أطولُ الطرق هي تلك التي يقطعها المحكومُ بالإعدام من باب الزنزانة حتى حبلِ المشنقة، وأطولُ اللحظات هي تلك التي تفصل بينَ وضع الحبل حولَ رقبته وبينَ سماعه لقدمِ الجلاّد تضربُ الكرسي تحت رجليه. حتى هنا يبقى أمرُ الإعدام -على بشاعته- مُحتملا بالنسبة لأقارب الضحية لكونهم قادرين على تجاوزِ كلَّ تشويش حولَ هذا القتل «المشروع» فهو بالنسبة لهم ليس إلا قصاصاً عادلاً لمن قتل شخصاً أحبوه، ولكنْ ما لن يستطيع هؤلاء تجاوزه هو إذا اكتشفوا يوماً أن المشنوقَ كان من دمِ فقيدهم براء، وأنَّ من اتهمَ وفبركَ أدلة الإدانة إنما هو شخصٌ ثالثٌ أرادَ أن يحولهم جميعاً إلى قتلة، في لحظةِ التحولِ تلك تأخذُ الجثة شكلَ سبابة تتهمُ الإنسانية جمعاء بممارسة القتل» المحمي اجتماعياً و قانونياً». هذه هي سورية اليوم، وهذا ما يحاول الآخر فعله بها عبر تحويل القضايا المحقة لشعبها إلى أدلة إدانة تمحقُ وجودها بتواطؤ من بعض أبنائها حيناً أو بسطحيةِ رؤية بعضهم حيناً آخر. منذُ الاستقلال كانَ هناك إجماع منقطع النظير لدى السوريين حول قضية مفصلية تقول إنه عندما يكون الأميركيون وحلفاؤهم في المنطقة (عرباً كانوا أم إسرائيليين) راضين عن سورية فهذا يعني أن السكينَ باتت على حبلِ وريدِ كل طفلٍ وكهلٍ من أهلها، أما عندما يكون الأميركيون وحلفاؤهم في المنطقة (عربا كانوا أم إسرائيليين) غاضبين على سورية فذلك يعني أن السوريين ينهجون الطريق الصحيح: الطريق الذاهب إلى قلب القدس وأهداب الجولان وذاكرة اللواء السليب. لم يعبأ السوريون يوماً بضنكِ العيش الذي رافقَ الغضب الأميركي عليهم فهم يدركون أن للكرامةِ ثمناً، وأنَّ الأنفةَ والرأسَ المرفوع بوجه الهيمنة والاستعلاء الأميركي إنَّما هما منتجان سوريان بامتياز، منتجان ممنوعان من دخول معظم البلاد العربية التي تسوقُ منتجاً اسمهُ العمالة لأميركا وإسرائيل. على مدى الستين عاماً المنصرمة وحتى اليوم لم يفتأ السوريون يرددون: العدو الواجب مقاومته هو «إسرائيل» ، وليسمعوا الجواب الأميركي - الغربي «السوريون هم أعداؤنا حتى ترضى عنهم أو تبيدهم» «إسرائيل». لم تنجحْ الحروب والمؤامرات في إخضاع الشعب السوري العظيم أو في مجرد ثنيه عن معاداة إسرائيل، وخلال تلك السنواتْ دأب أعداء سورية على التفتيش عن خاصرةٍ رخوةٍ ينفذون منها للداخل السوري ولكن دون جدوى حتى ضربَ «الربيع» المنطقة العربية محولاً توقَ شعبها للعدالة الاجتماعية ولسقف مرتفع من الحقوق والحريات إلى بركةِ دماء، هنا حزمَ أعداء الشعب السوري أمرهم جاعلين من المطالب المشروعة للسوريين جسراً لإزالة سورية من الخريطة، أعداء سورية عرفوا كيف يعدون لها حبلَ المشنقة، حبلٌ مجدولٌ من دول ادَّعت صداقة السوريين لسنين وفي ليلةٍ ليلاء انقلبتْ عليهم بأمر أميركي، ومن عربٍ سلَّموا أمرهم لحلف الناتو وكأنهم لم يسمعوا بمقولة ابن المقفع «أُكِلتُ يومَ أُكلَ الثور الأبيض»، حبلٌ مجدولٌ من معارضين انقلابيين تحركهم أحقادهم فلا يميزون بين الإطاحة بالسلطة والإطاحة بالوطن، ومن إخوة لنا في الوطن باتوا على قناعة بأن الأميركيين وحلفاءهم تخلوا عن عقيدتهم القائلة: إن «السوري الجيد هو السوري الميت». ربما باتَ متأخراً بالنسبة إلى السوريين اليوم أن يتساءلوا - وهم يسيرون على دربِ الآلام - عما إذا كانَ الخطرُ الخارجي المُحدق بوطنهم منذ الاستقلال يصلُح مبرراً للتساهل مع انتشار الفساد أو تهميش مفهوم المواطنة فالثابت اليوم هو أن الخطر الخارجي سيبقى قائماً ما دام هناك سوري يقولُ «الموت لإسرائيل»، موتٌ لن يتحقق إلا عبر تحصين الداخل السوري من خلالِ بناء نظام ديمقراطي حقيقي يُعزز دولة القانون ويُعلي من شأن الحقوق والحريات الأساسية المنصوص عليها دستورياً، وكذلك من خلال دعم كلِّ حكومةٍ تجعلُ من الشعب السوري صديقها الأول وكل صديق أو حليف خارجي يأتي بالمرتبة المئة، دولةٌ كهذه لا تُبنى إلا بتوافق كلِّ الشعبِ السوري واتفاقه على أن صناديق الاقتراع - لا صناديق الأسلحة- هي أحد أسرار بقاء الأمم الحرة، توافقٌ كهذا يحتاج إلى خريطة طريق يرسمها العقلاء (الآن وهنا) فمع كلِّ يومٍ يمر دون القيام بذلك تسيرُ سورية خطوة باتجاه حبل المشنقة الذي باتَ يُشكل اليوم حبلَ النجاة ليسَ فقط للعرب الغارقين بعارهم بل للغرب الغارقْ بديونه فكلفةُ إعدام سورية التي تكفَّل العرب بتمويلها - بسخاءٍ لم يعرف له تاريخ القضية الفلسطينية نظيراً - سيعفي الأوروبيين والأميركيون من تقديم عدة مليارات من الدولارات سنوياً «لإسرائيل» بغرض مساعدتها على مواجهة الخطر السوري. حبلُ المشنقة مُعدٌ اليوم ليلتف على رقبةِ كل سوري، ويحدث للمحكومين بالإعدام بذات الجرم أن يتراشقوا التُهم عشيةَ تنفيذ الحكم، وأنْ يُلقي كل منهم بالمسؤولية على الآخر، ولكن عندما يصرخُ أحدهم بأعلى صوته «اخرسوا كلنا سنموت غداً» عندها تقتربُ الرؤوس من بعضها لتفكرَ باجتراحِ معجزةٍ تمكنهم من الهرب، بل يظلّوا - حتى وهم يستشعرون الملمس الخشن للحبل الملتف على أعناقهم - يأملون بصدور عفو أو بانقطاع حبل المشنقة. أيها السوريون إذا كان زمنُ المعجزات قد ولّى بالنسبة لكل شعوب الأرض فإن الزمن أبقى لكم في جعبته معجزة يتيمة: إنها سورية المتنوعة والواحدة في آن، لذلك جلوسكم معاً على الطاولة بعد سنتين من الدم، واتفاقكم على أن الاختلاف لا يكون على الوطن وإنما داخل مؤسساته هو الطريق الوحيد لإنقاذ «ما تبقى لنا» فحبلُ المشنقة المُعد لنا جميعاً أمتنُ منْ أن ينقطع، ومنْ ينتظر عفواً أميركياً لاقترافه جرم العداء لإسرائيل فهو كمن ينتظر غودو. قديماً قال الشاعر الألماني هاينه «نادراً ما فهمتكم... ونادراً ما فهمتموني... ولكنْ عندما نسقطُ جميعاً في الوحل سنتفاهم حالاً». أيها السوريون مازال التفاهم مُتاحاً فلا تجعلوا سورية / المعجزة تغرقُ في الوحل.   سيريا ديلي نيوز

التعليقات