خاص -سيريا ديلي نيوز

في حياة كل منا , ذكريات كثيرة , ومواقف خاصة , وخاصة ذكريات الطفولة المفعمة بالإنسانية , وفيها من الحكمة مايكفي أن يكون كل منا إنساناً , ولكن قلة قليلة هي التي يكون لديها القدرة والجرأة أن تعترف ...ولو عرفنا بأن العودة لذكرياتنا , وكتابتها هي أولاً تكريم للإنسان المميز صاحب الموقف المؤثر في ذكرياتنا , وعملية مصالحة لأنفسنا, وعبرة للجيل الحالي , والأجيال القادمة ., وهاأنا أروي أهم ماأثر في حياتي. من أوراقي الخاصة ..

محرده شتاء 1970 كنت في الثانية عشر من عمري , أجلس بقرب المدفأة أراقب قطرات المازوت المتساقطة قطرة قطرة , ولهيب النار يتأجج من خلال زجاج بوابة المدفأة , بينما كانت أمي تفترش الأرض تخيط لحافاً جديداً , وهي تتمتم بأغنية لفيروز . جوعان .. كلمة قلتها بخجل , فردت أمي ضاحكة : خسى الجوع ..أحلى كاسة شاي وسندويشة زيت وزعتر لعيونك , ونهضت أمي للمطبخ , وما كدت ألحق بها, حتى صرخت بأعلى صوتي ألماً فعادت أمي لتجد أن الابرة الكبيرة التي كانت تخيط بها قد دخلت رجلي ,, نمت تلك الليلة في حضن أمي موجوعاً, وفي الصباح أكتشفت بأن رجلي قد تورمت بحيث لأستطيع الوقوف أو السير فصرخت فرحاً : اليوم مافي مدرسة واوووو فنهرتني أمي قائلة : أبداً ..ستذهب للمدرسة كل يوم حتى لو حملتك على ظهري .. وهذا ماحدث فعلاً,, فكانت تحملني على ظهرها من بيتنا في الحارة الشرقية , وتمشي باتجاه مدرسة أمين الريحاني في الحارة الشمالية ..وكنت أسمع أنفاسها تعلو وتهبض , وهي تقول لي : لاتشد بيدك على رقبتي تكاد تخنقني ياأبني ,وكنت أخجل أن أقول لها اني أتمسك بها بقوة لأني خائف أن أقع فيتلوث مريول المدرسة الوحيد الذي أخاطته جارتنا المرأة الغنية الطيبة التي تبرعت بذلك حين علمت بأني طردت من المدرسة لعدم قدرة أهلي شراء مريول لي فتبرعت أمي لقاء ذلك أن تساعدها كل يوم بأمور المنزل.. كانت أمي قد لفتني ببطانية مرقعة لتحميني من البرد , وليسهل عليها حملي , ورغم ذلك كنت أراها تمشي بصعوبة لتتجاوز برك الماء المتجمعة لتدوس على الوحل بجزمتها البلاستيكية السوداء , وكان المطر يباغتنا أحياناً فكانت تجلس أمام بيت البيطار لترتاح قليلاً ثم تحملني من جديد وتمشي قرابة مئة متر وتجلس على مصطبة امام بيت الوكيل وكانت هكذا تمشي مسافة قصيرة ثم تقف أو تجلس قليلاً لترتاح , وكنت أتأمل وجهها المتعب فلاأستطيع أن أميز العرق عن المطر فقد إغتسل شعرها ووجهها وراحت تمسحه بسرعة ثم تحملني من جديد حتى نصل مدرسة أمين الريحاني ومازلت أذكر أول مرة رآنا آذن المدرسة مرديج الذي أسرع لمدير المدرسة الياس قاورما وهو يصرخ : تعال شوف هالشوفة.. وجاء المدير والاستاذ توفيق العوش الذي طلب من الاذن أن يساعدني لأدخل الصف وأجلس مكاني ثم ودعتني أمي قائلة : لاتضيع تعبي ياأبني , بدي تبيض وجهي . وغادرت الصف , وهي ترسل قبلاتها لي بالهواء لتعود عند نهاية الدوام لتحملني للبيت من جديد وعبثاً حاولت, وحاول بعض الجيران أن نمنعها الا أنها كانت تصر بأنه لايجب أن أغيب عن المدرسة . عشرة أيام كانت تحملني على ظهرها للمدرسة التي تبعد أكثر من ألف متر ..وفي الايام الاخيرة كان والدي يعيدني على ظهره من المدرسة ... هذا الموقف ترك في نفسي إصراراً أن أنجح ., لان كل نجاح لي سيكون ابتسامة فرح في قلب أمي ..

السويد عيد الميلاد 2003 كان مناسبة رائعة , لأول مرة تزورنا أمي , في اليوم الاول كانت مناسبة أن أعرفها على محتويات الفيلا .. فكنت مع زوجتي وأولادي نشرح لها في الطابق الاول غرفة التلفزيون والصالون والمطبخ والمدخل وغرفة الثياب وغرفة الغسيل والكراج وتوقفنا امام درج لولبي فقلت لها وهذا الدرج يؤدي لغرف المنامة في الطابق الثاني . قالت : أنا أريد غرفة في الطابق الاول , لأنني لأستطيع الصعود على الدرج .. وما كادت تنهي عبارتها حتى حملتها على ظهري وصعدت الدرج وسط استغراب عائلتي ووصلنا الطابق العلوي .. وهممت أن أنزلها فـوجدتها تبكي وحضنتني وهي تـقول : أما زلت تذكر .. حضنتها بقوة : وهل نسيت حتى أتذكر ياأمي ... ومسحت لها دموعها وقلت لها ستكون غرفتك هذه ذات الاطلالة الجميلة , وسأحملك كلما رغبتي , وحضنتني من جديد تبكي وأنا أبكي وسط ذهول أولادي الذين لم يفهموا شيئاً في المساء , لبست لباس بابا نويل ووزعت الهدايا وجلست أروي لعائلتي الصغيرة ما فعلته أمي فتأثروا وهرعوا اليها يعانقونها, ويبكون وتبكي , وسألني أبني الكبير : كيف يمكن أن يرد الابناء الدين الذي برقبتهم لأهلهم ..؟ فقلت له : لا يا أبني ..أمي لم تفعل ما فعلته ليكون دين في رقبتي , تطالبني فيه ذات يوم.. , بل فعلت واجبها كأم لتراني انساناً متعلماً , ناجحاً في حياتي حتى أستطيع أن أرد دينها لأولادي .. وما أفـعله الان معكم , هو ديــن ستردونه يـوماً مع أولادكم .. أمي في تصرفها ذلك أشترت لي إنسانية من الصعب أن أفرط بها ..وبقيت تلازمني في حياتي , سأريك ماكتبته الاعلامية الصديقة لانا شربجي : أكثر مايجحظ عيني عند قراءة أستاذي يعقوب مراد هو انسانيته التي تشكلت في رحم والدته قبل أن يولد , وصقلته حكمة بعد ولادته ., شكراَ لك حرف ., ولكل قطرة انسانية يسقي بها قلوبنا اليابسة .., بفعل الوحدة .. ثم التفت لابني وقلت : لذلك أقول لايمكن لأي انسان أن يرد دين الابوين ..وخاصة الأم ,الام حياة ,, والحياة أم تستحق منا كل الرعاية والاهتمام والتقدير والاحترام . وتلك الليلة وضعت رأسي في حضن أمي ونمت كما ينام الطفل الصغير بينما كانت أمي تعبث بشعري , وتغني لي أغنية فيروز ياسنين اللي راح ترجعيلي ., أرجعيلي شي مرة أرجعيلي .. مرت السنين وعادت أمي لسوريا ,لأنها لم تقوى على البرد والثلج والغربة ., ولتموت وتدفن بجانب أبي وجدتي ... وبقيت الذكريات ., وبقي صوت فيروز ياسنين اللي راح ترجعيلي..

سيريا ديلي نيوز


التعليقات


غسان ابو زعيتر
لم اقرأ في حياتي شيئأً ابكاني بهذا القدر وبهذه الغزاره من الدموع التى انهمرت دون احساس بهذا الوافع الذى هرب الى الماضي البعيد الى الوقت الذى كان يوم ولدتني امي

يعقوب مراد
السيد غسان : شكرا لكلماتك الطيبة , وأعتذر عن الدموع التي سببتها لك حكايتي التي لن انساها ابدا

يعقوب مراد
صديق الطفولة الاستاذ الرائع نزية : رائعة كلمة اختزلت بها كل ذكريات الطفولة التي رافقتني بها على مقاعد الدارسة في سنوات كنا نعتبرها سنوات سيئة لنكتشف اليوم بانها كانت اجمل أيام حياتنا

يعقوب مراد
السيدة رحاب : أشعر في كل مرة تكتبين لي تعليقاً , وكأنك كنت رفيقة لي في مجريات القصة او كنت معي معي حين كنت اكتبها لانك تكتبين فعلا حقيقة الحواس الخمسة التي تسكنني حين اكتب .. شكرا لك صديقتي

نزيه زروف
رائعـــة أستــاذ يعقـــوب.....

رحاب شبيب
تعجز الكلمات عن إنصافك أستاذ يعقوب مراد.. قرأت هذه المقالة لأول مرة في عيد الأم سنة 2013 وقد نقلت حروفك نبض الإبن البار الوفي ليلامس أحاسيس جميع قُراء صفحتك وأنا منهم.. ولا أنسى شدة تأثري وتغلغل روحي بين سطورك لأشعر وكأنني في عالم من الإنسانية والحنان والحنين والوفاء.. وقد أدمعت عيناي وبكيت!! حينها راودني شعور بأن نبضك قد انتقل ببراعة وإحساسك وصل إلى قلوب جميع القراء وقلت في نفسي بأن كاتبنا الكبير كتب هذه السطور بعيون مدمعة وقلب ينضح حنينا" ووفاء"لذكرى الأم التي أنجبت وضحّت وعلّمت لتحفر في وجدان ولدها آيات خير وإصرار وتضحية.. ليكون رجلا"عظيما"له مكانة" واحتراما"كبيرين... وقد أعدت قراءة هذه المقالة مرات ومرات خلال سنة واليوم أقرأها بشغف وكأنها أول مرة وبنفس التأثُر والتفاعل مع كل كلمة.. ليتأكد لي بأنني كنت على حق حين أطلقت عليها إسم:/ المقالة المقدّسة / لأنها تحمل أنبل وأنقى المشاعر.. السلام لروح أمك.. وكل التقدير والإحترام لك ولإنسانيتك المتأصلة التي استقيتها وتربيت عليها في حضن إمرأة نقيّة وأصيلة وباقية في قلبك ووجدانك.

ياسر شيخاني
ماأجمل تلك المشاعر التي خطها لنا قلمك الجميل هنا لقد كتبت وابدعت كم كانت كلماتك رائعه في سحر معانيها بارك الله بك على المشاعر الجميلة والصادقة والرقيقة ممكن انسان يعوض كل شئ في حياته لكن من الصعب ان يعوض حنان الام واكرر بوركت لانها نابعه من قلب مخلص للوالدين ومحب للوالده اسئل الله ان يعطيكم الصبر ان شاء الله تحياتي ودعائي ياأستاذ يعقوب ....