سعر النّفط اليوم يقلّ عن خمسين دولاراً للبرميل، أي نصف ما كان عليه قبل عامين. الأسواق المالية تعتبر أن سوق النفط ما زالت في (تخمة)، وأنّ العرض لا يزال كبيراً نسبةً الى الطّلب.

أضف الى ذلك الصعود المستمر للطاقات البديلة، وعزوف الشركات النفطية عن الاستثمار في الانتاج، ويصبح من السهل أن نفهم لماذا لا تتوقع الأسواق عودة برميل النفط الى قيمته أيّام (الطفرة) في أي وقتٍ قريب. الّا أنّ هناك من يحمل تحليلاً مخالفاً، ويصرّ على أنّنا نشهد تكوّن الظروف المثالية لقفزة في أسعار النّفط، وأنّها ستحصل أقرب ممّا نتوقّع، وستكون سريعةً وعنيفةً ولا مجال لعكسها. خبيرٌ نفطي شغل مراكز عالية وحسّاسة في شركات عالمية كبرى تحدّث الى (الأخبار) عن احتمال الانفجار النفطي القادم (هو يعتبره مسألة محسومة ويتكلّم عنه بصيغة المؤكّد)، محاججاً بأنّ أسباباً بنيوية ستولّد الأزمة وتجعلها من طبيعة تختلف عن أيّ دورة سعريّة سبقتها. السّطور التالية هي شرحٌ ملخّص لهذه الفكرة.

النفط سلعة غير (مرنة)

بدايةً، هناك مصطلحٌ اقتصادي بسيط ولكنّه جوهريّ بالنسبة الى هذا النّقاش. المصطلح هو (مرونة العرض نسبةً الى الأسعار)، وهي خاصية تختلف بين سلعة وأخرى. (مرونة العرض) لسلعة ما تعني ببساطة: اذا ما تغيّرت أسعار هذه السّلعة في السوق بسبب تغيّر العرض والطّلب، فما هو مقدار (المرونة) في رفع أو خفض العرض (أو الانتاج) الخاص بهذه السّلعة لكي يتماشى مع الأسعار؟ من هذه الزاوية، هناك سلعٌ مرنة للغاية، يمكن رفع أو خفض انتاجها بشكلٍ شبه لحظي للإستجابة لأي تغيّرٍ في السوق، كبعض الالكترونيات الخفيفة والمنسوجات (اذا ما ارتفع سعر صنفٍ معيّن من الثياب، يمكن أن يزيد المصنّع انتاجه بشكلٍ سريع، وإن انخفضت الأسعار، فمن السهل تحويل الانتاج الى سلعٍ أخرى أو خفضه من دون كلفة كبيرة فجزءٌ أساسي من عملية الانتاج يدوي، وآلات النسيج ليست باهظة الكلفة ولا تحتاج لأن تعمل على الدوام بكامل طاقتها).

لهذا السبب، لا تحصل (فورات) في أسعار الـ)جينز) مثلاً، ولا يصبح فجأة سلعةً نادرة تقف الناس في طوابيرٍ لشرائها. هناك، في المقابل، سلعٌ (متوسّطة المرونة) من جهة العرض، كالقمح والذرة وبعض المنتجات الزراعية: يحدث موسمٌ سيئ على المستوى العالمي، فينخفض الانتاج وترتفع الأسعار، ولكن ذلك سيحفّز المزارعين، السنة القادمة، لزراعة مساحاتٍ أكبر من هذه السّلعة وسدّ فجوة الطلب. وقد يتوالى أكثر من موسم قحطٍ فترتفع الأسعار بشكلٍ كبير، ولكن هذا نادر و، على المدى البعيد، ستظلّ الفوارق في سعر القمح ضمن هامشٍ معيّن، وسيلاحق حجم المحصول أسعار السوق، طالما لم تحدث تغيّرات بنيوية غير متوقعة في المناخ مثلا. المغزى هنا هو أنّ (مرونة الطّلب) تساهم في تحديد شكل دورة الأسعار في قطاعٍ ما، وهل تكون مراحل الارتفاع والهبوط معتدلة وقصيرة، أم متطرّفة وقاسية؟

من جهةٍ أخرى، هناك سلعٌ معروفة بأنّ العرض فيها (قليل المرونة) الى حدّ استثنائي، أبرزها النّفط. من الممكن تعداد أمثلة أخرى على هذه السّلع، كشرائح الذاكرة التي تستخدم في الهواتف الذكية أو معالجات الكمبيوتر. وهذه كلّها، كالنّفط والغاز، تستلزم استثماراً أوّلياً هائلاً ومصانع تكلّف مليارات الدولارات، يستغرق بناؤها فترات طويلة (أربع أو خمس سنوات على الأقل لإنشاء مشروع نفطي كبير أو معمل شرائح الكترونية) وهي، حين تبدأ الانتاج، ليس من المنطقي لها أن تتوقّف، بل هي (مجبرة) على العمل بكامل طاقتها بغض النظر عن حالة الأسعار.

