ما عاد في بيوت السوريين أسرارٌ يخشون عليها، الحال واحد، والكل شركاء في تلقي الصفعات اليومية.. لا شيء نخفيه عن بعض، ولا جديد تأتي به ، الجميع يعيشون يوماً بيوم، وسائل الإعلاممضى زمن التفكير بالقادم، فهو غالباً أسوأ، تبعاً لتوقيت الحرب السورية.

لا زالت ظروف المعيشة تزداد سوءاً، صار ذلك أوضح من أي حديث عنه، حتى إن ما تعنيه الأرقام والمصطلحات الاقتصادية فقد أهميته أمام معاناة أبناء البلد، وحسب ما يقوله محللون اقتصاديون، فإن ثلث الشعب السوري يعيش فقراً مدقعاً عدا عن أن نسبة كبيرة من الناس هبطت من وضع معيشي مقبول إلى ما تحت خط الفقر، في حين تحول من كانوا أقرب لخط الفقر الأدنى للفقر المدقع!.

رغم تداول ما سبق علناً، لم يشهد الوضع تحسناً يُذكر، فالأسعار استمرت في الارتفاع، عدا عن الأزمات المعيشية المرهونة بمواسم معينة أو تلك التي تظهر من دون سابق إنذار، وكان آخرها أزمة البنزين.

كالعادة تتجه التساؤلات نحو جهات محددة، يكثر كلامها عن إجراءات لضبط الأسعار، من دون ملاحظة فرقٍ يذكر، على العكس تماماً، ناهيك عن فجوة حقيقية بين طبقات المجتمع، باتت واضحة بمجرد السير في الشوارع!.

في بحث أجراه “مركز فيريل للدراسات في برلين” في سورية، خلال العام الماضي في الأحوال “الصحية، الاقتصادية، الاجتماعية، الثقافية” للشعب السوري، في الفترة التي وصل فيها سعر الدولار إلى 600 ليرة، وجد أن راتب الموظف السوري يجب أن يكون 240 ألف ليرة لكي يعيش حياة مماثلة لما كان عليه عام 2010.

إضافة إلى أن نسبة الفقر وصلت إلى 86.7 %، وإذا كان خط الفقر هو ما دون 1200 ليرة يومياً كنصيب للفرد الواحد، أي ما يعادل 2 دولار، بالتالي كل فرد مدخوله الشهري أقل من 60 دولاراً، أي 36 ألف ليرة هو دون خط الفقر العالمي، علماً أن المركز تناول في دراسته الأسرة السورية المكونة من 5 أفراد فقط، ليصبح السؤال كيف يمكن تأمين المبلغ السابق شهرياً للفرد الواحد؟، ولا سيما أنه إذا كان أفراد العائلة يتناولون ثلاث وجبات يومياً، هي سندويشة فلافل للفرد في كل وجبة، سعر السندويشة 200 ليرة، فإن الأب سيدفع 90 ألف ليرة شهرياً للغذاء فقط!.

أيضاً وجد المركز أن العام السابق هو الأخطر اقتصادياً على المواطن السوري، بسبب الارتفاع الهائل في تكلفة المعيشة للفرد، خاصة من خسر عمله بسبب ظروف الحرب مع خسارة منزلة واضطراره لاستئجار آخر أو غرفة أحياناً، وبات همه اليومي “تأمين الغذاء، مصادر التدفئة، تكاليف المواصلات، الفواتير، الأدوية”.

بالمحصلة كل ما يحصل قد يؤدي إلى مجاعة حقيقية، وهو ما يتطلب من الحكومة حلولاً إسعافية سريعة، بزيادة دعمها لجميع السلع الأساسية كـ”الأرز، السكر، الخبز، الزيت، الطحين، مواد التدفئة”، كما كان عليه الوضع قبل الحرب، مع محاربة الفساد وتحجيم تدخلات كبار التجار، تبعاً للدراسة.

