بات لدي قناعة راسخة، ويقين مطلق، بأن كل تلك المراكز البحثية
والاستراتيجية الغربية ذات الأسماء البرّاقة والعناوين العريضة "فايتة
بالحيط" كما يقال باللغة العامية، وتستحوذ على قدر كبير من الغباء، كما
الجهل، ما أهلها فعلاً للوقوع بكل تلك الأخطاء الاستراتيجية الكارثية
الكبرى التي تناوبت على الوقوع فيها في كل من العراق وأفغانستان وسوريا
وإيران وإلى آخر هذه القائمة التي تحتل عناوين الفشل الأمريكي، وهي ما إن
تخرج من حفرة حتى تقع في حفرة أخرى، مكررة السيناريوهات ذاتها.
ففي "خطبة" الوداع الكلينتونية، أمام أنصارها من التـُبـّع و"أخيار" الشرق
الأوسط الجديد، عـَزَت السيدة كلينتون سبب إخفاق الولايات المتحدة، في
الإجهاز على "النظام" السوري، وإسقاطه إلى الدعم الإيراني والروسي لهذا
البلد الذي أظهر قدرات أسطورية عالية من الصمود والتماسك الملحمي الوطني
أذهلت المراقبين داخلياً وخارجياً، وزادت في حيرة الحائرين. فحين كان يرطن
البعض، وعلى رأسهم "الميسيز" كلينتون، بهمروجة الأيام المعدودة، ويعزف
آخرون لحن سقوط النظام، ويدندن قوم مجتهدون بطقطوقة الحرب الأهلية،
وتـُغنـّى هنا وهناك مواويل الرحيل، وتـُستظهر ببلاهة التلميذ الكسول
البليد رائعة نزار "اسألك الرحيلا"، لم يكن هذا "البـُعـَيض" ينطق عن هوى،
أو كان ينبش من فراغ، فما وظـّف لجندلة سوريا، الدولة والمجتمع، فاق كل
التوقعات، وما رصد من أقلام وأبواق وتجييش وتهويل وترعيب وترهيب كان كافياً
لوحده لتقويض إمبراطوريات من حجم الاتحاد السوفيتي، والمليارات الخرافية
التي سفحت من أجل "حرية" القتل والذبح والتخريب كانت كافية لتدمير الكرة
الأرضية ثلاث مرات على الأقل، وسيناريوهات الرعب وزج وتهريب القتلة وإدخال
عناصر القاعدة من أربع رياض الأرض كان بمقدوره إسقاط سور الصين العظيم
بنفخة واحدة.
ولا ندري إن كانت السيدة كلينتون تمزح حين أطلقت تصريحها ذاك، أو كانت
فعلاً جادة في ذلك، ولا ندري إن كانت تلك النكتة السمجة لأجل الإضحاك، أو
غايتها إبكاء من لا زال يمتلك القدرة على الابتسام في هذا الجو المكفهر
والغاضب الشاحب اللاهب. والسؤال ها هنا، هو فيما إذا كانت السيدة كلينتون،
أيضاً، تعتقد أن "الجرة" ستسلم في كل مرة في محاولة إدارتها الهيمنة على
العالم عبر تنصيب دمى وكرازايات مأجورة، ومدى إمكانية نجاح عملية استنساخ
ذات السيناريو من البلقان مروراً بأفغانستان وتونس وليبيا ومصر وغيرها من
البلدان؟ لكن السؤال الأشق والأمضى، هو فيما إذا كانت كل تلك المراكز
والمعاهد والدوائر ذات العناوين والأسماء الكبيرة، وفيما إذا كان الطاقم
الوزاري الخبير والمخضرم، إياه، للخارجية الأمريكية، لا يعي عمق تلك
العلاقة المتينة والاستراتيجية بين كل من سوريا وإيران وروسيا، ويجهل
فعلاً، طبيعة الجغرافيا السياسية السورية وماهية القوى والأحلاف وتشكل
القوى والمحاور التي تخرج من رحم الصراعات ومماحكة الإرادات واختبار
السياسات وضرورة مراعاة مصالحها كيلا يتم الاصطدام بها والتعرض للسقوط الحر
والسريع كما حصل مع كلينتون، وعطفاً على ذلك كله، لا يقدر ذاك الطاقم على
الخوض في دهاليز نفق الرعب السوري الذي فكرت إدارتهم بولوجه، والمأزق
والورطة التي وضعوا أنفسهم فيه، وماهية التداعيات التي نجمت، أو قد تنجم عن
تلك المغامرة الحمقاء المحفوفة بشتى المخاطر، لا بل إن تجاهل موقع سوريا
وتموضعها الاستراتيجي، في قلب محور إقليمي ودولي ناهض لا يشق له غبار،
ويمتلك قدرات هائلة للمواجهة وإسقاط أية مشاريع احتواء وسياسات رعناء اعتاد
الغرب عامة، والولايات المتحدة على نحو خاص، على انتهاجها في استراتيجيتها
التي لم تعد خفية على الإطلاق في السيطرة والهيمنة على العالم، هو الغباء،
وقلة البصر والبصيرة، بعينه.