هذه الصناعات، لو تُركت السوق على غاربها، معرّضة على الدّوام لهزّات سعريّة كبرى: تدخل عدة مصانع لشرائح الكمبيوتر السوق في الوقت نفسه، فيفيض العرض على الطلب بكثير، وتنكسر الأسعار، وقد تظلّ كذلك لسنوات حتّى يستوعب النمو الطبيعي للاستهلاك فائض الانتاج. ولكن، حين يرتفع الطلب أخيراً، ستنفجر الأسعار لأنه ما من امكانية لتلبية الطلب الزائد بشكلٍ فوريّ، وقد تظلّ الأسعار مرتفعةً لسنوات حتى ينتهي بناء خطوط تصنيع جديدة تضخ منتوجها في السوق. المعادلة نفسها تنطبق على سوق النّفط، حيث يستلزم الحقل النفطي سنوات عديدة قبل بدء الانتاج فيه، وحين تبدأ بالضخّ، فأنت لا حافز لديك للحدّ من مبيعاتك (حتّى ولو كان المشروع بمجمله خاسرأً والأسعار منهارة، فإن خفض الانتاج لن يعني الّا مزيداً من الخسارة ومدخولاً أقلّ، وانت لن تؤثّر بمفردك على حالة السوق).

نهاية الـ(كارتيل): انطلاق دورات الأزمة

لهذه الأسباب، كانت أسواق النفط والبتروكيمياويات وأمثالها تميل غالباً الى نمط (الكارتيل)، حيث يتمّ التحكّم بالأسعار بشكلٍ مركزيّ عبر تنسيق كميّة العرض في السوق وتحديدها، وعبر الاحتفاظ بـ(قدرة إنتاج احتياطية)، غير مستخدمة، من الممكن توظيفها - أو حجبها - لتلبية أي زيادة مرحلية في الطلب من دون إحداث خضّةٍ في الأسعار. هذا، تحديداً، هو الدور الذي كانت تلعبه (اوبك) حتّى فترةٍ قريبة (وقبلها، حتى الستينيات، ائتلاف الشركات النفطية الكبرى)، وهو ما حمى سوق النّفط من هزّاتٍ أعنف بكثير من تلك التي شهدتها في الماضي.

يقول الخبير النفطي لـ(الأخبار) إنّ المنطق النّاظم لعمل (اوبك) لم يكن محاولة استحصال أكبر ثمنٍ ممكن لبرميل النّفط، بل إبقاء الأسعار فوق حدٍّ أدنى يسمح باستمرارية الاستثمار في الانتاج؛ فلا تتوقّف الشركات والدول عن تطوير حقول ومصادر جديدة بسبب انخفاض الأسعار، ولا تولد (فجوات زمنية) - أي مراحل طويلة ينعدم فيها الاستثمار النفطي بسبب الأسعار المتهاودة، ينتج عنها فترة موازية، بعد سنوات، لا يدخل فيها أي انتاجٍ جديدٍ الى السوق.

مرحلة جديدة؟

ما يجري اليوم، إذاً، هو في ظاهره سوقٌ نفطية راكدة ولكنه، في العمق، يشبه اصطدام سيارتين، تراه على وشك الحدوث أمامك، ولكن ما من وسيلةٍ لمنعه. هذه النبوءة، لو كانت صحيحة، يمكن أن تفيد مضارب البورصة الذي يراهن على ارتفاع أسعار السلع وانخفاضها، ولكنّها لن تنفع شركات النفط نفسها، حتى ولو اقتنع اداريوها بأن الأسعار تتجه الى انفجار: الوضع المالي لأكثر هذه الشركات سيئ للغاية ودفاترها مثقلة بالديون، والمصارف لن تقرضها مليارات الدولارات في ظلّ أسعار نفطٍ متهاودة. أما في الدول المنتجة، فقد أجبر انخفاض الأسعار الحكومات على توجيه أكثر مدخولها النفطي لتغطية الميزانية، ولم يتبقّ من فائضٍ للاستثمار. حين ترتفع الأسعار مجدداً ويعود الاستثمار (منطقياً)، سيكون الوقت قد فات، كما شرحنا أعلاه، وأي اجراءات تؤخذ حينها (أو اليوم حتّى) لزيادة الانتاج ستستلزم سنواتٍ قبل أن تترجم في الواقع.

باستثناء مرحلةٍ قصيرة في بداية عهد النفط، كان للسوق النفطية، على الدوام، (منسّق مركزي). (الاخوات السبع) بداية، أي الشركات الغربية الكبرى المهيمنة، التي كان مسؤولوها يجتمعون بشكلٍ دوري، فيقرّرون كميات الإنتاج ومصادره والسعر المبتغى فرضه. ثم انتقلت هذه المهمّة الى (اوبك)، التي خسرتها بالتدريج. اليوم، في غياب (كارتيل) أو تنسيقٍ يدخل قدراً من (العقلانية) الى عمل السّوق، سيتصرّف برميل النفط كما تتنبأ النظرية الاقتصادية لسلعة من هذا النّوع: ارتفاع حاد في السعر وأزمة، يليها ركود وكسادٌ طويلان.

تعدنا هذه السردية بأن نتحضّر، قريباً، لخضّةٍ سعرية أعنف بكثير من أزمة الـ73 أو أي سابقةٍ نألفها، وتكون فاتحة مرحلةٍ جديدة في عصر النفط. يقدّر المسؤول النفطي بأن سعر 200 دولار قد لا يكون مستغرباً بعد 18 شهراً من اليوم، أمّا تأثير حدثٍ من هذا النوع على الوضع السياسي في الشرق الأوسط، وسلوك الدول الغربية في المنطقة، فهو ما لا يمكن تقديره.

«الأخبار»

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات