تعتبر مسألة الأجور في سورية ومدى كفايتها وتغطيتها لتكاليف الحياة الضرورية الشغل الشاغل لأصحاب الأجر الذين يرزحون تحت وطأة اختلال مجحف في توزيع الثروة لمصلحة أصحاب الربح الكبير، حيتان الفساد القادرين على ابتلاع ما يزيد عن 80% من الثروة السورية.
في الجدل الدائر حول مسألة الأجور في البلاد، ثمّة الكثير ممن يميلون على نحوٍ مفهوم إلى اعتبار هذه القضية واحدة من المشاكل المزمنة في سورية، وهو أمر حق، فالعدالة التامة في توزيع الثروة الوطنية هي أمر لم تشهده البلاد مطلقاً في التاريخ الحديث، والخلل في توزيع هذه الثروة بين أصحاب الأجور وأصحاب الأرباح هو مسألة مستمرّة وقديمة. ولكن ما يغيب في هذا النقاش غالباً هو التحديد الدقيق لمقدار النقلة الكارثية التي شهدتها الأجور السورية على مدار العقود السابقة، وهو أمر يقودنا في هذا المقال إلى طرح السؤال التالي: ماذا لو كان الحد الأدنى للأجور في البلاد اليوم مكافئاً لقيمة الحد الأدنى للأجور الذي كان موجوداً في خمسينيات القرن الماضي؟
مقياس الخمسينيات:
1 كيلو غرام لحم غنم يومياً
قبل أن يكون هنالك مكتب مركزي للإحصاء في سورية، كان الحد الأدنى لأجور العمال السوريين في خمسينيات القرن الماضي محدداً بحيث يكون قادراً على شراء ما يزيد قليلاً عن 30 كيلو غرام لحم غنم شهرياً، أي أن الحد الأدنى للأجر اليومي للعامل السوري آنذاك كان يستطيع شراء 1 كيلو غرام من لحم غنم يومياً.
اليوم، وبعد مرور حوالي سبعة عقود، يحصل العامل السوري على حد أدنى للأجر يبلغ 92,970 ليرة سورية شهرياً، أي أن يومية هذا العامل تقل عن 3000 ليرة، وعلى اعتبار أن ثمن كيلو لحم الغنم (وسطياً بين سعره لدى صالات المؤسسة السورية للتجارة وسعره في السوق) هو 40 ألف ليرة سورية، فإن الحد الأدنى للأجور اليوم لا يستطيع أن يشتري سوى كمية تقل عن 79 غرام لحم غنم يومياً. أي أن عدد غرامات لحم الغنم التي يستطيع الحد الأدنى للأجر شراءها قد تراجع خلال ما يقارب سبعين عاماً بحوالي -92.1% وهي نسبة كارثية بجميع المعايير تعكس جانباً من الضربات التي تلقاها الأجر السوري.
هل مقياس الخمسينيات موضوعي؟
قد ينظر البعض إلى مقياس الخمسينيات للحد الأدنى للأجور بوصفه مقياساً قديماً لا يمكن البناء عليه. لكن المفارقة تكمن في درجة التقارب - التي تصل إلى حد التطابق- بين هذا المقياس والحد الأدنى لتكاليف غذاء الأسرة السورية اليوم، وتحديداً طريقة حساب تكاليف الغذاء المعتمدة على ما أقره مؤتمر «الإبداع والاعتماد على الذات» للاتحاد العام لنقابات العمال في عام 1987، حين حدّد حاجة الفرد اليومية بحوالي 2,400 حريرة من المصادر الغذائية المتنوعة، وفق توزيعة يومية مدروسة على الشكل التالي: (500 غرام خبز، 50 غرام بيض، 25 غرام جبن، 75 غرام لحوم، 250 غرام خضار، 200 غرام فواكه، 112 غرام حلويات، 70 غرام أرز).
ووفقاً لآخر حساب أجرته جريدة قاسيون لتكاليف غذاء الأسرة بناءً على التوزيعة المذكورة آنفاً، فإن تكاليف الغذاء الضروري لأسرة سورية من 5 أفراد بلغ 34,601 ليرة سورية يومياً، أي ما يقارب 9 دولارات أمريكية أو حوالي 0,16 غرام ذهب، وكذلك فإن وسطي سعر 1 كيلو غنم في السوق السورية هو 40 ألف ليرة، أي ما يقارب 10 دولارت أمريكية، أو 0,19 غرام ذهب، ما يثبت أن مقياس الخمسينيات رغم قِدمه لا يزال يعكس الحاجة الغذائية للأسرة السورية بشكلٍ قريب جداً.
كم يجب أن يرتفع الأجر؟
وفقاً لما سبق، لو أراد العامل في البلاد اليوم الحصول على حد أدنى للأجور مكافئ للحد الأدنى الذي كان يتقاضاه في خمسينيات القرن الماضي، فإنه يجب أن يتقاضى ما يقارب 300 دولار أمريكي، أي حوالي 1,200,000 ليرة سورية شهرياً، ما يعني أن الحد الأدنى للأجر يجب أن يتضاعف حوالي 13 مرة، هذا إذا افترضنا ثبات الحاجات الضرورية بين الخمسينيات واليوم.
لكن وبالنظر إلى تضخّم الحاجات الأخرى غير الغذائية، من مسكن ولباس ومواصلات وتعليم وصحة واتصالات، فإنه من المنطقي أن يتم اعتبار ثمن 1 كيلو غرام لحم غنم معادلاً لتكاليف الغذاء اليومية الضرورية، وبالتالي اعتماد نفس الطريقة التي يحسب على أساسها الحد الأدنى لتكاليف المعيشة، أي باعتبار الـ1,200,000 ليرة هي تكاليف الحد الأدنى للغذاء التي تمثل 60% من الحد الأدنى لتكاليف المعيشة، وبإضافة 40% للحاجات الأخرى أي 800,000 ليرة، فإن الحد الأدنى للأجور يجب أن يلامس المليوني ليرة سورية، وهذا أيضاً قريب جداً من حساب وسطي تكاليف المعيشة وفقاً لمؤشر قاسيون عن شهر آذار الماضي.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات