في الثالث عشر من شباط عام 1960 استفاقَ أهالي منطقة "رقان" في الصحراء الجزائرية على أصوات مدوية تبعها غبار كثيف و وميض ضوئي رآه  بوضوح سُكّان منطقة "كرزاز" التي تبعد مسافة 650 كم من منطقتهم ، ظنَّ الجميع أنَّ زلزالاً ضرب الجزائر برمَّتها، لكنهم اكتشفوا بعد أيام أنَّ الأمرَ أبسط من ذلك بكثير، إنَّه مجرد جربوع ـ أو لنكن أكثرَ دقة ـ إنَّه  "الجربوع الأزرق" : الاسم الذي أطلقته سلطات الاستعمار الفرنسي على أول تجربة تفجير نووي بلغت طاقته التفجيرية 60 كيلو طن ، أي ما يعادل 70 مرة قنبلة هيروشيما اليابانية.  تجربة " الجربوع الأزرق" كانت الأولى من بين 17 تجربة نووية أجرتها فرنسا في الصحراء الجزائرية الكبرى ، تجربة لم يختبر فيها الفرنسيون حجم القوة التدميرية " لجربوعهم الأزرق " فقط ، بل اختبروا أيضاً تأثيره الإشعاعي على 150 أسير جزائري من مقاتلي جبهة التحرير الوطني تم اقتيادهم إلى موقع التفجير.

 

ربما كانت تلك هي المرة الأولى التي يرأفُ فيها الغرب المُتحضر بفئران المخابر و يستعيض عنها بالعرب، لكنها لم تكن الأخيرة ففي حرب الخليج الأولى مثلاً ( 1991) حوّلت واشنطن و لندن العراق إلى حقل تجارب في الهواء الطلق حينما ألقتا (700) طن من مادة اليورانيوم المُنضَّب، و راحتا تختبران تأثيراته على الإنسان و البيئة و الحيوان، و ما لم تُتخذ الإجراءات الخاصة بدفن هذه المواد المشعَّة فإنها ستستمر في توليد الخراب حتى تتلاشى من تلقاء ذاتها، الأمر يبدو كارثياً حينما نعلم أنَّ اليورانيوم المُنضَّب يحتاج إلى 40 مليار عام حتى يفقد قدرته على الإشعاع.

 

حتى تاريخ اندلاع " الربيع العربي " كان الخراب الناجم عن  الحروب المباشرة للغرب يطالُ بمعظمه وجود العرب و سلامة أراضيهم، فالغرب كان قليل الحيلة في اختراق عقول شرائح واسعة من الشعوب العربية بدليل أنه عقب كل احتلال أو حرب كانت الدول المُستهدفة تسترد جزءاً من عافيتها، و لكن مع " الربيع العربي" نقلَ الغرب ساحة التجريب إلى العقل العربي ليحقق أكبر نجاحاته دون أنْ يحرك جندياً واحداً و ذلك بفضل الفتاوى التي أصدرها أوباما و صحبُه، فما ان انطلقت شرارة الاحتجاجات ( عفوية كانت أم مفتعلة لا فرق) حتى بادرَ غالبية مثقفي الغرب و قادته بإعلان الساخطين " ثواراً " و إعلان القادة المُنتفض ضدهم ( والذين كانوا بمعظمهم خدماً لواشنطن و حلفاءها ) قادة "فاقدين للشرعية" و طالبوهم ـ بوصفهم الأمناء على حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني ـ بالرحيل الفوري في وقتٍ لم تكن فيه مطالب المحتجين أنفسهم قد تعدّت شعار ( عَيش ، حريّة ، عدالة اجتماعية)، مطالب كانت كلفة تحقيقها سلمياً أقل بما لا يُقارن من الخراب الحاصل اليوم والناجم عن الانهيار الكلي أو الجزئي لمنظومة الدولة، أو لوقوعها في قبضة دكتاتوريات لامركزية أو عابرة للقارات.

 

مع الدخول في نفق السلاح ـ الذي ظهرَ و بكثافة في أيدي "الثوار" ـ بدأت مسيرة تهديم الجيوش الوطنية و تخريب البُنى التحتية، ليسارع الغرب إلى إصدار فتاويه التي أضفت صفة "الشرعية الثورية " على هذه الجرائم واعتبرتها ممارسة " لحق الدفاع المشروع عن النفس "، فتاوى اجتاحت العقول و وصل تأثيرها حد مطالبة " الثوار" بغزو عسكري خارجي لإسقاط " النظام"، و إذا تجرأ أحد و سألهم " ما هي خطتكم لليوم التالي بعد سقوط النظام ودخول الاحتلال الخارجي "، كان الجواب " نُسقط النظام و بعدها نرى ما يتوجب فعله ".

