وكأني أحسست بقلمي يشفط حبره لئلا أكمل مقالتي المدبّجة بالافتتاحيات والاختتاميات وبدائع الأفكار عن محاربة ظلمات الليل والنهار خلال انقطاع التيار، وبنور العلم.. وضياء المعرفة.. والصبر المنفتح المستنير!!
فنفضته نفضتين محترمتين عدلتا دماغه ليعاود السعال بما أملي عليه.. ولما كان من شأنه التلكؤ والتنحنح، لمعت في ذهني بارقة فكرة أن أبحث عن قلم مطواع سليم من أي مس قد أصاب رأسه وأعاق تفكيره، بحثت بدءً من نافذتي المطلة على "المنور العطن" مروراً في أقدم زوايا مكتبي سخيف المساحة.. وفجأة قطع التيار (هنا لا يوجد إشارة تعجب).
استدرت في مكاني لأطرق ركبتي المسكينة بزاوية (لا أعرف ماذا)، فلعنت لعنتين "كالعادة" وسببت سبابتين "كالعادة" واتكأت على زاوية (لا أعرف ماذا) وهممت بالبحث عن شمعة في ركن عميق..
عثرت على الشمعة الوفية، وبدأت رحلة البحث عن كبريت.. وإذا برجل تضيء سيجارته قرب الباب، صحت له مستنجداً:
- أ عندك ضوء يعينني في بحثي عن الكبريت ؟!
- طبعاً، أنا أنير لك
وأنار أركان بحثي عدة دقائق لأفطن بلحظة أنه يضيء لي بضوء (قداحة)!، ضحكت من نفسي:
- ما أغباني، أ و تضيء لي بقداحة وأنا أبحث عن كبريت؟!.
أجاب بجدية واضحة على تقاسيمه (كما تخيلتها في الظلام): ولكن ليس فيها سوى "قدحتين" لن أغامر بالتضحية بأحدهما..
وهنا لما علمت من أمره الجدّ، أقنعته بالجدوى الاقتصادية من إشعال الشمعة والمكوث عندي قليلاً وإشعال عدة سجائر من الشمعة دون خسارة سوى القدحة الأولى.. وذاك ما كان..
مكث وبدأ بالكحة والأحة استعداداً ليفتتح الكلام وكأنه سيلقي خطاباً:
- قرفنا والله من العتمة، والله أظلمت قلوبنا..
فأجبته وأنا أحاول العودة إلى قلمي -المتآمر مع الأوساخ ضدي- لأتابع الكتابة: بلى.. بلى
- هل تعلم أن الانقطاع المطول والعشوائي للتيار هو جريرة الضغط على شبكة الكهرباء جراء الاستجرار غير المنتظم؟!
- بلى.. بلى
- لو كنت مسؤولاً لسجنت فلان.. وحاسبت فلان..
- بلى.. بلى..
- وعلقت المشانق فوق البيارق..
- بلى.. بلى
- كلهم سارقون.. كلهم لصوص.. كلهم..
وهنا رفعت رأسي: صلّ على النبي يا رجل.. لمَ هذا الانفعال؟
فازداد انفعالاً: الحياة موقف يا أخ، ويجب أن.. وأن.. وأن..
واستدار ليغادر دون أن يسمع مني كلمة رد، وفجأة عاد.. واستطعت أن أتبين شاربه المعقوف وأسنانه المسودّة على ضوء الشمعة وهو يصعقني ويقول: والشمعة يا أخ أنا من أشعلها، وأنا الأحق بإطفائها.. هففففف
وهنا لمعت شرارة في رأسي -دون كهرباء- أطارت ما كنت أكتب، وأخذت معها جزءً من أصول اللياقة والمعاملات بين البشر وبين البهائم، وهممت للحاق به في الظلام فطرقت ركبتي المسكينة مجدداً !!
تلمست طريقي للخروج إلى نور الرب، ومغادرة الظلام المشؤوم، فتمشيت لساعات ليست بطويلة في الشارع وأنا أهدئ كياني وأفكر بشرعية غضبه من عدمها، من أناس ما عادوا يهتمون غير لمصالحهم على حساب الآخرين..
وعند المساء سهرت عند أحد الأصدقاء سهرة لطيفة "مظلمة"، قررنا بعدها الاسترخاء والاستمتاع بالسكون الأسود "المحبب". وفجأة شرذمت سكينتنا موسيقا مرتفعة ضاربة وكأنما الدبكات معقودة في بيت الجيران!! استفسرت من صديقي الصابر فأخبرني أنه منزل رجل وأمه على طرف الشارع المقابل، وهم صنف من الناس صداقتهم جريمة يرتكبها المرء بحق نفسه!!
وهنا تنحنحت نحنحة صاحب الشارب، وانفعلت انفعاله من سارقي الكهرباء.. وبدأت أمطار الغضب تتساقط في رأسي (نحن في الظلام.. ونظاميون!!... وهم في النور.. وسرقة؟؟..... المعادلة ليست مضبوطة)
فقفزت إلى الخارج أتبع الخط الواصل من عمود التوتر وحتى مدخل منزلهم.. وقد استعددت نفسياً لتفجير سيل التعنيف المحتقن وراء أسوار حلقي، قرعت الجرس.. ففتح لي شارب معقوف وأسنان مسودّة -لم أنسها بعد-.. وسيجارة.
وهنا لمعت شرارة أخرى كانت أقوى من التيار النظامي حين يحرق أجهزة التلفزة، كانت كفيلة بأن تفجر مكثف اللياقة الأخير الذي بقي لدي.. فسلمت بكلتا يديّ على شاربه.. ودفعته إلى المنزل.. ودخلت.. كي "أدبك" معه.

سيريا ديلي نيوز - مجد عبيسي


التعليقات