جاءَ قرارُ ترامب المتضمّن انسحابَ القواتِ الأمريكيّةِ من سورية صادماً ومفاجئاً، إذ يعدُّ منعطفاً نوعيّاً في مسارِ الأزمة ِ/ الحربِ الدّائرةِ في سورية التي كان للدّولِ الغربيّةِ بقيادةِ الولايات المتحدة الأمريكيّة الدور الأساس في تغذيتها وتعقيدها، سواء أكان ذلك عن طريق الوجودِ العسكريّ المباشر، أم عن طريق تقديم الدعم السياسي، واستخدام أسلوبِ التلزيم بالوكالة لأطراف داخلية وقوى إقليمية، تحديداً تركيا وإسرائيل.
ويبقى السؤال الأبرز في هذا الإطار: هل يُعَدُّ قرار ترامب مؤشّراً للحلِّ السياسيِّ، وإنهاء الحرب الدَّائرة في سورية، أم أن القرار يندرج في سياق مختلف و الحرب ستبقى مستمرة؟
لقد تزامن صدورُ قرار ترامب في الواقع، مع مجموعةٍ كبيرةٍ من الإشارات والرسائل التي سبقت القرار، صدرت عن بعض الدول في الإقليم، بدءاً من تركيا، مروراً بالسودان، وانتهاءً برسائل دولة الكويت والإمارات العربية المتحدة التي عبرت عن الرغبة بالتعاون، وإعادة التمثيل الدبلوماسيّ والعلاقات مع سورية. ويبقى السؤال هل تمثل تلك الإشارات بدورها أيضاً إرهاصات لبوادر حلٍّ سياسيّ بات يلوح في الأفق؟ أم أنَّ الحربَ مستمرةٌ، وشروط إنتاج الحل لم تنضج بعد؟!
أولاً: قرار الانسحاب المعنى والدوافع ــ المضمون والسيناريوهات
إنَّ عنصرَ المفاجأة في استصدار قرار الانسحاب، لابدَّ وأن يلقي بظلالٍ كثيفة على مُخيلة الباحثين والمحللين الذين لم يجدوا مُتسعاً كافياً من الوقت للاستدراك والتخلّص من ضغط الحدث، لأنَّ القرار ينطوي على مضامين مهمة في منظور التقييم الاستراتيجيّ، وتدفع لطرح تساؤلات قلقة من قبيل: لماذا الانسحاب الآن؟ وفي أي سياق أتى؟ وما الدوافع والأسباب؟ من هي الأطراف الرابحة؟ ما السيناريوهات المتوقعة؟ أين المصلحة الأمريكية؟ أين إسرائيل الحاضر الغائب؟ هل يعد قرار الانسحاب إيذاناً بالحل السياسي؟......؟
ينطوي قرار ترامب في الواقع على دلالاتٍ استراتيجيّة مهمةٍ، بالنسبة لمختلف القوى والدّول التي لها علاقة بمجرى الصراع الدَّائر في سورية. ففي الوقت الذي يمكن أن يُعَدّ القرار فيه انتصاراً سياسيّاً وميدانيّاً ويُفسَّر بصفته كذلك، بالنسبة للدولة السورية وحلفائها الدوليين (الروس والإيرانيين)، إلا أنّه يُعَدّ مصدرَ قلقٍ كبيرٍ بالنسبة لقوى وأطراف محلية وإقليمية ودولية، صُدمت بالقرار، وأُصيبت بالخيبة والارتباك، لأنها كانت قد أسست رؤيتها تاريخيّاً، وحدّدت موقفها، بناءً على متطلبات الدور الأمريكيّ المرتقب، وسيناريو تدخل أمريكيّ مباشر، في لحظة تاريخية منتظرة، يمكن أن يغير مجرى الصراع باتجاه مختلف، ينسجم مع مصالحها الاستراتيجية.
وتأسيساً على معايير التقييم الاستراتيجيّ العامة والخاصة لأيّ حدث، (قرار الانسحاب من سورية، الذي هو موضع الدراسة والتحليل) لا يمكن تفسير دوافع ترامب، بمنظور حسابات الأرباح والخسائر والكلف المادية، كما جرى تاريخيّاً في العراق، مع الأخذ بالحسبان اختلاف السياق في الزمان والمكان، إذ لا يترتب على وجود القوات الأمريكية في سورية أيّة خسائر تُذكر، لا مادية ولا بشرية، كما لا يترتب عليه أية خسائر سياسية. إذن، ما الدوافع؟ وما الغاية منه؟
في ضوءِ تحليلِ الكثيرِ من المعطيات، وتحليل المواقف نعتقد أنَّ قرار ترامب جاء في سياق اتفاق استراتيجيٍّ بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية على سيناريو يُحرجُ الضامنَ الروسي والإيرانيَّ، ويؤدي إلى خلق وقائع جديدة، عبر توغل تركيٍّ مسنودٍ ومُغطىً أمريكيّاً لملءِ الفراغ، يستهدف خلقَ وضعٍ جيوبوليتيكيٍّ جديدٍ، ينتهي بمنطقة شرق الفرات إلى ما يشبه سيناريو إدلب، على أن تؤسس الوقائع الجديدة لتسوية لاحقة على مساحة معيّنة من إدلب، تمتدّ على طول الحدود، حتى منطقة شرق الفرات، تحت مستوى سقفِ تفاوضٍ تركيٍّ مرتفعٍ، لجهة ما يتعلق بمضمون العملية السياسية في سورية، وماهية الحلِّ السياسيِّ وطبيعته، ودور إيران وحجم وجودها في سورية.
يعني ذلك أنَّ قرار الانسحابِ يندرجُ في سياق التلزيم والإدارة من الباطن، الذي يستهدف تعزيز موقع تركيا التفاوضيّ مع روسيا، إذ إنَّ للعلاقة مع تركيا أهمية كبرى في معادلة مصالحها الاستراتيجيّة لروسيا، كذلك الأمر بالنسبة لإيران التي ستجد نفسها بين مطرقة العقوبات الدولية المتشددة والمؤلمة وسِنْدان المواجهة المباشرة مع شروط ومتطلبات الضامن التركيّ الممسك أكثر بالجغرافيا والنفوذ على الأراضي السورية، وقد التقط الجانبُ الإيرانيُّ الإشارات، وفهم مسبقاً مغزى قرار ترامب ومضمونه، ولذلك اتجه الرئيس الإيرانيّ السيد حسن روحاني لزيارة تركيا على نحوٍ عاجل، للوقوف على طبيعة التطورات في الموقف التركيّ.
ويبقى الخاسرُ الأكبر هم الأكراد الذين وجدوا أنفسهم، بعد تخلّي الأمريكيِّ عنهم إزاء خيارين: إما إلقاء السلاح، بطلب روسيٍّ، في حال الرفض وعدم الانصياع للمشروع الأمريكيّ التركيّ الجديد، أو إلقاء السلاح بطلب تركيّ في حال القبول بالمشروع الأمريكيّ-التركيّ، ما يُفضي بهم إلى التعامل مع الوجودِ التركيِّ كأمرٍ واقعٍ. وهنا يتعيّن على الأكراد استخلاص العبر والدروس، وفهم مغزى التحولات، وتقدير الموقف بصورة عقلانيّة وواعية، والتخلص من تطلعات سياسية، لا يمكن أن تندرج -كما نعتقد- إلا في سياق الأوهام والطوباويّة.
ثانياً: الحرب مستمرة في سورية
لا نعتقد في مُخْتَلِفِ الأحوال أنَّ شروطَ إنتاج الحلِّ للأزمة السورية قد توافرت حتى اللحظة الراهنة. لأن رهاناتِ الولايات المتحدة الأمريكية، وتطلعاتها نحو تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى عن طريق توظيف الحرب والصراع الدّائرين في سورية، لم تتحقق بالصورة والتصور الأمريكي حتى اللحظة الراهنة، تحديداً لجهة ضمان الأمن الاستراتيجيّ لإسرائيل، والحدّ من النفوذ الروسيّ والأوروبيّ في المنطقة، واحتواء دور الصين الصاعد، والتحكم بمصادر الطاقة (النفط والغاز). ولذا يتعين علينا أن ندرك جميعاً أن الانسحاب الأمريكي من سورية، لا يمثل في المرحلة الراهنة تسهيلاً لتمرير الحلّ الاستراتيجيّ للأزمة السورية، كما يتعين علينا، ألا نبالغ كثيراً، وألا نراهن بصورة تبشيرية على أيّ مراجعة لثوابت السياسة الأمريكية التاريخية المتعلقة بالإقليم أو المنطقة.
لكن، بما أنَّ ساحة تصفية الحسابات والتّقاص، قد فُتحت على أراضي الدّولة السوريّة ، مع وجودِ مَن يسدد فواتير الحرب وافياً بتعهداته، وقيامِ إمكانيّة تجنيد عشرات الألوف من المقاتلين المرتزقة، فإنَّ ذلك كلّه يعني أنّه لا توجدُ مصلحةٌ أمريكيّةٌ في إنهاء النزاع وإطفاء نار الحرب، التي ستبقى مستمرةً ومُدارةً ضمن حدود وأطر معينة، ويبقى المطلوب في منظور الاستراتيجية الأمريكية هو أن تبقى سورية غير مستقرة، تشكّل بؤرةَ توتر، ومصدرَ قلقٍ، ومرتعاً خِصْبَاً للإرهاب ، وسيبقى الخيار الأمريكيّ قائماً ومستمراً يراهن على جدوى توظيف الحرب لاستنزاف قوى وإمكانات مختلف أطراف الصّراع.
يتبيّن بصورةٍ واضحةٍ أنَّ قرار ترامب القاضي بانسحاب القوات الأمريكيّة من سورية، يندرجُ كما نعتقدُ في سياقِ لعبةٍ مركبةٍ، تستهدفُ خلط الأوراق المتعلقة بالأزمة السورية من جديد، بما يساعد في تعزيز الدور التركيّ في الإقليم على حساب الدور الروسيّ والإيرانيّ.
ثالثاً: استدراكات/ مخاتلات جسّ نبض تركية
في خطوة تكتيكيّة استدراكية لجسّ نبض الجانبين الروسيّ والايراني، اتجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لتوظيف الكرت / الورقة الأمريكية بطرحها كأحد الخيارات المستبعدة، ولذا فقد قام بإرسال إشارات مطمئنة لجهة ما يتعلق بعدم رغبة تركيا بالتوغل في الأراضي السورية، لكنها مُبَطَّنة ولا تُخفي حقيقة النوايا التركية، إن كان آخر العلاج التدخُّل.
وعليه، سيتحدّدُ بدقّة الموقفُ التركيُّ المتوجّس في ضوء نتائج اختبار الإرادتين الروسية والإيرانية، في توظيف أدوات الردع الاستراتيجية، لتفويت الفرصة على المشروع التركيّ-الأمريكيّ الجديد، عن طريق تحقيقِ انزياحٍ في طبيعةِ الاصطفافِ السياسيِّ والعسكريّ للأكراد، ودفعهم للتخلي عن المشروع الكرديّ / الوهم، ومن المفترض أن يدرك الأكراد أنَّ اللحظةَ التاريخية مناسبةٌ، وينبغي عليهم استيعابها وفهم استحقاقاتها وشروطها، كي لا يتكرر سيناريو إدلب من جديد
د.مدين علي
مركز دمشق للـأبحاث والدراسات
سيريا ديلي نيوز
2018-12-23 17:03:09