للحديث عن هذا الموضوع لابد من العودة إلى تاريخ بناء المؤسسات العامة و مشروعيتها و الهدف منها , فبعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي لقيادة الدولة و المجتمع و بعد قيام الحركة التصحيحية المباركة التي قادها القائد الخالد حافظ الأسد , بدأ تنفيذ مشروع الحزب لبناء الدولة و المجتمع و كون هذا الحزب يمثل مصالح الطبقة الفقيرة و أصحاب الدخل المحدود و ضمن التوجه الاشتراكي لهذا الحزب فقد وضعت القيادة نصب عينيها تأمين مصالح القاعدة الشعبية العريضة للشعب السوري و التي دعمت وصول الحزب للسلطة فكان لا بد لهذا الحزب من النهوض المعاشي و الصحي و التعليمي لأبناء الطبقات الفقيرة فكان الخيار هو المؤسسات العامة التي يعمل بها أبناء هذه الشريحة فنهضت المؤسسات العامة بتنوع اختصاصاتها الصحية و الغذائية و التعليمية و الشركات العامة للبناء و توليد الكهرباء و مؤسسات النقل و غيرها الكثير الذي لا يمكننا حصره في هذه العجالة و قامت هذه المؤسسات العامة بدورها المرسوم لها فقامت شركات البناء و التشييد و الطرق و الجسور و السدود و استصلاح الأراضي بالتأسيس للبنية التحتية و غدت سورية كلها ورشة عمل كبيرة أنجزت خلال سنوات بناء سورية الحديثة التي نعرفها فتم وصل محافظات القطر بالطرق المعبدة و السكك الحديدية مما سهل نقل السلع و المواد الإستراتيجية من أماكن الإنتاج إلى أماكن الاستهلاك بسهولة و يسر كما سرت الكهرباء سريان الدم في عروق الجسد السوري حتى وصلت إلى آخر قرية أو مزرعة في الأرض السورية , كما نهضت الجامعات و انتشرت في العديد من المحافظات لتأمين احتياجات القطر من الكوادر العلمية للمساهمة في هذه النهضة و رفدت مؤسساتنا الخدمية و الصحية بالكوادر اللازمة و تحقيق فوائض ساهمت بنهضة الدول العربية الأخرى , و أمنت التعليم المجاني في كل مراحله لأبناء الكادحين من العمال و الفلاحين , كما ساهمت المؤسسات العامة الغذائية بتأمين حاجة المستهلك و بدعم حكومي كبير للسلع الأساسية كالخبز و السكر و الأرز و المشتقات النفطية و بأسعار يستطيع أبناء هذه الشريحة تحملها و تؤمن لهم العيش الكريم في الوقت الذي قامت به المؤسسة العامة لاستصلاح الأراضي و المؤسسة العامة لسد الفرات و غيرها من المؤسسات في تأهيل القطاع الزراعي الهام جدا بما يؤمن احتياجات القطر من الحبوب و الكهرباء و تحسين حياة العامل و الفلاح
السنوات العشرة الأولى بعد الحركة التصحيحية كانت كفيلة بوضع سورية في مصاف الدول المكتفية ذاتيا و الاستغناء عن الاستيراد للسلع الرئيسية , في حين قام القطاع العام الصحي بتأمين الرعاية الصحية الجيدة و المجانية لأبناء الشعب السوري
مكاسب لا ينكرها إلا جاحد هو ما فعله حزب البعث العربي الاشتراكي منذ وصوله إلى السلطة في مجال تحسين حياة المواطن و تأمين العيش الكريم له و لأفراد أسرته , ترافق ذلك مع بناء الجيش العربي السوري و إعداده الجيد ماديا و عقائديا بما يؤمن مصالح الشعب السوري و حماية منجزاته
ما سبق مقدمة طويلة نسبيا رغم جهدي بالاختصار كمدخل للموضوع الذي أريد الحديث عنه وهو موضوع دمج المؤسسات الحكومية أو تصفيتها و هو ما تم البدء بتنفيذه في عهد الحكومات السابقة و بعد رحيل القائد الخالد حافظ الأسد و أخص الفترة التي تولى فيها النائب الاقتصادي عبدالله الدردري هذا الملف و بدأ خلالها بالتسويق لنظام اقتصاد السوق ( الاجتماعي ) و تشجيع القطاع الخاص
و رغم أهمية القطاع الخاص و الذي لم تهمله الحركة التصحيحية و كانت سورية تضم ثلاثة قطاعات اقتصادية رئيسية هي العام و الخاص و المشترك و لكن اهتمام النائب الاقتصادي ركز على تشجيع القطاع الخاص على حساب القطاع العام و بدأت أفكار بيع مؤسسات القطاع العام إلى القطاع الخاص أو تصفيتها بما يتيح للقطاع الخاص ممارسة أنشطتها , و كان الادعاء بأن مؤسسات القطاع العام خاسرة و هي عملياً مخسرة من خلال عدم تجديد آلاتها التي تهالكت بفعل الزمن فأراد أن يطلق عليها رصاصة الرحمة بدلا من دعمها و تجديد آلاتها, و يجب أن لا يغيب عن بالنا بأن هذه المؤسسات تعيل ملايين الأسر السورية حيث من المعروف بأن حجم القوى العاملة في سورية تتركز في القطاع العام بشكل رئيسي
المهم بأن النائب الاقتصادي و في غفلة من التاريخ استطاع تمرير مشروعه و أعني اقتصاد السوق و الذي أضيف إليه" الاجتماعي" لتسهيل تمريره في المؤسسات البعثية ذات التوجه الاشتراكي وبالفعل تمكن من الحصول على موافقة القيادة القطرية دون رأي القواعد و هي الشريحة الأكبر المتضررة من هكذا قرار و بدأت الرحلة المأساة في تحطيم القطاع العام الذي أؤمن به و أتبناه كما كل أبناء جيلي حتى النخاع و لكن ما باليد حيلة كما يقول المثل .
شركة الكرنك تبعتها الشركة العامة للكبريت والخشب المضغوط و أقلام الرصاص لتنال نفس المصير
ثم لماذا هذه السرعة في عملية الإعدام، أليس للإعدام بروتوكولاته أيضاً؟ أليس من حق القطاع العام أن ينال محاكمة عادلة بحضور هيئة الدفاع على الأقل، وهم آلاف مؤلفة من ذوي الدخل المحدود؟
أم أن إجراء محاكمة كهذه لن يكون في صالح قوى النهب والسلب التي عملت على مدار سنوات على تخسيره تمهيداً لخصخصته
كل ذلك جرى تحت عنوان ما سمته الحكومة برنامج الإصلاح الاقتصادي آنذاك ، مدعية فيه إعداد خطط وبرامج لانتشال القطاع العام من وحل التخسير والمديونية والإفلاس، إلا أن الآمال سقطت جميعاً مع إعلان رئيس الوزراء عن نية الحكومة في عدم التوسع أفقيا ً في شركات القطاع العام لتسارع فيما بعد بعض الشركات العامة في طرح شركاتها للاستثمار منها: شركة حديد حماه، شركة الأحذية (ولديها ثلاثة معامل في السويداء، النبك، مصياف)، معمل الدباغة في دمشق،معمل الكبريت وأقلام الرصاص في دمشق، المؤسسة العامة للصناعات الهندسية ولديها أربع شركات مطروحة للاستثمار، الشركة السورية للبطاريات والغازات السائلة في حلب، شركة الكونسروة في درعا.
كذلك قامت الحكومة بإغلاق وإيقاف بعض المعامل والشركات نهائياً كمعمل سكر الغاب. مما أثار أسئلة مشروعة حول توجهات الحكومة الاقتصادية في مشروع إصلاحها هذا، فإصلاح القطاع العام لن يعني بأية حال من الأحوال هروب الحكومة من المسؤوليات الملقاة على عاتقها وتجييرها إلى مستثمرين عرب أو أجانب , هم بالتأكيد لا يملكون وصفات سحرية للنهوض بشركاتنا وإنما سيتبعون طرقا إدارية متوافرة لدى المئات من باحثينا الاقتصاديين، كذلك متوافرة في دروج مكاتب الوزارات والهيئات، لكن دون أن ينظر إليها أحد، أو يتابعها أحد.
لن يقنعني أحد بأن القطاع العام الذي عشنا في ظلاله الوارفة عشرات الأعوام هو قطاع فاشل و خاسر و بأن اقتصاد السوق الاجتماعي هو الوصفة السحرية لمعالجة مشاكلنا
و لن يقنعني أحد بأن اقتصاد السوق حتى لو سمي اجتماعيا سيكون رحيما بالفقراء و أصحاب الدخل المحدود و قد رأينا تجارب سابقة لنا في هذا التحول المخيف الذي حدث في مصر و ما سمي حينها شركات الانفتاح
و لن يقنعني أحد بأن دمج المؤسسات سيحسن من أداءها و مركزها المالي و ما يحسن مركزها المالي فقط هو دعم هذه المؤسسات و الشركات لتجديد إنتاجها و منتجاتها بما يتوافق مع حاجة المستهلكين و تكليف إدارات كفوءة لهذه المؤسسات تتم محاسبتها على النتائج محاسبة عسيرة فالقطاع العام يجب أن يبقى منافسا قويا للقطاع الخاص و يتحكم بآلية العرض و الطلب في السوق و هو ما أثبتته مؤسسات التدخل الايجابي في ظروف العدوان التي نعيشها و عدم ترك القطاع الخاص سيد الموقف يحتكر السلع و الخدمات و يبيعها بأرباح خيالية
كفانا تجارب على مؤسساتنا العامة من الاستعانة بحملة الدكتوراه و الإدارة بالأهداف و ليس آخراً موضة دمج المؤسسات أو تصفيتها
و ليس من الحكمة عند ترميم البيت القديم إحراقه , بل القيام بأعمال الإكساء ليعود البيت جميلا .

سيريا ديلي نيوز - يونس الناصر


التعليقات