مع مرور كل يوم تزداد معاناة الشعب السوري، ليس بنتيجة الحرب والأزمة وتداعياتها فقط، بل بفعل التهرب من المسؤولية، وتراجع الدولة عن مهامها يوماً بعد آخر.

آخر ما حرر بشأن التراجع الرسمي للدور الحكومي، كان على مستوى نقص مادة الأنسولين، في المراكز الطبية والصحية الحكومية، ما جعل من تأمين هذه المادة مشكلة حقيقية بالنسبة لمرضى السكري، خاصة مع ارتفاع سعرها بشكل كبير في الصيدليات، بظل واقع التردي المعيشي والاقتصادي الذي يعاني منه عموم السوريين.

أرقام صادمة

أعداد مرضى السكر يعتبر كبير جداً في سورية، وقد ازداد بنتيجة الحرب والأزمة، على الرغم من عدم توفر رقم إحصائي دقيق، يعبر عن حجم المأساة التي يتعرض لها المرضى، جراء نقص مادة الأنسولين في المراكز الصحية، إلا أن بعض الأرقام تعطينا مؤشراً تقريبياً عن ذلك، حيث في مركز صحي صغير بأحد أحياء العاصمة هناك 200 حالة مسجلة فيه، تعاني من المرض المزمن، في حين هناك بحدود 1000 حالة مسجلة في مدينة جبلة الصغيرة وحدها.

وقد صرح وزير الصحة في شهر نيسان من العام الحالي بأن نسبة الإصابة بمرض السكر حوالي 13% من مجموع السكان.

التوزيع مركزي وحصري

مادة الأنسولين من المواد الموزعة مركزياً من قبل وزارة الصحة، عبر مديرياتها إلى المراكز الصحية، والمعتمدة لتقديم العلاج لمرضى السكر المسجلين لدى هذه المراكز رسمياً، وقد تعرض إمداد هذه المادة إلى النقص المتزايد خلال السنوات الماضية، وكان بهذا العام واضحاً بشكل كبير، حيث تعاني المراكز الصحية كلها من النقص الشديد بهذه المادة، كما وتقف مديريات الصحة عاجزة أمام تلبية احتياجات مراكزها، باعتبار أن هذه المادة مقيدة مركزياً من قبل الوزارة، وينحسر دور المراكز والمديريات بالمطالبة والانتظار، في حين يضطر المريض للجوء إلى الصيدليات لشراء المادة بالسعر المتحكم به، وإلا فإن حياته تعتبر في خطر شديد، حيث تعتبر تداعيات مرض السكر خطيرة جداً على الحياة، وبالتالي: لا يمكن اعتبار مادة الأنسولين مجرد سلعة من السلع المتداولة في السوق أو في الصيدليات كغيرها، بل هي مادة تحدد مصير المريض نفسه.

توصيف

السكري ضيف ثقيل ومقيم، فهو ما أن يحل على الفرد، يرفض أن يرحل، ومازال حتى الآن مرضاً مزمناً لا شفاء منه، حيث لا يمكن اعبتار الأنسولين علاجا شافياً من المرض، ولكنه مجرد وسيلة تعويضية لتحسين نوعية الحياة بالنسبة للمريض، وهناك مضاعفات محتملة للسكري على مستوى الجهاز العصبي، والأوعية الدموية، والعيون، والكلى، واللثة والأقدام والجلد، وبشكل عام يعتمد علاج السكري على أخذ الدواء الخافض لسكر الدم بشكل يومي منظم.

واقع مأساوي

هذا التوصيف للمرض، مع الاحتمالات المأساوية للمضاعفات المحتملة على المريض، وبوجود هذا التناقص المستمر لمادة الأنسولين في المراكز الصحية الحكومية، يضع المريض أمام مأساته اليومية المعاشة مع هذا المرض القاتل والصامت، ومع هذا التراجع الحكومي الرسمي والمستمر بصمت أيضاً، حيث يبلغ سعر عبوة الأنسولين في الصيدليات بين 3500- 5000 ليرة تقريباً، حسب النوعية والمصدر، علماً أن مريض السكري يحتاج إلى عبوتين أو ثلاثة شهرياً، ما يعني اضطراره لضغط إنفاقه على بقية الاحتياجات الحياتية الضرورية الأخرى، حتى قبل الطعام والشراب وأجار البيت وبقية المصاريف الضرورية الأخرى، بظل حصوله على عبوة شهرياً فقط عبر المراكز الصحية الحكومية أحياناً، نظراً لعدم توفر الكميات الكافية لاحتياجات المرضى جميعهم بشكل كامل.

