عشت في موسكو وزرت عدد من مدن الاتحاد السوفياتي في العصر الذهبي له وعلى مدار ما يقارب تسع سنوات على فترتين زمنيتين, الأولى ما بين 25 كانون الأولى سنة 1958 وحتى 25 نيسان 1965 وأمضيتها في تعلُّم اللغة الروسية والحصول على الشهادة الجامعية الأولى من أكبر وأقدم معهد تقني في عموم الاتحاد السوفياتي, والفترة الثانية ما بين 26 كانون الأولى من عام 1969 وحتى 25 شباط 1973حيث حصلت على شهادة الدكتوراه في هندسة الميكانيك اختصاص إنتاج. ومن الطبيعي أن حياتي كانت مقاسمة مع الطلبة من مختلف قوميات الاتحاد السوفياتي وتعاملت مع أجهزة حكومية وغير حكومية مثل منظمة الشباب ومنظمة الطلبة ومنظمة الحزب الشيوعي, وحضرت عدد من الاجتماعات المفتوحة لهذه المنظمات وقابلت عدد من المسؤولين في هذه المنظمات كما تابعت مادة (الشيوعية العلمية) وقدمت امتحان فيها ونجحت بدرجة ممتازة. يمكن التأكيد على أن الاتحاد السوفياتي خلال الفترتين المنوه عنهما أعلاه كان في عصره الذهبي. والكل يعرف بأن البيروقراطية كانت متجذرة في إدارات الاتحاد السوفياتي والروتين مُعقَّد ولكن لن تجد سدوداً منيعة مُغْلقة غير قابلة للفتح ومن دون وساطات سوى أن تكون بجانب المنطق والحق. بعد هذه المقدمة أعود لقضية رفع الأسعار لأي مادة غذائية ففي ربيع سنة 1962 وبسبب أخطاء في التخطيط الزراعي وسوء الأحوال الجوية قررت السلطات رفع أسعار الخبز ومنتجات الحليب واللحوم وبنسبة تتراوح ما بين 10 و15 بالمائة, وحتى لا يصطدم الشعب في عموم الاتحاد السوفياتي بهذا الارتفاع كان لا بد من إعلام أكبر عدد من المواطنين قبل تنفيذ قرار رفع الأسعار. يوجد في كل حي وفي كل منطقة وفي بيوت الطلبة غرفة للاجتماعات الطارئة تسمى الزاوية الحمراء كما يوجد جيش من السياسيين المرتبطين بهذه الزاوية. واعتباراً من بعد ظهر اليوم الذي يسبق رفع الأسعار وُجِّهت دعوات سريعة للحضور إلى أمكنة التجمعات. في المنطقة التي أسكن فيها يوجد ثلاثة أبنية للطلبة وقد تم دعوة الطلبة فيها للحضور إلى الزاوية الحمراء في البناء الذي أسكن فيه عند الساعة السادسة مساءً. امتلأت القاعة بالطلبة وحضر مسؤول الحزب الشيوعي من الطلبة ومسؤول الشبيبة ومسؤول الاتحاد الوطني كما حضر سياسي يعمل طوعياً ليشرح لنا أسباب رفع الأسعار. استمر الاجتماع حوالي الساعة طرح السياسي الأسباب التي أدت لرفع الأسعار وأجاب على استفسارات الطلبة. حدث مثل هذا الاجتماع في كل مكان على عموم الأراضي السوفياتية. هل اقتنع الناس أم لا فهذا من الصعب الإجابة عليه ولكن كانت المبررات منطقية. بعد أن غادر قادة الاجتماع كانت مناسبة للطلبة لمناقشة أوضاع السكن الجامعي وما ينقصنا من وسائل تحسين المعيشة. الحديث يجر الحديث فتوصلنا إلى أن مطعم الطلبة يقدم أطعمة غير جيدة فقررنا مقاطعة الأكل في المطعم غداً حتى يتحسَّن الطعام. وكانت هناك ضرورة لإبلاغ جميع الطلبة في الأبنية بضرورة الأضراب غداً وعدم الأكل في المطعم حتى يتحسن الأكل. تطوع عدد من الحضور لزيارة الطلبة في غُرَفهم في الأبنية الثلاثة. شاركت مع زميلين من سورية لتنفيذ هذه المهمة. وحتى يتضح حجم المهمة وصعوبتها فيجب أن نعرف أن عدد الطوابق في الأبنية الثلاثة. يوجد 6 طوابق في بنائين وأربعة طوابق في البناء الثالث. ويتشكل الطابق من بلوكات كل بلوك فيه غرفتين: غرفة صغيرة مخصصة لثلاثة طلاب وغرفة كبرى مخصصة لأربعة طلاب. وكل طابق فيه عشرين بلوك. نفذنا المهمة على أكمل وجه وخلدنا للنوم حوالي منتصف الليل تقريباً وقد اتعبتنا مهمتنا. وقبل أن نغفو سمعنا طرقاً على باب الغرفة التي أسكن فيها مع زميلين من سوريا. فتحت الباب فأجد أمامي مسؤول الحزب الشيوعي في الأبنية والمحاضر الذي شرح لنا سبب أسباب رفع أسعار بعض المنتجات الغذائية وطلبا منا السماح لهما بالدخول. طبعاً رحبنا بهما ولم يجلسا فقال المحاضر بأن مظهر الإضراب غداً غير صحي ومع ذلك وجه رجاء بأنه غداً إذا الأكل غير جيد فيمكنكم الإضراب بعد غد. طبعاً وافقنا على طرحه. مما اقتضى إعادة إبلاغ جميع الطلبة بضرورة قطع الإضراب وتأجيله ليوم بعد غد. وبالفعل عدنا وزرنا جميع الطلبة وشرحنا لهم ما جرى معنا. يوم غد كان الطعام ممتاز والمطعم يضوي من النظافة والعاملات يلبسن أنظف الألبسة والتعامل مع الطلبة لطيف وبحرص شديد على تلبية طلبات الطلبة من دون تذمُّر. استمرت حالة المطعم حتى آخر يوم لنا في السكن الجامعي وقد انعكس ذلك في باقي المطاعم في أبنية السكن الجامعي وفي مطعم المعهد وحتى في المطاعم التي زرناها لتناول الطعام عندما كنا بعيدين عن مطاعم السكن الجامعي. قرار رفع الأسعار سياسي بامتياز والقيادة السياسية هي التي سمحت برفع الأسعار والدفاع عنه, وشرح الأسباب المنطقية له من مهام القيادة السياسية أيضاً. هكذا تعاملت الدولة ذات البيروقراطية المُعقَّدة والروتين الطويل مع رفع الأسعار. لا اعتقد بأن هناك ضرورة للتعليق وإجراء مقارنة مع رفع الأسعار الأخير في سوريا. وأكتفي فقط بالتصريحات التي بخشت آذاننا بأن الخبز خط أحمر ومع ذلك تضاعف سعره خلال فترة قليلة جداً ومُفاجئ وحدث ذلك مع المازوت والغاز والبنزين وكلها تؤثر على أصحاب الدخل المحدود وفقراء الوطن الأعزاء في الدفاع عن كرامته وعزته, ويستفيد من ذلك كبار الجزارين من

سيرياديلي نيوز - د . م محمد غسان طيارة


التعليقات