لقد كان إلقاء اللوم على روسيا وإيران، في فشل مشروع إسقاط الدولة السورية،
اعترافاً ضمنياً بتورط الولايات المتحدة حتى "شوشة" أذنيها في الحدث
السوري ومسؤوليتها المباشرة عن سفك الدم السوري، وتعبيراً مباشراً عن
رغبتها العدوانية المعلنة في "رحيل النظام"، الذي لا يروق لها على ما يبدو،
هذا من جهة، ومن جهة أخرى فالتصريح، يأتي كإعلان فشل وخيبة أمل لا تقبل
المواربة وسوء أو خطأ التأويل، وهو إخفاق آخر ينضم لرزمة إخفاقات السياسة
الخارجية الأمريكية التي باتت سمة خاصة لهذا البلد الذي أخذ على عاتقه مهمة
التدخل السافر والمباشر في شؤون البلدان الأخرى مخالفاً كل القيم والأعراف
والمواثيق الدولية السائدة. فلم تجد السيدة كلينتون، إذ ذاك، ذريعة واحدة،
لتبرير إخفاقها، وبالتالي إخفاق سياستها الخارجية سوى القول بأن روسيا
وإيران هما السبب في ذلك، ولا يمكن مقارنة ذلك سوى بسذاجة التلميذ الفاشل
الخائب الذي يدّعي بأن أستاذه يستهدفه، ويمنعه من تحقيق النجاح المراد.
وطبعاً نحن لن نشير، ها هنا، إلى الدور المحوري الوطني والذاتي لسوريا،
والصمود الأسطوري والبطولي الخارق لجيش سوريا الوطني في تقويض المشروع
وضربه ومن ثم دحره ورده على أعقابه، فذلك أمر بات في حكم المعروف والمعلوم
للقاصي والداني، ومع التسليم بأن اكتشافات السيدة كلينتون المتأخرة جداً،
لم تأت بجديد ويدركها تلاميذ العلوم السياسية المبتدئين، وسواءً فيما إذا
كانت روسيا أم إيران، أو جزر الماو ماو، أو أية عوامل أخرى، وهذا الاعتراف
لسيدة الخارجية الأمريكية وإقرارها بهزيمتها، وهزيمة منظومتها العدوانية من
ورائها، فإن هذا يعتبر، من منظور آخر، صفعة أخرى تتلقاها الولايات المتحدة
على وجهها الذي يبدو اليوم منتفخاً، ومتورداً، ومحمراً، ليس من شدة الخجل
والحياء، بالطبع، أو في أحسن الأحوال، تعبيراً عن الصحة والحياة، لا وأيم
الله، بل لكثرة ما بات يتلقى من صفعات من هنا، وهناك، ومن هذا وذاك.
سيريا ديلي نيوز
2013-02-08 17:50:48