د. إبراهيم علوش
من زاوية مصلحة الأمة العربية، تغطي "بوصلتنا" بإيجاز وبدون إنشاء، مجموعة من الأحداث البارزة دورياً بغرض تعزيز وحدة الرؤيا والموقف بين أعضاء لائحة القومي العربي وأصدقائهم من القوميين الجذريين، ومن أجل تحديد نقاط الخلاف والتحاور حولها. ونتشرف لو قدم القراء الكرام اقتراحات حول أية مواضيع لم يتم التطرق إليها وأية ملاحظات أخرى على الشكل أو المضمون. أما موضوعنا في هذه الحلقة فهو تحديد الموقف من الإسلام السياسي على ضوء تطورات ما سمي "الربيع العربي" خلال العام المنصرم، وحول محاولة توظيف اسم الشهيد صدام حسين في تبرير التدخل الأجنبي.
تناقلت وسائل الإعلام في 12/2/2012 تصريحات لزعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، نقلاً عن تسجيل مصور، دعا فيها: أ – للعمل المسلح ضد النظام السوري، ب – لانتقال المسلحين من الدول المجاورة لسوريا للمشاركة بمثل ذلك العمل المسلح.
وقد جاءت تلك التصريحات بعد يومٍ من تقارير صحفية دولية نقلت عن مصادر أمنية أمريكية قولها أن تفجيرات دمشق وحلب كانت من فعل تنظيم القاعدة، ونقلت عن مسؤولين عراقيين أن مسلحين "جهاديين" تسللوا من العراق إلى سوريا وأن تهريب السلاح إلى سوريا عبر العراق يشهد انتعاشاً كبيراً.
وتأتي هذه الأقوال والأفعال المتعلقة بسوريا بعد مشاركة عناصر محسوبة على "القاعدة" في ليبيا مع حلف الناتو هناك. ولا بد أن نشير في نفس السياق لافتتاح مكتب سياسي لطالبان في قطر وما يشاع عن الحوار الجاري بين تلك الحركة والولايات المتحدة، كما نشير لانقلاب خريطة التحالفات في أفغانستان وتوجه منظمة شنغهاي للتعاون (أي الصين وروسيا) لاحتضان كرزاي، ومد إيران، على هذا الأساس، لخيوطها باتجاهه. ونشير لتزايد التوترات داخل باكستان بين الجهاز الأمني الراعي لطالبان وبين القيادة السياسية ممثلة بالرئيس زرداري وحزب الشعب الباكستاني، كما نشير للقمة الإقليمية التي عقدت في باكستان في 18/2/2012 بين زرداري وكرزاي وأحمدي نجاد، وهو ما يمثل نوعاً من الابتعاد عن الولايات المتحدة، خاصة في ضوء تأكيد باكستان على تمديد خط الغاز الإيراني في الوقت الذي تحاول فيه الإمبريالية تشديد الحصار على إيران.
الفكرة هي أن تصريحات الظواهري الأخيرة، ومشاركة أنصار القاعدة وتلامذتها في عدوان الناتو المباشر وغير المباشر على ليبيا وسوريا، ومجمل التطورات الإقليمية، كلها تدل بأن تلك الحركة وامتداداتها تكاد تكمل دورة كاملة حول نفسها لتعود بسخونة للحبيب الأول من مرحلة الحرب الباردة، عندما كانت مجرد امتداد للمشروع الأمريكي في مواجهة الاتحاد السوفييتي السابق، وها هي توظَف اليوم كجزء من الإستراتيجية الأمريكية لمواجهة الصعود الروسي-الصيني واحتوائه بطوقٍ إخواني-سلفي-"جهادي" لم يعد تحالفه الميداني والسياسي مع الناتو يخفى على أي مراقب موضوعي.
ونقول: تكاد تكمل دورة كاملة حول نفسها، ولم تكمل تلك الدورة تماماً بعد، لأن ثمة نقاط مثل اليمن والصومال لا تزال تعيق اكتمالها، لأنها نقاط لا تزال تعمل بتأثير قوانين المرحلة السابقة، مرحلة "صراع الحضارات" و"الحرب على الإرهاب". لكن ذلك ليس إلا الاتجاه الهابط، أما الاتجاه الصاعد الذي يزداد اتضاحه إلى حد حسم الشك باليقين يومياً، فهو ذاك الذي برز في ليبيا، ممثلاً بعبد الحكيم بلحاج مثلاً، وهو الاتجاه الذي يبرز الآن من خلال تصريحات الظواهري حول سوريا وتسرب "الجهاديين"، خاصة من غير السوريين، للمساهمة بحسم معركة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ل"تغيير النظام" في سوريا.
ويبرز ذلك الاتجاه الصاعد أيضاً بتحول طائرات البنتاغون بلا طيار للتجسس على سوريا، بعيداً عن الميادين التقليدية لما سمي يوماً "الحرب على الإرهاب"، كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية في 18/2/2012 عن قناة تلفزيونية أمريكية قالت أن عدداً معتبراً من تلك الطائرات باتت تطير الآن فوق سوريا لرصد الحالة هناك. ويشار أن تلك الطائرات قادرة على القيام بعمليات اغتيال وقصف صاروخي، وقادرة على تعطيل شبكات الاتصالات والمعدات الالكترونية والكهربائية، وعلى تسهيل الاتصال مع العملاء على الأرض، وليس على التصوير فحسب، وبالتالي فإن نشر تلك الطائرات، بكميات معتبرة، في سماء سوريا، يؤشر رسمياً على بدء مرحلة التدخل العسكري الغربي المباشر، بغض النظر عن تطمينات راسموسن لروسيا والصين بأن الناتو لا ينوي التدخل المباشر في سوريا. ونضيف إلى ذلك تقرير موقع السي أن أن في 7/2/2012 بأن البنتاغون يعد خططاً للتدخل العسكري في سوريا لتكون جاهزة في حالة تغير التوجه السياسي.
وقد جاء تدمير جرذان الناتو ومجلس التعاون الخليجي لنصب القائد القومي العربي خالد الذكر جمال عبد الناصر في بنغازي في 11/2/2012 بالجرافات والمطارق ليؤكد من خلال رمزية الحدث أن ما يسمى ب"الربيع العربي" هو (أو قد تحول إلى - كما يرغب القارئ الكريم، لأن النتيجة واحدة) مشروع انقلاب على كل رموز وعناوين مرحلة المد القومي التحرري في الوطن العربي في الخمسينات والستينات. وبهذا المعنى، فإن ذلك "الربيع" يكون قد بدأ رسمياً في العراق عام 2003، ويكون تحالف الإخوان المسلمين، من خلال الحزب الإسلامي العراقي، مع الولايات المتحدة وحلف الناتو قد تم تجديده هناك، بين طارق الهاشمي وبول بريمر، دون أن يعفي ذلك الأحزاب الكردية والإيرانية في العراق من عقد التحالف نفسه وقتها وأكثر، سوى أن الحليف الأبرز اليوم بات الإخوان والسلفيين والجهاديين، إلا من رحم ربي.
ومن هنا لا بد لنا اليوم كقوميين جذريين أن نراجع موقفنا السابق من السلفية الجهادية التي أيدناها علناً عندما كانت تقارع الإمبريالية الأمريكية وحلفاءها (على ذلك الصعيد فحسب، وليس في كل مواقفها أو في برنامجها الثقافي والاجتماعي طبعاً). وكان موقفنا وقتها ينبني على كونها أصبحت في فترة "الحرب على الإرهاب" ممثلة للقطيعة الجذرية مع الإمبريالية وامتداداتها سياسياً وثقافياً، ومع الأمر الواقع العربي، وأنها كانت تمثل بالتالي ردة فعل عمياء، تخلو من الوعي السياسي، ولكن لا تخلو من الحس العفوي السليم، على رثاثة الواقع العربي بكل تجلياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فلقد كانت تتصرف أحياناً كالثور الهائج في متجر للزجاجيات، لكنه كان ثوراً مخيفاً ورادعاً لأعداء الأمة أحياناً، وكانت دوافع هياجه وثورته مشروعة... ولو كان مفتقداً تماماً للعقل السياسي أو حتى التنظيمي.
أما الآن، فقد اختلف الاصطفاف، وبات من الضروري أن نشير أن كثيراً من فصائل الإسلام السياسي، ولا نقول كلها، قد عادت إلى موقع التحالف مع الإمبريالية بعد عشرين عاماً ونيف من انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبحت خلالها موضوعياً إحدى حوامل النقمة الشعبية العربية بصفتها قوة عمل عسكرية/سياسية/أيديولوجية فائضة مسرحة من خدمة الإمبريالية، تماماً كجيشٍ رفض تقبل أوامر حله، فتحول إلى قوة مناهضة لأسياده السابقين، وبالتالي إلى قوة مقاومة موضوعياً، إلى حين... كما اتضح من الصورة الآن.
وكانت الإمبريالية قد حاولت فرض النهج الليبرالي والتغريب بديلاً في بلادنا على مدى ذينك العقدين، ففشلت مع عامة الناس، ونجحت مع النخب السياسية والثقافية إلى حدٍ ما، حتى بات هنالك ليبراليون يزعمون أنهم قوميون أو ماركسيون أو إسلاميون (يمكن أن تكشفهم بسرعة من كثرة حديثهم عن الديموقراطية بدلاً من التناقض الرئيسي مع الإمبريالية والصهيونية ومشروع الوحدة والتحرير والنهضة). لكن كل جهود الإمبريالية لتعميم النهج الليبرالي النافي لأي وعي وانتماء قومي ووطني، وكل جهود منظمات التمويل الأجنبي، وبرامج التدريب والتمويل، على ذلك الصعيد، لم تنجح بإنتاج انقلاب مجتمعي حقيقي بهذا الاتجاه، إلا عند شريحة من الشباب تبقى، ولو بلغ تعدادها عشرات الآلاف، أقلية بلا جذور أو إرث حقيقي في مجتمعنا العربي.
على هذه الأرضية، يجب أن ننظر للحملة التي يديرها المجلس العسكري في مصر ضد منظمات التمويل الأجنبي الغربية (لأن الحملة لا تتطرق للتمويل الخليجي الموجه لبعض الإسلاميين في مصر) باعتبارها صراعاً على غنائم "الربيع العربي" بين زلم الأمريكان الليبراليين من جهة، وحلفاء الأمريكان الإسلاميين من جهة أخرى. وهو صراع لا يعنينا كثيراً كقوميين جذريين لأنه لا ينطلق من طرح التناقضات الأساسية الداخلية والخارجية، ولا ينطلق من المصلحة العليا للأمة العربية في تحقيق مشروع الوحدة والتحرير والنهضة.
وقد أصبح من الواضح أن أساس الصفقة بين من زعموا أنهم إسلاميون، من جهة، والإمبريالية، من جهة أخرى، هو تسليم زاعمي الإسلام للإمبريالية بالسياسة والاقتصاد (التبعية للخارج والمعاهدات الدولية ومع الكيان الصهيوني والسماح للشركات الدولية بأن ترتع في بلادنا كما تشاء، بغض النظر عن الذرائع)، مقابل تسليم الإمبريالية لهم بهندسة المجتمع ثقافياً كما يرغبون، وهو ما لن تسلم به الإمبريالية إلا ضمن قواعد لعبة "ديموقراطية" ملغومة، تتيح لها اختراقها من الداخل على المدى البعيد. ومن هنا فإن انقضاض المجلس العسكري في مصر على التمويل الغربي بالتحديد، والمنظمات التي تدير لعبته، ليس إلا محاولة لقطع دابر تلك الإستراتيجية الثقافية-الاجتماعية التي تفعل فعلها ببطء ولكن بثبات. لكن العنوان الحقيقي لتلك المعركة ليس السيادة، بل الصراع على السلطة بين حلفاء الأمس القريب.
ويمكن أن نضيف للصراع على السلطة بين حلفاء الأمس القريب ما يجري في العراق بين نوري المالكي وطارق الهاشمي، والعنوان المشترك هو دوماً محاربة القومية العربية وأي توجه قومي عروبي. وعلى الرغم من اصطفاف المالكي خارج المعسكر المناوئ لسوريا حالياً بفعل تأثير إيران، فإن ذلك ليس إلا اعتباراً عابراً مؤقتاً يمكن أن ينقلب إلى ضده بسرعة في ظروفٍ سياسية مختلفة. وندرك حاجة سوريا التكتيكية للمالكي في خضم هذه المعركة المصيرية لكل العرب والعالم على أرض الشام، لذلك لن نزيد، سوى أن التجييش الطائفي في العراق بين السنة والشيعة يضر بسوريا ومعركتها ولا يفيدهما، وكل من يسهم بإشعال مثل ذلك التجييش الطائفي في العراق يسهم بشق المجتمع السوري (واللبناني... والخليجي)، ولهذا لا بد من العودة للتذكير بالعروبة قاسماً مشتركاً بين السنة والشيعة والمسلمين والمسيحيين في أرض العرب. فهذه باتت ضرورة موضوعية، لا مجرد شعار جميل، كما راحت تظهر الأحداث في كل مفصل.
حول صدام حسين والربيع العربي:
وخارج سياق الحديث عن الإسلاميين، ولكن في سياق ما يسمى ب"الربيع العربي" الذي أسهم بعض زاعمي الإسلام مع الليبراليين بتشكيله على هيئته الأمريكية كما نراها اليوم، لا بد من الإشارة هنا لجريمة معنوية وسياسية كبرى ترتكب بحق العروبة ورموزها في العراق، فيما تقوم قوات الصحوة بتجيش السنة في العراق من أجل القتال لمصلحة حلف الناتو ومجلس التعاون الخليجي في سوريا، وهي جريمة محاولة تجيير القائد القومي خالد الذكر صدام حسين لمصلحة السياسة السعودية والقطرية في هذه المرحلة. فصدام حسين أكبر من أن يجير طائفياً، أو لمصلحة مجلس التعاون الخليجي وسياساته الصغيرة.
وصدام حسين الذي واجه الأمريكان وحلفاءهم في حرب ضروس بين عامي 1990 و2003، ومن ثم كقائد للمقاومة العراقية، والذي واجه حصاراً لم يعرف له التاريخ مثيلاً ولم يتراجع، والذي رفعته المشنقة بدلاً من أن تهوي به، لم يكن من الممكن له أن يقف مع الأمريكان وحلفائهم في معركة تركيع سوريا، وما كان من الممكن له أن يرضى عمن يستخدمون اسمه زوراً للتبرير التدخل الأجنبي في الوطن العربي. ونذكر أن صداماً اتبع سياسة انفتاح مع سوريا منذ مجيء بشار الأسد للحكم، وأن سوريا أسهمت بفك الحصار عن العراق، وأنها لم تشارك بالعدوان على العراق كغيرها ممن يحب ترداد كلمة "حفر الباطن" من المتحالفين مع من أداروا "حفر الباطن" واشتركوا بمثله ضد سوريا، وأن سوريا تدفع ثمناً الآن لأنها احتضنت المقاومة العراقية (واللبنانية والفلسطينية)، وأن بعض أولئك المقاومين، الإسلاميين منهم بالذات، أظهروا أنهم الأكثر استعداداً لنكران الجميل السوري عليهم.
أما من يزعم أنه يتأسى بصدام حسين، فنذكره بالمدد العراقي لسوريا في حرب 1973، على الرغم من الخلاف الضاري بين جناحي البعث في سوريا والعراق وقتها، لأن القومي العربي الحقيقي يفكر بمصلحة الأمة أولاً، لا بالحسابات الصغيرة، ومصلحة الأمة تكون بدعم من يخوض معركة وجود الأمة ضد الإمبريالية والصهيونية (بشار الأسد الآن)، ولو وجدت أي خلافات أخرى معه، وتكون بكشف الغطاء عمن يتحالف مع الإمبريالية والصهيونية (قوى الإسلام السياسي الآن)، بغض النظر عن الذريعة.
أخيراً، إن مجرد تبني مطلب تنحية رئيس تحت الضغط الخارجي يمثل انتهاكاً للسيادة العربية، وبالتالي فإن كل حديث في هذه اللحظة عن التعددية وتداول السلطة وما شابه يعبر عن ضعفٍ أو تهاونٍ لا لزوم له، إذا صفيت النية، فالتغيير أما أن يأتي من الداخل الشعبي العربي، وإما أن يتبنى نهجاً مناهضاً للإمبريالية والصهيونية، وإما أن يطرح مشروع الوحدة والتحرير والنهضة القومية، وإما أن يكون ثورة مضادة يجب أن نحاربها بكل ما أوتينا من قوة.
سيريا ديلي نيوز
2012-04-28 17:05:38