقف الهجرة على المتضررين مادياً فقط، بل تجاوزتهم لتصل إلى المتضررين فكرياً. هؤلاء الذين بات لكلماتهم وقع قاسي على آذان الناس الرافضين لحقيقة ما يجري وكأنّ الحرب لم تؤذِ الجميع.

الانقسام الفكري الذي صنّف الناس في طرف دون آخر، كان له الأثر السلبي على المفكرين الذين تحمّلوا العبء الأكبر في الحرب السورية، فكلّ كلمة ينطقون بها تحتسب عليهم، كلّ هذا كان سبباً في انحسار الحركة الثقافية إلى أن توّقفت في أغلب المناطق، والسبب بدء ظاهرة جديدة في البلاد وهي هجرة الأدباء.

نشطت الحركة الثقافية والفنيّة في البلاد قبل الحرب، وبشكل خاص المسرح فقد انتشر على مساحة أكبر رغم ضعف إمكانياته والفضل يعود لإيمان الفنانين المسرحيين بخشبتهم والتضحية لأجلها دائماً.

 ولكن لم يستمر الحال هكذا فقد كان المسرح من أكثر الفنون تضرراً في الحرب السورية  وقد زاد في ضرره إمّا فرض التحاق الشباب المسرحيين بالحرب أو هجرة معظم الفنانين الذين كانوا من أهمّ بناته والحفاظ عليه وكانوا أصحاب بصمة مسرحية هامة في الحياة الفنية السورية.

    ورغم ذلك يرى بعض الفنانين كالفنانة ندى القيّم (ممثلة ومخرجة) أن الحرب الدائرة في سورية لم تؤثر بشكل كبير على تطور وانتشار المسرح لأن النصوص المسرحية التي تتناول الأزمة السورية انتشرت بشكل كبير ولم تتوقف المسارح عن تقديم هذه النصوص ومع الوقت أصبحت تلاقي رواجاً عند الجمهور كونها تلامس أوجاعهم وقضاياهم المرتبطة بالأزمة، كارتفاع الأسعار على سبيل المثال أو ازدياد نسبة البطالة أو الخطف أو القتل أو الهجرة أو الطائفية، الخ.

     من جهة أخرى يرى الأستاذ نزار صبوح (مخرج مسرحي) أنه بعد خمس سنوات من الحرب الدائرة في سورية وصل المسرح إلى طريق مسدود. والسبب أننا أصبحنا في مجتمع ينقسم إلى طرفين الأول موالي والآخر معارض وبينهما سيل من الدماء لا يمكن للمسرح أن يشقّ طريقه في هذه الفوضى. المخرج المسرحي الذي صبر حوالي خمس سنوات لم يعد باستطاعته أن يقدم فناً محايداً أو فنا يرتقي بمجتمع والهوة أكبر من أن ترمم بأي عمل مهما كان هادفا وبفعل الحرب التي تدور رحاها كالباطوس الذي يطحن كل شيء في طريقه سلبيا أو إيجابيا.. أصبح العمل في هذا المجال ضرباً من المغامرة والجنون.

     ولا يختلف الفنان المسرحي أحمد عاشور (ممثل ومخرج) عن زملائه من الفنانين المسرحيين في القول أنّ المسرح كان يشهد نهضة قبل الأزمة السورية، ففي مدينته اللاذقية كان هناك سبع مهرجانات مسرحية سنوية إلاّ أنّ هذه المهرجانات توّقفت إلاّ بعض التجارب القليلة التي بقيت مستمرة. فرضت الأزمة نفسها بقوة في الواقع المسرحي، فالأشخاص الذين بقوا حياديين في الحرب السورية وقعوا ضحيّة تحكّم الكبار في خشبة المسرح. قد أصبح لزاماً على المسرحي أن يقدّم نصوصه بما يخدم مصلحة صاحب القوّة وهذا يتنافى مع الرسالة المسرحية التي تعبّر عن ألم الناس وحلمهم.

انحسرت فسحة الأمل عند أغلب الفنانين المسرحيين، يتابع الفنان عاشور قائلاً، بعد أن  فُرِضَ عليَّ الالتحاق بالاحتياط في صفوف الجيش، و بعد أن تعرّضتُ لخسائر مادية كبيرة  وقيام البعض باغتصاب مكاني في المسرح وسفر شريكي في المسرح (المخرج بسام جنيد)، كل هذا دفعني للسفر أنا أيضاً خارج البلاد خاصةً بعد أن تحوّل المسرح إلى منظومة تخدم أفراد يمتلكون السلطة دون مراعاة الفن واستقلاليته.

 

 

     توّقف المسرح لفترة مؤقتة في بداية الأحداث، تقول الفنانة رغداء جديد (ممثلة ومخرجة): هناك بعض المهرجانات توقفت بشكل نهائي في بداية الأحداث ولم تعد للظهور مرة أخرى، ويمكن إرجاع ذلك للقلق الذي عاشه الناس والمسرحيون وكان الوضع العام في البلاد لا يسمح بالتجمّعات خوفاً من أي تفجير، ولا يمكن إنكار تشتت الذهن وغياب البوصلة الفنية التي كان للحرب أثرها البالغ في التأثير عليها سلباً.

عادت بعض المهرجانات إلى الظهور بعد غياب دام ثلاث سنوات كمهرجان المسرح الجامعي في اللاذقية ويمكن القول أنه المهرجان الوحيد الذي لم يتوقف رغم صعوبة الظروف المحيطة والفضل يعود إلى الإصرار على المتابعة، وقد يكون وجوده في الجامعة عاملاً مساعداً على استمراره رغم الظروف كون الجامعة بقيت إلى حدّ ما المكان الأكثر أماناً للقيام بالنشاطات الفنيّة.

فرضت الأزمة نفسها في المسرح السوري، وكانت بعض العروض مترّهلة من حيث محتواها وإخراجها إذ كان مخرجيها يتّخذون من الأزمة مطيّة لهم ليقدّموا عروض دون المستوى المسرحي المعروف. ومن جهة أخرى كان للحرب دورها في خلق شروخ بين الممثلين باعتبار أن انتماءاتهم وميولهم وآرائهم الفكرية كانت متنوّعة مختلفة، وفي نفس الوقت هناك من تجاوز هذه الاختلافات لأنّ شغفهم في المسرح كان أكبر من أن يسمحوا لهذه الحرب أن تدمرّه.

      

        في ظل ضيق الخناق الذي فرضته الأحداث في  سورية على المسرحيين، لم يجد أغلبهم بُدّاً من الهجرة خارج البلاد للبحث عن مكان يمكنهم تقديم فنّهم فيه، وبدأ المسرح شيئاً فشيئاً ينزف فنانيه ممّن كانوا أصحاب بصمة مهمّة في مسيرته.

أغلقت الكثير من المسارح والمراكز الثقافية نتيجة أعمال التخريب التي كانت ضحيّة الحرب وقذائفها العمياء ووجد فنانوها ومثقفوها أمام خيارين إمّا الهجرة خارجاً أو الاختيار ما بين الدولة أو ما يسمى الثورة.

 

 

 

 

سيريا ديلي نيوز- وليم عبد الله


التعليقات