 

ما تقدم كان السِّمة العامة لحال البلدان التي ضربها " الربيع العربي " وأصبحت اليوم جميعها نُهبى للإرهاب، وللهدم المُمنهج للشخصية الوطنية الجامعة، و لغياب الدولة المركزية، إنها الفوضى العمياء التي ما كان لها أنْ تجدَ طريقها إلى بلداننا لو كانت عقول غالبية أفرادها قادرة على التمييز ما بين إسقاط النظام بوصفه " طغمة حاكمة " أو بوصفه نقيضاً للفوضى، في هذه الفوضى استثمرَ الغرب وفرضَ نفسه مرجعية تحدد "لشعوب الربيع" الهدف، و تبرر لها كل وسيلة لتحقيقه عبر سلسلة من " فتاوى القتل " كان أوباما وصحبه قد سبقوا " شيوخ الفتنة " لإطلاقها، وكما كانت فتاوى هؤلاء خروجاً عن جوهر الشرائع السماوية السمحة، كانت فتاوى " رؤوساء الفتنة " انشقاقاً حقيقياً عن شرعة حقوق الإنسان بوصفها دين الغرب وديدنه.

 

هكذا، وباسم حقوق الإنسان، أفتى أوباما و صحبه بأن أنظمة الربيع فاقدة للشرعية وراح يفرض على العقول الثائرة نظام الإخوان المسلمين كبديل وسط بين الاستبداد والإرهاب، هذه الفتوى ليست إلا تجاهلاً مُتعمداً لميثاق الأمم المتحدة الذي حرّم على الدول " أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي ‏لدولة ما" ( م 3 ف 7 )، وهذا الإملاء للبديل هو انتهاك صارخ للمادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي جعل من " إرادة الشعب هي مناط سلطة الحكم، إرادةٌ يُعبَّرُ عنها بانتخابات نزيهة  تضمنُ  لكل شخص حق المشاركة في إدارة الشؤون العامة لبلده".

 

أما فتوى أوباما وصحبه في"الحق المشروع للمُنتفضين في الدفاع عن النفس" فقد كانت الفتوى الأكثر دموية في حرب "الربيع العربي" لئن ما جرى وصّفه "بالدفاع المشروع عن النفس" هو ـ في قوانين دول العالم قاطبة ـ جريمة يُطبّق على مجرد الشروع فيها ظرف مُشدد يجعل عقوبتها تصل إلى الإعدام، ولا نبالغ إن قلنا أنَّ هذه الفتوى ـ التي غررت بالمُنتفضين و قادت بلادهم  إلى الحروب الأهلية  ووطَّنت |القاعدة و أخواتها" بين ظهرانيهم ـ كان من شأنها أن تُقدم لواشنطن الذريعة المناسبة لتدمير بلدٍ بكامله فيما لو خرجَ  أحد مواطنيه ـ و ليس رئيسه ـ وأعلن أنَّ  للمتظاهرين الأمريكيين في "حركة احتلوا وول ستريت " الحق برشق شرطة اوباما بالورود رداً على  القمع الوحشي الذي مارسته عليهم، قمعٌ جرى التعتيم عليه من قبل وسائل الإعلام في " العالم الحرّ"، وانتهى بمحقِ هذه الحركة التي طالبت بمزيد من العدالة الاجتماعية وبحماية المواطن الأمريكي من تغوُّل الشركات الرأسمالية.

 

ما بين " الجربوع الأزرق " و" الربيع العربي " يمتد اليوم خرابٌ جهنمي يجتاح الأرض والنفوس والعقول، أوباما وصحبه قد كسبوا حرب " الربيع العربي "، حربٌ اختبروا فيها قدرة الآلة الإعلامية المدججة بفتاوى الدم على التلاعب بعقولٍ أضنتها سنوات الأستبداد المُحتضن ـ أحياناً ـ من الغرب نفسه، عقولٌ تائهة بين مرجعيات فكرية متناحرة، منها العلماني المُتسلط ومنها الديني المُعتدل و منها الإلغائي الدموي ... و لكلٍ مريديه.

 

حربُ " الربيع العربي " لن تقتصرَ على بلاد العُرب، بل ستطال كل بلدٍ ترى واشنطن وحلفاءها ضرورة الهيمنة عليه حفاظاً على مصالحها أو ابتزازاً لخصومها، لظى " الربيع " وصل اليوم لأوكرانيا، و لن نستغرب إذا عادتْ الحياة ودبّت في عروقه في أقاليم روسيّة أو صينية.

 

د.عصام التكروري

Syriadailynews - AlElam


التعليقات