سيريا ديلي نيوز- د.عصام التكروري
«ليس لدينا مستقبل، ولم يَعُد هناك نفوسٌ آمنة، العالم يتجهُ نحو الظلم، نحو انعدام إنسانية الإنسان».
هذه العبارة / النتيجة أطلقها فاتح المدرس (1922-1999) قبل رحيله بثلاثة أعوام، لكنها ما زالت تعبثُ في ذاكرتي كلما طفتُ على نشرات الأخبار باللغات الثلاث (هنا فقط تصبح المعرفة لعنة)، في طوافي هذا ألتقي حفاري القبور، متعهدي الجنازات، عمال مطابع يلصقون النعوات على جدران شامتة، ألتقي بتجار أسلحة، صناع الأكفان وموظفي الإغاثة، ألتقي بجامعي الذخيرة النافقة لإعادة إحيائها، وسارقي الأعضاء والمتبرعين بالمال بغية غسل تاريخهم النتن، وألتقي بموظفي الأمم المتحدة، أولئك الأنيقون كخط الثُلث بياقاتهم البيضاء ورواتبهم المنتفخة، ألتقيهم جالسين في مكاتب يفوح منها الدفء ورائحة الخشب الفاخر، منهمكين بإعداد تقاريرهم حول أعداد الضحايا الذين سقطوا، وتوقعاتهم للأعداد المُرشحة للسقوط، جثثٌ بكامل تفسّخها يشيعونها إما ببرمِ الشفة السفلى إذا كانوا فرنسيين، إما برفع الأكتاف إذا كانوا أميركيين أو إنكليزاً، وبالحوقلة منطوقة بالفرنسية أو الإنكليزية إذا كانوا موظفين عرباً أو مسلمين وذلك دفعاً لشُبهة الإرهاب، ردود أفعال هؤلاء الموظفين قد تكون صادقة وتحديداً إذا تعلق الأمر بالأوضاع الإنسانية التي يعيشها الأطفال في مناطق نزاع غالباً ما تكون الدول التي ينتمون إليها هي من أشعلها، أوضاعٌ تسهب تقارير المنظمات الأممية بوصفها من باب رفع التهمة وليس رفع الظلم، ولعل التقرير الأخير الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في الثامن من الشهر الجاري يأتي في هذا السياق، فالتقرير أشار إلى أن عام 2014 كان عاماً سيئاً للطفولة فهناك 230 مليون طفل يعيشون في دول ومناطق متأثرة بالصراعات المسلحة على مستوى العالم حوصر نحو 15 مليوناً منهم في حروب تدور في العراق وجنوب السودان وسورية وفلسطين وأوكرانيا وجمهورية إفريقيا الوسطى. منظمة اليونيسف قالت: إن أكثر من سبعة ملايين وثلاثمئة ألف طفل تأثروا نتيجة الحرب الدائرة في سورية بينهم 1.7 مليون طفل فروا من البلاد، وبحسب المفوضية العليا للاجئين فقد توفي العام الماضي أحد عشر طفلاً سورية من البرد، أما هذا العام فقد توفي سبعة أطفال حتى تاريخه، وهذه الأعداد مُرشحة للزيادة مع إعلان المفوضية خفضها للمعونات المُقدمة للسوريين «بسبب نقص التمويل».
هي إذا «قصةٌ موتٍ مُعلن» لكنها هذه المرة ليست بتوقيع غبراييل غارسيا ماركيز، إنها بتوقيع «أصدقاء الشعب السوري» الذين لم يَعد لديهم ما يعطونه إلا أسلحة القتل، وبتوقيع بواخر «لطف الله» التي جفّت ضروعها، وبات القائمون عليها يفرضون «حظر تجوال» على كل من لاذ «بكانتوناتهم» من السوريين. أسباب الموت متعددة بلا شكَّ، لكن- وخلافاً لما يردده أدعياء الحكمة- فالموت ليس واحداً، فثمة موت نبيل يتوِّج المقاومين، وآخر مُنحط يُجلل تجار الحروب، وموت خسيس من عيار العار الذي يجلل البشرية لحظة يموت طفل سوري من البرد، عند جثث الأطفال يصبح الحديث عن الماضي المُشرق للبشرية ضرباً من العُهر، ونجدنا- مرة أخرى- نردد مع فاتح المُدرس عبارته/ الاحتجاج: «إن ماضي البشرية حتى هذه اللحظة لا يُشرّف أي حيوان، حتى الجرذ لا يشرّفه ماضي الإنسان»، عبارة فاتح هي (نعي بلا أسف) لأرواحٍ أعلن «غوغول» موتها منذ قرن ونيف، ويبدو أنها دُفِنت في أجساد تسير بيننا، ما أتعس الجسد عندما يكون تابوتاً لروح ميتة، هذه «الأرواح الميتة» هي وراء موت الأطفال السوريين من البرد سواء في بلاد اللجوء أم أرض المُقام، دمُ هؤلاء ليس فقط في رقبة الإرهابيين وداعميهم، بل أيضاً في رقبة أصحاب المنازل التي باتت أجاراتها هي النار الوحيدة المُتأججة من دون وقود اللهم إلا جثث الميتين برداً.
في غياب معطف غوغول، وفي غياب السوريين القادرين على اختصار وجبة العشاء والامتناع عن إشعال شمعة لمساعدة الأطفال المُرشحين للموت برداً (وصفة التقشُف التي طبّقها «اكاكي» لشراء معطف جديد)، وفي غياب قانون رادع وعادل يساوي بين كل «الكائنات» بالحصول على سقف ونار، في غياب كل هذا لا نملك إلا أن نسأل عن إذا ما بقي هناك من يتقي ناراً وقودها الناس والحجارة أُعدَّت لمن هم بأكل أكتاف الوطن عارفين.
سيريا ديلي نيوز
2014-12-16 09:57:01