الاستفادة عبر الأصدقاء لمصلحة من؟

لعل مشكلة توفر الأنسولين كمادة دوائية ليست حالة استثنائية على مستوى النقص الحاد بالأدوية الأخرى عموماً، وخاصة أدوية الأمراض المزمنة، بظل الحرب والأزمة وتداعياتها على مستوى الإنتاج والاستيراد والعقوبات المفروضة، وبظل تحكم المستغلين والمستفيدين من هذه التداعيات على حساب المواطن ومعيشته وصحته وحياته عموماً، اعتباراً من المعامل الدوائية، مروراً بمستودعات الأدوية، وليس انتهاءً بالدور الحكومي الرسمي المتعامي عن دور هؤلاء المستغلين، والمتراجع عن القيام بدوره بالشكل المطلوب، وخاصة على مستوى الاستفادة من الخطوط الائتمانية المفتوحة مع روسيا وإيران بتأمين الاحتياجات الدوائية الأساسية عبرها، وخاصة المواد الأولية، بعيداً عن أوجه الاستفادة من بعض المستغلين والمتنفذين من هذه الخطوط على مستوى مواد أقل أهمية، ولمصلحتهم دوناً عن مصلحة بقية المواطنين.

تناقض

في المراكز الصحية التي لا تتوفر فيها الكمية الكافية من مادة الأنسولين للمرضى المسجلين، نجد بالمقابل كميات كبيرة من الجرعات الخاصة بالانفلونزا «الكريب»، والموزعة مركزياً عبر وزارة الصحة ومديرياتها، حيث يتم استغلال هذه الجرعات أحياناً عبر بعض المراكز والعاملين فيها، من خلال صرفها للمراجعين دون حاجة فعلية، ولو شكلاً باسم هؤلاء، بالمقابل نجد هذه الجرعات تتسرب للصيدليات لتباع بحدود 5000 ليرة سورية.

والسؤال الذي يتبادر للذهن: أليس من الأولى على وزارة الصحة ومديرياتها تأمين مادة الأنسولين الضرورية والحياتية بالنسبة للمرضى، من توفير كميات كبيرة من جرعات «الانفلونزا» هذه، مع أهميتها، ليصار إلى الاستفادة منها بهذا الشكل، وبالنتيجة تتكبد الوزارة والحكومة إنفاقاً غير مجدٍ إلا للبعض من المستفيدين، سواء من استورد، أو من استغل موقعه وسرب هذه العلاجات للصيليات، أو للصيلديات نفسها التي تفرض أسعارها الاحتكارية على المحتاجين.

أين تذهب كتلة الإنفاق العام؟

يتضح بالنتيجة، بأن الأرقام المعلنة عن حجم الإنفاق الحكومي على علاج مرضى السكري، ليس بحال أفضل مما يمكن إعلانه عن إنفاقها على علاج مرضى «الانفلونزا»، بظل هذا النمط من توزيع الاستفادة بين المستغلين على حساب المواطن، كما على حساب الدولة نفسها، حيث صرح وزير الصحة بشهر نيسان من هذا العام: بأن الكلفة التقديرية الإجمالية السنوية لمريض السكري الواحد بين 350 إلى 400 الف ليرة سورية، تقدمها الوزارة كخدمات تشخيصية وعلاجية تخصصية، على مستوى اختلاطات السكر القلبية والعينية والكلوية والقدم السكري، عبر المراكز الصحية الرسمية، في حين أن مرضى السكري ما زالوا يعانون النقص الحاد بمادة الأنسولين، في المراكز الصحية الحكومية الرسمية، التي يعتبر الإنفاق عليها جزءاً صغيراً من كتلة الإنفاق المعلن عنه بشكل رسمي، فأين هذا الإنفاق، ومن يستفيد منه؟

 

جريدة قاسيون

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات