سيريا ديلي نيوز_د. نهلة عيسى
لا أدري لماذا كلما زرت جبهة من جبهاتنا المشتعلة للقاء جنودنا؟ تنتابني رغبة مجنونة بأن ألصق جروحي بكل جرح ألقاه، مثل مغناطيس يلتصق بحديده الأم، لتتشابك الأصوات والأرواح والروائح والوجوه، لتنزف معاً، بل ربما لتعزف معاً، فتصير الموسيقا مداراً للكون، لأننا معاً!؟.
لا أدري لماذا كلما زرت جنودنا في الجبال والسهول البعيدة؟ تنتابني موجة من المرح، تصبح فيها الحرب مجرد شبح، ويخرج الوجع من جوف ظلامه، كأن باباً في الصيف قد انفتح، كأن تياراً من الهواء الدافئ، يكنس من عظامي البرد، ومن جوفي الصقيع، ليرفع القلب راية الفرح!؟.
لا أدري لماذا كلما ذهبت إلى الأبطال؟ تتآكل في قدميّ الأرض، ويذوي من شفتيّ القول، لأحدّق في آلاف الوجوه في وجهي، أسألها: متى يرتد النبض لظلي الخائف؟.
لا أدري لماذا كلما ذهبت إليهم؟ أنظر في عيونهم محدقةً، أليس حراماً أن تسكن هذه الجفون دمعة من دموع الحزن، هذه عيون خُلقت لتجبر عيون الليل على التفتح على ابتسامة النهار، هذه عيون خُلقت لكي تكون مزاراً، هذه عيون لم تر القدس إلّا تصاوير، وسيفاً قديماً، وصورة جد، وفي التلفاز عظام الرجال التي ما استكانت على ضيم، يلمها غلمان ممالك القش، كي تكون موائد للتواقيع، أو قلماً أو عصا لمراسم استقبال، من قتلوا الرجال، هذه عيون رغم ذلك كله ما هانت ولا استكانت، ولا قالت: نحن لم نخلق للحرب، هذه عيون كدّست الأحلام أكياس رمل على حدود الصور، وحملت ظلال الماضي قروضاً حسنة، وأقسمت: نموت تحت الأحصنة، ويبقى الوطن!.
لا أدري لماذا كلما هربت إليهم من حالة العدم؟ أشعر وكأنهم قارب من فلين للعرب الغرقى الذين شتتتهم سفن القراصنة، وأدركتهم لعنة الفراعنة، وسنة.. بعد سنة، صارت لهم “حطين” تميمة الفاه، ترتدي تارة العقال، وأخرى ترتدي ملابس الفدائيين، وتقود الصغار إلى حتفهم، ثم تشتكي لمجلس الأمنِ!؟.
قارب منسوج من جروح، يربض الآن فوق ظلال المدينة، وردة من وجع، هادئاً.. عازماً بعد أن قال لا للغرقى، أن يكون للوطن، فالشاطئ وهم، وعمر الشراع قصير، والعمر جثة ريح ضجرة، لا تكاد تعلو أغصان الشجر، حتى تلامس أطرافها حواف الأرض، وسلال من الورد تحمل اسم قاتلها، تجمّلُ الموت، ويبقى الموت.. موتاً!.
لا أدري كلما ذهبت إلى جنودنا في الجبهة؟ أشعر وكأنني أدخل الحرب، لأستريح من الحرب، وأغادر خوفي من الموت، لأقاسمه فراشه، وطعامه، وشرابه، ورفاقه في اجتماع شمل، وأعابثه في ساحاته، كاليمامة بنت كليب تنادي الأم والخال: “أنا لا أصالح حتى يقوم والدي، ونراه راكباً يريد لقاءكم”، وأردد مثل اليمامة: لن أصالح حتى ينهض جسد الوطن المتمزق، مكتمل الظل، حتى يعود إلينا، متحداً في بهائه، أردد خلف كليب: لم يكن في يد الوطن حربة، أو سلاح، فلماذا حملتم عليه السلاح؟ فيخرجني جندي من السؤال هامساً: يا صديقة رفاق الموت: اضحكي لعل الحرب تخجل، فأخجل أنني أسأل وأضحك.
سيريا ديلي نيوز
2016-09-08 15:15:49