كان  يقف  وحيداً على  الشاطئ  لا أحد  سواه  .. هو شاب  فى  الثلاثين من عمره ..
 عزم  على أختيار هذا التوقيت  ليختلى  بالمكان .. كان  يقف  فى  وضح  النهار لكن نهار يوم  فى فصل الشتاء  و كانت السماء ملبدة بالغيوم  الرمادية  مما يؤكد إصراره على  قراره ..
جاء  خصيصاً  لتصفية الحسابات مع  صديقه الحميم  , فى الحق هو ليس صديقه وحده  بل هو صديق لكل من يقطن بمدينة الإسكندرية ..  هذا الصديق هو  البـحـر !!
وقف طويلاً أمام البحر ينظر إليه دون أن  يحرّك ساكناً ..  فقط  كان يتحدث معه حديثاً ذهنياً ساخناً و فجأة  قرر أن يخرج عن سكونه  ..  راح  يجرى  هنا و هناك كالمجنون يبحث عن كيساً     يجمع فيه كميات من الحجارة المبعثرة على الرمال ثم عاد لصديقه وهو ممسكاً بالكيس
 و قد امتلأ عن آخره  بالحجارة , وقف مرة أخرى فى مواجهة البحر و ترك الكيس يسقط من يده فتناثرت الحجارة أمامه و كأنها خطاً فاصلاً بينه و بين صديقه ..
أنحنى الشاب و ألتقط  حجراً من الأحجار المترامية  أمامه ثم عاد  لوضع الوقوف  و لكن فارداً  ذراعه على  آخره  بعد أن إحكم  قبضته على  الحجر  ثم  رشق  به  البحر فأبتلع الحجر  و عاد يلتقط  الأحجار واحداً تلو الأخر و يكرر ما فعل ,  أنتابته  حالة من الغضب و الأنفعال كانت تزداد تصاعدياً  فى  كل مرة  يتناول فيها حجراً و يصوبه  إلى البحر و كأنه يوجه  قذيفة ..    كان يتمتم  بكلمات  أثناء هذه المناوشات  من الواضح أنها  وراء  تغذيته بهذا الغضب العارم و من المؤكد أنها أيضاً  كانت السبب فى أثارة صديقه ..
 بدأ البحر يتجاوب مع المعركة فهاج و ماج , يقذفه الشاب بالأحجار فيرد عليه صديقه
بتلاطم أمواجه .. أستمر بينهم القتال حتى أصابت الشاب حالة هيستيرية  و جثا على ركبتيه بعد أن أنهكه الغضب , دفن وجهه بين كفيه و دخل فى نوبة بكاء .. و مازالت أمواج البحر تتلاطم  !
هكذا تطور الأمر  بين هذا  و ذاك  و كان لا بد من تدخل فورى  لتهدئة  الموقف  ,  تعاطفت الطبيعة مع الصديقان فبدأت السماء  تمطر .. ليس هناك تفسيراً أخر  لقطراتها سوى أن السماء  كانت  تبكى  تأثراً  لتدهور الوضع بين الصديقان  , بدأ البحر فى الهدوء نوعاً ما بينما  الشاب مازال  يدفن وجهه  بين كفيه !
كان هذا المشهد جديراً لأن يسترعى أنتباه المارة على الطريق من أمام الشاطئ  , مما جعلهم يحتشدون ليتابعون الموقف من بعيد لكنهم  قرروا أخيرا أن يتدخلوا بعد أن توقفت السماء  عن البكاء ..  إلتف حول الشاب عدداً من المتفرجين فبادر أحدهم  و ربت على كتف الشاب , هنا أنتبه الشاب فحاول الوقوف متثاقلاً ..
سأله  أحد  المتجمهرين : ما أسمك ؟
 حاول الشاب أن يستعيد صوابه ليجيبه ثم قال : أسمى  سعيد  المصرى  ..  قرأت ذات مرة أن الأنسان  لا بد أن يكون فيه شيئاً من أسمه لكن حتى الأن لم تتحقق معى  هذه  النظرية
فقررت أن ينادينى من يعرفنى بـ  ( مصرى )  ..
 فسأله أخر :  و ماذا فعل البحر معك يا مصرى  لتعامله بهذه القسوة ؟
فتنهد  مصرى  ثم  قال : ثمة شئ  مؤسف  ..  أنه  خدعنى !
وسط  ذهول الحاضرين أردف مصرى  قائلاً : نعم  صديقى  خدعنى .. كنت أجتمع معه عندما تقسو الحياة  و أشعر بالضيق .. فكان  يُغيـر رؤيتى  للواقع و يمدنى بالتفاؤل فى  كل موعد  نتقابل  فيه ..  كنت أحكى له كل أسرارى  و أحزانى   و دموع عينى  قد ساهمت فى رفع منسوب مياهه .. كان يتقبل  دموعى  و يهدئ  من  روعى  و لا يتركنى أنصرف عنه  إلا بعد رسم أبتسامة  على  وجهى  .. و الحقيقة أن الواقع كما هو لم  يتغير و أكتشفت أن صديقى كان يمنحنى  مجرد مسكنات تعودت عليها حتى أدمنتها  , جعلنى أعيش حلماً أكتشفت أنه بعيداً عن أرض الواقع .. فى  أخر موعد  تقابلنا  فيه كنت غاضباً و حدثته كثيراً عن حلمى ..  أبلغته أن لى حـُلم أسعى لتحقيقه .. أراه بسيطاً لكن يراه الأخرين كبيراً .. حلمت أن أشغل أية وظيفة بعد أن تخرجت من كلية الهندسة, تمنيت لو أن أقوم بتخطيط  منزلاً لأسكن فيه بعد أن أجد شريكة حياتى  أبلغت صديقى  بصريح العبارة : أريد أن أعيش كـأنسان يشعر بالأمان غير مجرد من أدميته ..
صرخت  فيه لأخر مرة :  أريد .. عيش .. حرية .. عدالة  أجتماعية ..
فكانت أجابته غريبة .. شعرت فى هذه اللحظة  بمياه البحر تبلل أطراف قدمى  و أحسست  بأن الأمل يتدفق فى عروقى  و أنتابتنى قشعريرة الطمأنينة  فنجح صديقى فى  هذه اللحظة  و أخرسنى  !
لكنى أعود له هذه المرة رافضاً تعاطى أية نوعاً  من المسكنات  ..  أتيت من أجل
 تصفية  الحسابات و من كان منكم  بلا  أحزان  فلينصرف الأن و يتركنى لحالى ..
و فى حركة فجائية  تفرق الجميع من حوله لكن  لم يهتم  مصرى للأمر بل عاد  لتجديد القتـال فيلتقط  الحجر من أمامه و يقذف به البحر بكل ما أوتى من قوة .
 بنفس الحركة الفجائية  تجمع حول مصرى  نفس  الأشخاص الذين تفرقوا عنه منذ قليل و لكن بحوزة كل منهم  قدراً وافراً من الحجارة  و شرعـوا جميعاً فى شن حملة هجومية من الحجارة على البحر الذى ظل ساكناً هادئاً بأمواجه يستقبل غضب أصدقائه و يمتصه فى أعماقه ..
و هنا فقد مصرى التواصل مع من حوله و لم يعد يشعر بهم  .. فقط  يشعر بأنامل رقيقة توخزه فى كتفه و صوتاً دافئاً يخاطبه : أستيقظ يا مصرى  كفى  نوماً .. بدأ مصرى يتثائب وهو يفرك عينيه بأصبعيه ثم  فتح عينيه ليجد وجه والدته الذى يبعث الطمأنينة فى قلبه  تقول له :
النوم يا ولدى لا يطيل العمر .. هيا بدل ثيابك  و أستعد و سأحضر لك الفطور حتى تلحق  البكور ففيه بركة .. بارك الله  فيك  و لعله يوفقك اليوم  و تجد عملاً يريح  قلبك و يهدى  سرك  ..
 و بعد أن أنصرفت والدة مصرى أبتسم  و قال فى شئ من البرطمة  :  مرت أياماً و شهوراً و أنا أستيقظ  بنفس الطريقة  و أسمع  ذات الكلام ..  حتى  البحث عن  وظيفة
 أصبح  له  روتين  مثل روتين الوظيفة الممل  ..  فاللعنة كل اللعنة على  تعاطى المسكنات !
أنتهى مصرى  من الطقوس الصباحية و أصبح مستعداً لمغادرة منزله و لأول مرة منذ عدة أشهر من البحث عن عمل  سيغادر منزله وهو يدرى جيداً إلى أين سيتجه , لا لن يذهب هذه المرة  إلى الشركات و المصانع و ما شابه .. فقط  سيتجه لمكاناً واحداً .. مكاناً يتخلص فيه من كل المسكنات التى أدمنها .. توجه مصرى قبل مغادرة المنزل لمطالعة ورقة النتيجة  حتى يقرأ حكمة اليوم , كان تاريخ هذا اليوم  المدون بورقة النتيجة هو 25 يناير 2011  ..  حتى  هذه اللحظة كان هذا اليوم لا يمثل أختلافاً عن الأيام السالفة لذلك لم  يكترث مصرى سوى بقراءة الحكمة المدونة , و كانت المقولة الشهيرة للزعيم الراحل جمال عبد الناصر : ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة .
نزل  مصرى  بعد  أن  تزاحمت الأفكار فى  ذهنه  و هو لا يدرى أن هذا اليوم  هو بداية النهاية    لعهد الظلم  ..  لا يدرى أن هذا اليوم  سيكون له نصيباً كبيراً فى  صفحات التاريخ ..
فقط  يدرى  مصرى  إلى  أين  سيتجه  و  ماذا  سيفعل ...
مــحــمــد حــســن عبد الجابر
سيريا ديلي نيوز

التعليقات