قبل جولة وزير الخارجية الاميركي جون كيري في المنطقة، كان المشهد الدولي بعناصره الصحيحة الاساسية يشير الى ان القرار الاميركي اتخذ للسير فعليا باتجاه الحل السلمي في سورية و للعمل مع روسيا لانتاج هذا الحل ـ تعزز هذه القناعة عناصر مادية وميدانية تتمثل في منجزات الجيش العربي السوري على اكثر من محور و صعيد على مساحة سورية و بشكل اقنع اميركا بان المراهنة على الارهاب لتغيير الصورة هي مراهنة خاسرة و لهذا كان هناك تراجع اميركي و خفض لسقف الشروط للسير بالحل السلمي و ابداء الاستعدادات للتحضير للحل كما جاء في الاتصال الهاتفي بين اوباما وبوتين قبل ان ينطلق كيري في جولته ، و لهذا فسر المحللون والباحثون في الشأن ، فسروا جولة كيري بانها جزء من تحضير البيئة الدولية ، وحشد الاوراق الاميركية التفاوضية قبل الجلوس الى مائدة التفاوض في نهاية الشهر الجاري. لكن جولة كيري ترافقت واتبعت بمواقف وسلوكيات تتجاوز في عمقها و توصيفيها صفة الورقة التفاوضية، ثم رشح من الخطط والمواقف الرافضة لأصل الحل السلمي ما جعل فكرة هذه الحل تترنح امام ما ارتسم من مشهد يناقضها. و يبدو – و وفقا لما جرى تسريبه اثناء وبعد جولة كيري – ان وزير الخارجية الاميركية اصطدم بالمثلث الاقليمي ومواقفه الرافضة كليا لفكرة الحل السلمي في سورية وذهاب حكام هذه الدول الى ابعد ما كان يتخيل كيري حيث سمع من الواحد تلو الاخر ما يجتمع عند لفظ واحد مفاده " ان الحل السلمي الذي لا يطيح ب (الرئيس) بشار الاسد يعني وبكل بساطة انه سيطيح بانظمة الحكم و المواقع والبنى الاستراتيجية لكل من تركيا وقطر وسورية " ، وبالتالي فان القبول بمثل هذا الحل، يعني بالنسبة لهذه الدول انتحار سياسي واستراتيجي ، كما انه انتحار شخصي لحكامها الامر الذي لن تقبل به و انها مرغمة الى حد ما ابلغت لكيري – و تسرب عبر مراكز المتابعة الغربية - بان تمارس " حقها بالدفاع المشروع عن النفس " و ان تتابع معركتها ضد الرئيس الاسد شخصيا و نظام الحكم المقاوم والركن في محور المقاومة بشكل عام تشجعها اسرائيل في ذلك و تمدها بكل دعم تريد و هي باتت كما تدعي تملك من الامكانات و القدرات ما يمكنها من الانتصار و تجنب تجرع الكأس المرة التي سيشكلها الحل السلمي كما تتصور. و كذلك كان واضحا ان الاتحاد الاوروبي و اكثر تحديد بريطانيا وفرنسا ليستا بعيدتين عن هذا التصور. في نهاية جولته كان كيري و من ثم اميركا بين خيارين: - خيار الحل السلمي الذي ترى فيه الطريق الاقصر للخروج من الازمة السورية باقل الخسائر الاميركية الممكنة كونه يحفظ لها ماء الوجه و يحفظ مصالحها في المنطقة التي لم تدخلها نار الحريق العربي بعد بما في ذلك الاردن و لبنان الذي يستعد لانتخابات نيابية تعول عليها اميركا لاستعادة كامل السلطة فيه لفريقها. - خيار العنف والعمل المسلح القائم اليوم والذي لا يتطلب من اميركا تضحيات بالمال و الانفس و جل ما يتطلبه منها هو الحضانة والتأييد والرعاية الدولية للقائمين به من ممولين و منفذين اقليمين فضلا عن تشكيل الغطاء المناسب لعمليات التسليح و التدريب وهي ايضا لن ترهق اميركا بكلفة او تحملها خسارة، فضلا عن ان هذا الحل الذي يعمل المثلث الاقليمي المعادي لسورية من اجله ( تركيا قطر و السعودية) سيستمر في تحقيق الاهداف الصهيونية بتدمير سورية وتآكل قدرتها و دفعها في نهاية المطاف – بعد استكمال عملية التدمير بيد تدعي الانتماء العربي و الاسلامي –دفعها لان تكون دولة فاشلة مشتتة لا تشكل اي خطر مهما كان طفيفا على اسرائيل و يمكن بذلك من تصفية القضية الفلسطينية على الطريقة الصهيونية خاصة بعد ان تعهدت قطر والسعودية ومن خلفهم مصر باحتواء حركة المقاومة القائمة في غزة من خلال ضبط حماس. لقد كان كلا الخيارين مغرياً لاميركا ، ولكن الخيار الثاني قد يكون اكثر اغراء لانه يدغدغ الرغبات الاميركية و عمق التمنيات الصهيونية و يمنح اميركا فرصة تعويض ما فاتها في الازمة السورية ، و لكن التردد الاميركي هنا يبقى قائما و بشكل لا يمكن لدولة كاميركا تجاوز مبرراته و اسبابه . تردد عائد الى فهم اميركي لحقيقة الواقع القائم الان و تصورها ان نجاح الخيار المسلح امر غير مضمون دون تعريض المصالح الاميركية في المنطقة للخطر. هنا يبدو ان اميركا اتخذت موقفا وسطا بين الخيارين بحيث انها تظهر لمن يريد الحل السلمي انها معه و تعمل حثيثا لتطبيق هذا الحل ، لذا جاء موقف كيري في نهاية جولته لجهة القول بان " لا حل في سورية الا سلمياً وعلى اساس اعلان جنيف في 30 حزيران 2012" (اميركا تنصلت من البيان لحظة اعلانه واشترطت يومها تنحي الرئيس الاسد للسير بالحل ورفض طلبها يومها لانه خارج الاعلان ) ، و في المقابل تصرفت اميركا بما يطمئن رافضي الحل السلمي ورعت او شجعت او قبلت بشكل ضمني اكثر من سلوك وتصرف يؤكد استمرارها في العدوان سورية وعدم استعجالها للحل السلمي و نسجل هنا بشكل خاص: - اقدام مجلس وزراء الجامعة العربية على منح مقعد سورية للائتلاف المسمى "وطني سوري" اي ائتلاف الدوحة، في موقف مرتبك مضطرب مناقض لميثاق الامم الدامعة التي كان اسمها عربية. - دفع جزء مما يسمى "معارضة سورية" ( ائتلاف الدوحة) الى تشكيل حكومة لادارة مناطق يوجد فيها المسلحون والجماعات الارهابية في شمال و شمال شرق سورية. - الاعلان العربي الصريح عن اطلاق اليد لمن يشاء بتقديم السلاح لكل من يقاتل الدولة السورية مهما كانت جنسيته و تبعيته. - الاعلان عن تدريب المسلحين في معسكرات تدريب اعدت لهم في الاردن و استقدم للتدريب فيها ضباط اروبيون (فرنسيون وبريطانيون). - تسريب اخبار عن بدء تحضر الاتحاد الاروبي لتزويد المسلحين العاملين ضد الدولة السورية باسلحة متطورة خاصة الصواريخ ضد الطائرات والدبابات. - ثم كان اخيرا تكثيف الحركة الميدانية الاسرائيلية شمالا باتجاه لبنان وصولا الى البقاع والحدود السورية ترافقا مع مواقف من قبيل القول ان اسرائيل لن تقف مكتوفة الايدي حيال ما يجري في سورية وان حربا يمكن ان تلجأ اليها " لحماية مصالحها " هي امر محتمل و ترتفع حظوظه. في ظل هذا الجو المتشكل جاءت عمليات المسلحين الاخيرة ضد مدينة الرقة و ريفها ، عمليات قادها مباشرة ضباط اتراك و خليجين ، زودوا من الحلف الاطلسي بمعلومات دقيقة عن المنطقة كما وبالصور الجوية التي تظهر الحجم المحدود للقوى العسكرية النظامية في الرقة كونها من اكثر المدن ولاءً للدولة وتمسكا بالنظام ، وباغتوها في هجوم مسلح شارك فيها الالاف ممن استقدموا من الشمال والشرق ليسجلوا "نصرا ميدانيا" يقنع اميركا بصوابية الخيار العسكري والقدرة على النجاح فيه، وبعيد ليوحي في ذهنها صورة بنغازي والمنطقة الشرقية الليبية رغم انها تعلم انها غير قادرة على ادخال الاطلسي طرفا علنيا مباشرا في القتال (وهنا يفهم استعجال العرب تشكيل حكومة سورية معارضة ومنحها مقعد سورية في الجامعة). وبعد كل هذه التطورات يعاد السؤال ليطرح مرة اخرى اين هو الموقف الاميركي الان ؟ وهنا نرى ان اميركا قد تكون شجعت على ما ذكر في سياق حرب نفسية و تهويلية تحتاجها للمفاوضات و لكن لا يمكن ابدا ان نسقط التفسير الاخر حيث نرى انها – اميركا - لا تستطيع ان تتخلى عن ادواتها من الخليجين وهم الذين يمولون الحرب و يديرونها ميدانيا و هم الذين يحشدون المسلحين للانخراط فيها على اساس اسلاموي تكفيري ، كما انها مضطرة و لو لحد ما لمراعاة الموقف الاوروبي خاصة بريطانيا وفرنسا اللتين تريان في الحل السلمي المطروح خسارة استراتيجية لهما، ولكن اميركا المشهورة سياستها بالعمل دائما على خطين لا ترى مصلحة لها في ان تتراجع عن الحل السلمي وتضع بيضها كله في سلة الخيار المسلح رغم انه هو المرجح لديها الان كما يبدو. لكل هذا نرى ان اميركا ستتراجع نسبيا عن خيار الحل السلمي دون ان تسقطه او لنقل ستبطئ السعي عن الحل السلمي دون ان تتوقف او تلغيه، وستراقب نتائج الاعمال العسكرية خلال الاسابيع الثلاثة المقبلة – وقد تكون ميدانيا الاقسى في المواجهة، فان كان الميدان يتقدم لصالح رافضي الحل السلمي فانها ستبادر الى قيادتهم و السير على رأسهم وان انقلب الميدان ضدهم فانها لن تكون شريكة معهم في الخسارة وعندها ستسرع الخطى نحو الحل السلمي. وعلى ضوء ذلك نقول ان القول الفصل في تحديد اتجاه الازمة سيكون في يد من يقبض على الزناد في الميدان. واننا اليوم امام معادلة قاطعة الدلالة تقوم على القول ان كل خطوة تسجل في الميدان لصالح الدولة ، تقرب من الحل و الاستقرار وان كل نجاح يحققه المسلحون و الارهابيون يبعد الحل و يشكل خطرا على مستقبل سورية ووحدتها و لذلك نرى ان الدفاع عن سورية اليوم بات من الاهمية بما يتجاوز كل الاعتبارات، واننا نرى ان الامكانات المتاحة والقدرات المخصصة للدفاع سواء في ذلك السورية الذاتية او الاقليمية كافية برأينا لتحقيق هذا الامر بصرف النظر عمن يوفر هذا القدرات.
سيريا ديلي نيوز  

التعليقات