لكن، ماذا لو استمر ارتفاع الأسعار بموازاة الحرب، كيف سيتحمل المواطن أعباءً أكبر؟

يقول الأستاذ في كلية الاقتصاد والمدير السابق للمكتب المركزي للإحصاء د. شفيق عربش: الشعب السوري مضطر لتحمل آثار الحرب، والتي قد تكون مؤلمة جداً، سواء كانت حرباً بالوكالة عبر المجاميع الإرهابية التي جيء بها إلى بلدنا أو من خلال الحصار الاقتصادي الذي استخدم كأحد الأسلحة في المعركة، الشعب يتحمل كل شيء في سبيل وطنه، لكنه ليس مضطراً ليتحمل تقصير الحكومة التي تدعي أن أسبابه هذه الحرب!.

والدليل على ذلك، برأيه، إنه بالرغم مما سمعناه من الحكومات المتتالية، ووزراء الاقتصاد الذين تعاقبوا خلال الأزمة عن ترشيد الاستيراد وتشجيع التصدير وما إلى ذلك، فالملاحظ غياب الكثير من الحاجات الأساسية عن الأسواق ليتم تأمينها تهريباً وبأسعار مرتفعة مقابل وجود كثير من “سلع رفاهية” معروضة في عدة أمكنة في دمشق، من دون أن نعرف كيفية دخولها إلى سورية، كيف مُولت، من وراء عملية إدخالها؟.

يؤكد عربش أن الحكومات منذ عام 2011 حتى اليوم، لم تكن لديها رؤية أو خطة طوارئ لما يجب فعله، فكانت تعمل على معالجة يومية لا بل حتى ساعية لأي طارئ يظهر في الحياة اليومية للشعب السوري، حتى إنها وجدت في الحصار الاقتصادي المفروض، شماعة تعلق عليها كل تقصيرها، بدل البحث عن استراتيجية لمواجهة الآثار التي وقعت ويمكن أن تقع.. خلال الفترة الماضية كنا نسمع منهم عن إنجازات، لم يكن لها وجود إلّا على الورق.

ورغم مرور ست سنوات على الحرب، لم ير الباحث الاقتصادي حتى الآن، سواء في الحكومة الحالية أم في حكومات النسخ المتعددة لحكومة وائل الحلقي وعادل سفر، إن هناك خطة واضحة، وإذا تتبعنا جميع البيانات الوزارية لهذه الحكومات لوجدنا أنها نسخة طبق الأصل عن بعضها.. لو أخذنا مثلاً البيان المالي لموازنة عام 2017، سنلاحظ انخفاض مبلغ الدعم عن العام الماضي بمقدار 400 مليار ليرة، ثم يقول وزير المالية إن الدعم زاد 33 %!. يبدو أنهم بدلوا أرقام العام الماضي بأرقام السنة لكن لم يبدلوا العبارات، تالياً الأسعار إلى مزيد من الارتفاع، وجودة البضائع في تراجع، السبب هو أن السوق السوداء لمادة المازوت ستؤثر سلباً، بل وتعجل أكثر في ارتفاع الأسعار.

في بداية العام توقع عربش أن يكون معدل التضخم بحدود 50 %، لكنه اليوم أكثر تشاؤماً بسبب السعر الحقيقي لمادة المازوت في الأسواق ناهيك عن الآثار السلبية لذلك على العملية الإنتاجية، هنا سندخل في دوامة تؤدي إلى “تضخم أكثر، تراجع في الإنتاج، انخفاض في معدل النمو الاقتصادي، ضعف في سعر صرف الليرة”.

تالياً، يمكن القول: إن الحكومة لا تدعم المواطن، بل هو من يدعمها، فإذا كانت أرقام المكتب المركزي للإحصاء تتحدث عن ارتفاع الأسعار بحدود 600 %، خلال فترة الحرب على سورية، في وقت لم ترتفع فيه دخول السوريين العاملين لدى الدولة بأكثر من 50 % فمن الذي يدعم الآن؟.

إذاً، تغيب المحاسبة والرقابة في كل ما سبق، من دون أن ننسى تدمير البنية الإنتاجية للاقتصاد السوري جراء ظروف الحرب، وما تسبب به الحصار الاقتصادي المفروض على سورية منذ عام 2011، والذي تمثل، حسبما شرح الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق الدكتور زياد أيوب عربش”، في عدة إجراءات من الدول التي فرضته، مع الإشارة إلى عدم جواز تسميته “عقوبات اقتصادية” لأنها حسب القانون الدولي ليست شرعية، إنما هي إجراءات أحادية الجانب اتخذت من مجموعة من الدول المعادية لسورية، بدل أن تصدر قرارات بمنع أو قطع التمويل عن المجموعات الإرهابية، حتى إن الاتحاد الأوروبي اتخذ قراراً فردياً بدعم المجموعات الإرهابية عبر السماح لدوله بشراء النفط مما يسمى المعارضة.

اتخاذ مجموعة من الإجراءات ضد الأفراد والمؤسسات السورية عبر الزمن أدى ومازال يؤدي إلى الضغط على الميزان التجاري بالاتجاهين، يرتبط الأول بالتصدير وانغلاق مجموعة من الأسواق التي كانت مقصداً للصادرات السورية، ويشمل الثاني صعوبة الاستيراد للعديد من السلع والمواد والتجهيزات سواءً الموجهة للاستهلاك مباشرة أو للاستخدام الوسيط أو كمدخلات إنتاج، لكن نتائج هذا لم تقتصر على قطاع التجارة الخارجية بل على مجمل العملية الإنتاجية وممارسة النشاط الاقتصادي بشكل عام.

يتابع د. زياد أيوب عربش: ما حصل أدى لارتفاع كلف التحويلات المالية، النقل، عرقلة عمليات الإمداد والتمويل، وتعامل سورية مع العديد من دول العالم بما فيها الصديقة خاصة مع الضغط من الدول المعادية على شركات التأمين والنقل، كانت النتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج والسعر بشكل عام للسلع النهائية والداخلة في العملية الإنتاجية ناهيك عن الضغط على سعر صرف الليرة السورية، وغلاء مستوى المعيشة بالنسبة للأسرة السورية، رغم ذلك كانت خطة الحكومة المواجهة المستمرة كجزء من مقومات الصمود من خلال إعادة ترتيب الأولويات وتأمين السلع الأساسية، وإن كانت في الحد الأدنى أحياناً.

كان هذا ناجحاً، كما يقول، في بعض المجالات، حيث استمرت المواجهة وسعت الحكومة لتأمين بعض المواد سواء المستوردة أو المنتجة محلياً بالكميات المطلوبة، من دون رفع سعرها، تبعاً لتطور سعر الصرف كالمواد الغذائية الاستهلاكية الضرورية، مع حرصها على تأمين خدمات الصحة والتعليم بأفضل شكل ممكن.

اللافت أيضاً برأيه، أن قدرة التأقلم بشكل عام كانت كبيرة جداً، فرغم المعاناة للغالبية العظمى من الأسر السورية، اقتصر إنفاقها على الحاجات الأساسية، لتمثل قيمة السلة الغذائية ما يقرب من 70 إلى 80 % من مجمل إنفاقها، مع تغير في تركيبتها.. وعلى سبيل التأقلم أيضاً تستفيد العديد من القطاعات والشرائح الاجتماعية من العمل الإغاثي “المساعدات” والتحويلات المالية من الأقارب خارج سورية.

أياً كانت وجهات النظر في الأداء الحكومي تجاه ارتفاع تكاليف المعيشة، في المجمل لا شيء ينبئ بانخفاض في الأسعار، إن لم يكن يؤكد ارتفاعاً مقبلاً، يتطلب قدرة تحمل أكبر، لم تنقص السوريين حتى اليوم.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات