بالحياة يقاوم السوريون توسيع الحرب. في أسواق المدينة القديمة، يحمّصون القضامة على سكر والقضامة المملحة والقضامة الصفراء، واللوز، ويغلفون سكاكر العيد بالورق الملون، ويبدعون في ترتيب كيس الزهورات.
في مواجهة الحرب
بكت نسرين، الصبية الجميلة السمراء، صاحبة مخبر الأسنان، التي تسكن في القصاع: لا أستطيع أن أحضر الحفلة الموسيقية! تتساقط الهاونات على مدخل بيتها وعلى الطريق. من غير المدنيين تقصد الهاونات؟! تقصد مدارس الأطفال، المشاة، باعة الخضار والمشترين والجالسين في شرفات بيوتهم. نجت أم نسرين من هاون. رأت أطفالا ذاهبين إلى المدرسة، فسألتهم: ألا تخافون؟ ردوا ببساطة: يجب أن نذهب إلى المدرسة!
تناثرت الهاونات مرات أمام مدرسة دار السلام وفي مدرسة النور، في القصاع والشعلان وأبي رمانة والمهاجرين. مع ذلك غلبها السوريون بشعورهم التقليدي بمتعة الحياة. بالرغم من الحرب ومن التلاعب بالليرة السورية واللعب بالأسعار بين الصباح والمساء، وهدية العيد الحكومية: رفع سعر البنزين والمازوت، نقاوم بالحياة. نتعالى على الموت الممكن لأنه "تدخل خارجي"!
في يوم الأربعاء 1 تشرين الأول، قصد انتحاري من العصابات المسلحة "المعتدلة" قتل تلاميذ مدرسة المخزومي الصغار في حي عكرمة. فجر عبوة ناسفة ثم فجر نفسه وقت انصرافهم. تناثرت الحقائب المدرسية وصبغ الدم الدفاتر. قتل الإرهابي تسعة وأربعين تلميذا في مدرسة ابتدائية. بعضهم أبناء شهداء. كم مجزرة أدمت عكرمة؟ بيننا وبين الإرهاب صراع على الحياة!
في يوم الخميس 2 تشرين الأول غنت جوقة الأطفال التي يقودها حسام بريمو. مشينا إلى بيت جبري في المدينة القديمة لنستمع إليها. يدير البيت حفيد الشاعر شفيق جبري. بيت من القرن الثامن عشر، أنقذه رائد جبري من الإهمال ومن ابتزاز فنيي محافظة دمشق. أغلقت هيئة دمشق القديمة البيت مرات بالشمع الأحمر خلال الترميم، ودافعنا عنه. فزاره محافظ دمشق التغلبي، رأى أنه ثروة وطنية وقال لرائد استمر! ولعل هذا من ذنوب المحافظ الغيور على المدينة، لذلك لم يطل مقامه! كان البيت في قلب الصراع على حماية الهوية المعمارية، لكننا كنا نعود إلى بيوتنا آمنين. لاحرب ولاهاونات.
وصلنا إلى بيت جبري سالمين. مع أننا ردّدنا في سرنا التعليمات للحماية من أذى الهاون: الانبطاح على الأرض والأيدي فوق الرأس.. إذا كان لديك الوقت لرصده! جلسنا في جنّة البيت العربي حول البحرة. مقابلنا رسوم نزّلت بالرمل الملون في الحجر عاشت حتى اليوم سليمة. حولنا شجر النارنج، وفي الطابق العلوي دالية. أمام تلك الزخارف الرشيقة وقف أطفال فرقة حسام بريمو. درس حسام في المعهد العالي للموسيقى، تعلم من الخبراء الروس، وشارك في حفلات فيكتور محب السوريين العزيز. قاوم حسام الحرب بالفن. وأشعرنا بأننا شركاءه في ذلك المساء.
هل قصد اختيار أغنية فيروز "القمر بيضوي علناس والناس بيتقاتلوا"؟ أضاف أغنيات أخرى. أنشد الأطفال لبلاد الشام ذات الياسمين. هيجوا وجعنا وعتبنا. لعلنا تنهدنا: لاتستحق سورية المتحضرة المتسامحة أن يلوثها الوحوش! لاتستحق أن يمر في فضائها، حتى بطائرة مدنية، من يصدّر المتوحشين! سورية ملجأ العرب، حضنهم، سند فلسطين، ابنة حضارات ازدهرت قبل أن تخرج اوروبة من عصر الجليد! سورية المزيّنة بتنوع لامثيل له، عصيّ تقديره على المتخلفين المتعصبين، يحقد عليه الوهابيون والصهيونيون.
في ورقة برنامج الحفلة نعت الفرقة أحد أطفالها. صاده الإرهاب. لكن هؤلاء الأطفال جميعا أتوا من القصاع تحت الهاونات. رأوا صور مذبحة تلاميذ حي عكرمة أمس. وعوا دون كلام أنهم هدف الإرهابيين. فطوال سنوات الحرب دمرت مئات المدارس، مذكرة بقصف الإسرائيليين مدارس فلسطين. ألذلك لم يتحمل أحد الأطفال هذا الضغط على الروح فأغمي عليه؟
خلال الحفلة سقط هاون في النوفرة، على بعد خطوات من بيت جبري. قصد قتل الأطفال، أم قصد الجامع الأموي التاريخي مرة أخرى؟ مع ذلك غنى الأطفال في حضن المدينة القديمة، في بيت شاعر الشام الذي قاوم بشعره الاحتلال وأنشدنا في طفولتنا قصيدته عن الجلاء:
حلم على جنبات الشام أم عيد لا الهم هم ولا التسهيد تسهيد
مع الموسيقى استسلمنا لسحر البيت العربي، ونحن نشعر في سرائرنا بخطر مرحلة جديدة من الحرب. نثق بأننا سنواجهها ونغلبها! نتوجس ونسخر من المتحالفين الذين يسجلون نزهة في الفضاء السوري، ومن أحلام تركيا باستعادة السلطنة العثمانية، وأحلام الصهيونية الأمريكية بمخافر بين غيتو مسيحي وغيتو سني وآخر شيعي ودرزي وآرامي وكردي وشركسي..
بالحياة يقاوم السوريون توسيع الحرب. في أسواق المدينة القديمة، يحمّصون القضامة على سكر والقضامة المملحة والقضامة الصفراء، واللوز، ويغلفون سكاكر العيد بالورق الملون، ويبدعون في ترتيب كيس الزهورات. تفوح بهارات سوق البزورية، ويزدحم السوق بالناس. يلاحظ أثر الحرب في البضائع والمشتريات. لكن مخزن بائع العطور الذي يركّب عبق الفل والياسمين ممتلئ، والحارات مأهولة بالناس. في هذه اللحظة لاتسقط الهاونات، ولنا أن نسترخي على بداية الليل. لكن جميع من مشى في هذه الطرقات قبل ساعات كان أهدافا للعصابات الإرهابية "المعتدلة".
الصهيونية التركية
أمس مهدت قناة الحرة التي تديرها المخابرات المركزية الأمريكية للتدخل التركي: "هل تستعيد تركيا سورية"؟ حذفت السيادة الوطنية من القوانين الدولية؟! تستعيد سورية؟! منذ متى كانت سورية ملكا لتركيا؟ في فضاء دمشق وبيروت لاتزال كلمات شهداء أيار على منصة الإعدام. ولايزال بين المؤلفات المصادرة كتاب المحمصاني عن الصهيونية. في مكتباتنا دراسات عن اتفاق الدونمة مع الصهيونيين على تسريبهم إلى فلسطين. وفي محاضر جلسات المبعوثين شهادة على تلك الخيانة. في سنة 1911 قدم الوطنيون السوريون والأتراك في مجلس المبعوثين الوثائق والمعلومات التي تتهم الدونمة بإسقاط الدولة والعمل في مشروع المنظمة الصهيونية، وبيع الوزارات للبنوك الصهيونية الغربية. عرض شكري العسلي، السوري، للمجلس صورتي طوابع البريد الصهيونية في فلسطين، صورة هرتزل وصورة نوردو. وذكر أن قلعة الفولة بيعت مع أنها أملاك عامة. وقال اسماعيل حقي، التركي: غرض جاويد أن يُسكن عددا كبيرا من اليهود في فلسطين ليؤسسوا حكومة إسرائيلية. في تلك الجلسات نبه الوطنيون الأتراك والعرب إلى سفك المصالح الوطنية في المشروع الصهيوني. كشف اسماعيل حقي علاقة "جماعة الصهيونيين" بالقروض وزيادة مديونية الدولة. وجهر بأن جاويد عضو في إدارة المصرف الوطني الذي أسسه إرنست كاسل بأموال الصهيونيين. "يدفعوننا إلى السقوط في أيدي الماليين الصهيونيين، بنك كريدي فونسيه، وكريدي موبيلييه، وبانك دو دريفوس، بنوك الجمعية الصهيونية". وتحدث رفيق العظم عن إسقاط الدولة بالديون. فدافع مبعوث إزمير الصهيوني، ومبعوث
كأنما كرر ممثل حزب الشعب التركي في البارلمان التركي أمس ما قاله اسماعيل حقي في مجلس المبعوثين: سفك المصالح القومية، ومساعدة منظمات إرهابية، والعدوان على سورية! هاهي الدونمة مرة أخرى في قمة الدولة التركية! تنفذ خريطة الشرق الأوسط الجديد التي اقترحها الصهيوني برنار لويس واعتمدتها الإدارة الأمريكية: تحاصر عين العرب لذبح الأكراد السوريين، وتحلم بمنطقة "عازلة" للعصابات التكفيرية، خطوة في التقسيم إلى كيانات إثنية ومذهبية، لتصبح إسرائيل دولة عظمى مهيمنة، ويصبح الغاز والنفط للشركات الغربية.
في ثلاث سنوات من الحرب اجتزنا المسرحيات الغربية واحدة فواحدة. تغيرت ملابس "الثوار" ولوحات مكاتب المعارضة. ثم استخرجت داعش كجيش عالمي وحشي يستخدم الأسلوب النازي في الهجوم الصاعق، وينشر الرعب، وينفذ التطهير العرقي والمذهبي، ويعيد عصور بيع الجواري واقتسام السبايا. تكمل صورة الطفلة الجميلة الباكية التي لاتتجاوز السابعة من العمر والداعشي الفرح بزواجه منها، صورة ماكين مع البغدادي، قبل الاتفاق معه على تطويل لحيته ليكون خليفة! وصورة رتل السيارات الأمريكية الجديدة التي دخلت مع أعلامها السوداء بحماية تركية!
مرحلة جديدة
أعلن فيدان، رئيس المخابرات التركية، أنه لايحتاج مبررات للهجوم على سورية، فهو قادر على ضرب أربعة صواريخ والادعاء بأن سورية مسؤولة عنها. فلمن تعرض مسرحية التحالف الأمريكي في الحرب على "الدولة الإسلامية"؟ أمّ داعش وأبوها الفكر الوهابي، والتمويل الخليجي، والتدريب الغربي، والشراكة التركية. هل تستر المسرحية خريطة التفكيك الإسرائيلية الأمريكية؟ هل تلبي حاجة المجمع الصناعي العسكري الأمريكي إلى الحرب المستمرة؟ ألأن "مسار الأحداث" خطر على السعودية؟ ألأن الوحش الذي علف وسمّن قطع الرسن؟ ألأن نهضة روسيا تفقد الولايات المتحدة مكان القطب الوحيد ولابد من حلف مقدس يسطو على محيطها؟
كلما أنهينا مرحلة من العدوان على سورية ابتكر الغرب مرحلة تتفوق عليها. قال الرئيس الأسد تكفي أسابيع للخلاص من الإرهابيين إذا أغلقت دونهم الحدود، وجففت مصادر تمويلهم. فافتتح الغرب تدخلا عالميا يعدنا بخطف سنوات أخرى من حياتنا. ونشر خيمة خضراء لتدخل جوي سعودي وخليجي وأحلام برية تركية، ومعالف لمجموعات إرهابية وهابية جديدة.
في صورةٍ شابة أماراتية تتفقد طائرتها الحربية قبل أن "تغير" على أرض سورية! شارك طيارون سعوديون وقطريون في "غارات" التحالف الأمريكي. دعاية لمن انتقل من البداوة إلى مجتمع استهلاكي دون عبور مرحلة الحضارة؟ أم استفزاز للكرامة السورية؟ أم مقدمة لتحقيق الحلم السعودي والتركي بتفكيك الدولة السورية؟ تذكر سوزان لينداور، ضابط الاتصال بين المخابرات المركزية الأمريكية والعراق، أن الإدارة الأمريكية قصدت في المباحثات قبل الغزو، إهانة الكرامة العراقية! لكن شراكة الخليجيين في "الحرب على الإرهاب" تتحدى العقلاء أينما كانوا. فالبلاد التي مولت الإرهابيين وسلحتهم، أبعد عن الديمقراطية من أبعد كوكب عن الأرض. في قلب حكامها يغلي الحقد الوهابي على العراقة السورية. ووجعهم لأن الرئيس الأسد ذكر في خطاب القسم أن السعودية تنازلت عن فلسطين للصهيونية. ولم يجرؤ مسؤول قبله على ذكر تلك الوثيقة. لم يكن ينقص هذا الكرنفال غير جماعة أردوغان الدونمة التي نهبت معاملنا وقمحنا وآثارنا وسوقت لداعش نفطنا المسروق!
على الأرض، يقاوم الأكراد السوريون في كوباني عين العرب، وحشية داعش وحصار تركيا. ويحارب الجيش السوري ورديفه الشعبي الإرهابيين. يستنجد الناس بالجيش السوري، ويتذكرون كلمة يحيى شغري في وجه قتلته: والله لنمحيها! يقدرون شجاعة المقاومين ونبلهم وتضحياتهم. ويزيد في الحنان عليهم تجاهل "التحالف" أنهم القوة الأساس في الحرب على الإرهاب.
خلال ذلك يتدرب أطفال فرقة حسام بريمو على الغناء. ويفتح بيت جبري بوابته للاستمتاع بعمارة ربت ذوق رجال الاستقلال. نسمع في نافورته بدوي الجبل:
بنت مروان اصطفاها ربها ما يشاء الله إلا ما تشاء
هي في غسان عطر ورؤى ربما أغفى عليه الأنبياء
SNS - syriadailynews
2014-10-12 20:39:11