متى ستكون اجتماعاتنا قادرة على اتخاذ القرار وليس التوصية.. عقدة أبدأ منها للولوج إلى طرح ليس ببعيد، وبشكل أدق يرجع إلى مرحلة ما قبل الأزمة التي تمر بها سورية، وهو طيّ مرحلة الرعاية الأبوية للدولة، وتحديداً فيما يتعلق بمدى مسؤوليتها عن تأمين فرص العمل للداخلين سنوياً إلى سوق العمل الذين كان يصل عددهم قبل الأزمة إلى نحو 300 ألف، ممن كان معظمهم يرغبون بالوظيفة في القطاع العام دون الخاص ولأسباب عديدة، وأهمها ضمان استدامتها في الأول وما يستتبع هذا الضمان من ضمانات لمستقبلهم التقاعدي بكل متطلباته، على عكس ما كان في القطاع الخاص الذي جعل من القانون 17 سيفاً مسلطاً على العاملين فيه بيد أرباب العمل..!.
اليوم يبدو أن الفرصة سانحة للتقليل ما أمكن من تلك الرعاية التي كانت ولا تزال تثقل كاهل السياسات الحكومية وخططها واستراتيجياتها التنموية الاقتصادية والاجتماعية، فرصة بوابتها الواسعة هي “المشاريع الصغيرة والمتوسطة”، التي تعدّ الأقدر على توزيع الدخل الوطني بطريقة أكثر عدالة، لأنها تشكّل المصدر الرئيس للدخل العائلي والفردي، حسب الدول التي منحت تلك المشاريع كل ما تتطلبه من رعاية واهتمام ودعم وتسهيلات عزّزت من خلالها الدور الاقتصادي لتلك المشاريع، سواء المتقدمة أم النامية.
ويكاد يجزم الاقتصاديون أن ذلك النوع من المشاريع من المكوّنات الاقتصادية المهمة، وهي رغم التطوّرات الكبيرة في طرق وأدوات الإنتاج في العالم، لا تزال تمثل نسبة كبيرة من المؤسسات الاقتصادية في معظم الدول، وخاصة زمن الأزمات والحروب كالتي نمرّ بها، والسؤال ماذا فعلنا في هذا الشأن وأين وصلنا؟.
سعيكم مشكور..؟
حسب المختصين بالاقتصاد السوري فإن تلك المشاريع تشكل أكثر من 95% من مجموع المؤسسات والشركات في سورية، ولأن الحكومة تسعى إلى تشجيع الإنتاج بمختلف أنواعه ومستوياته بهدف رفع الناتج المحلي الإجمالي، كما تسعى إلى تأمين فرص العمل لتحسين المستوى المعيشي وتعزيز القدرة الشرائية للمواطن السوري، وذلك لتحقيق زيادة الطلب الإجمالي وتحريك عجلة الاقتصاد لتحقيق النمو الاقتصادي الذاتي، فهي اليوم أمام تساؤلات ملحّة حول ما أنجزته لأجل المشاريع الصغيرة والمتوسطة بعد مرور المدة الكافية للانتقال من الأقوال إلى الأفعال في موضوع المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ولاسيما أن تبنّي هذا الموضوع أصبح اتجاهاً عالمياً، عوضاً عن التركيز على الاستثمار الأجنبي والصادرات كرافعة للنمو.
استحقاق ننتظره
استحقاق الانطلاق بتلك المشاريع، وعلى الرغم من إقرار الحكومة باستراتيجية وطنية لها، وإحداثها بعض الدوائر المعنية بها في عدد من الوزارات كالزراعة والصناعة والاقتصاد وغيرها، لكن تلك الدوائر لم تستطع الاضطلاع بالمهمة والمسؤولية المنوطة بها علماً أنها محددة في الاستراتيجية، والسبب غياب التعاون والتنسيق وحتى الجدية اللازمة المطلوبة لمثل هذه المشاريع، ما أفسح المجال لغير المنظم والظل في هذا القطاع ناهيكم عن المنعكسات السلبية لذلك ومنها عدم ضمان جودة ومعايير المنتجات بسبب غياب الرقابة ومخالفة القانون، ما أضاع الكثير من الفوائد المباشرة وغير المباشرة على اقتصادنا!؟.
وهنا الملحّ من السؤال هو: هل تمكّنت الدوائر المعنية بتحديد وحصر الإمكانات والظروف الاقتصادية والاجتماعية مثل طبيعة مكوّنات وعوامل الإنتاج، ونوعية الصناعات الحرفية التقليدية القائمة قبل الصناعة الحديثة، والكثافة السكانية، ومدى توفر القوى العاملة ودرجة تأهيلها، والمستوى العام للأجور والدخل، وغيرها من الجوانب الاقتصادية والاجتماعية التي تحدّد ملامح وطبيعة الصناعات القائمة والمرادة في سورية، وصولاً إلى الخروج بمتطلبين مهمين هما الإحصائي والتمويلي وغير ذلك اللذين من شأنهما تشكيل الأسس الصحيحة لنجاح أي مشروع؟.
الدراسات تؤكد
لقد أجري عدد من الدراسات حول أهم العوائق التي تواجه رواد الأعمال في سورية، لتأسيس وبدء مشروعاتهم، فخلصت إلى أن أهم المعوقات تتمثل بالبيروقراطية وعدم وضوح القوانين وصعوبة تلبية شروطها بالنسبة للمبتدئين يضاف إليها بالتوازي معضلة التمويل والوصول إلى القروض المعقولة التكاليف والضمانات.
وبناء على تلك الدراسات -التي لم نلمس أية ترجمة لقيمة ما تضمّنته على أرض الواقع- فإن أهم الخطوات الرئيسة لتشجيع تأسيس وبدء الأعمال هي: بيروقراطية أقل، وضرائب أقل، وقروض بفوائد منخفضة، وقوانين صارمة، وأطر تشريعية تشجّع المنافسة وتحمي من الاحتكار في الأسواق، وغيرها من حاضنات نجاح الأعمال التي أول ما تتطلبه وأهمّه ترافقها بإجراءات وتعديلات قانونية ومؤسساتية.
أهمية غير مدركة!؟
نتيجة لما تقدّم نجد أنفسنا مضطرّين إلى بيان أهمية مساهمة المشاريع الصغيرة والمتوسطة في عملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية علّ وعسى “حدا يسمع”، فتلك المشاريع تعتمد على العمالة المكثفة، وتميل إلى توزيع الدخل بصورة أكثر عدالة مقارنة مع المؤسسات الكبيرة، فهي تلعب دوراً مهماً في خلق فرص الاستخدام بما يخفف من حدة الفقر، إذ إنها كثيراً ما توفر فرص عمل مقابل أجور معقولة للعمال من الأسر الفقيرة والنساء اللاتي يفتقرن إلى المصادر البديلة للدخل، كما أنها تسهم في رفع كفاءة تخصيص الموارد في الدول النامية، فهي تميل إلى تبني الأساليب الإنتاجية الكثيفة العمالة بما يعكس وضع تلك الدول من حيث وفرة قوة العمل وندرة رأس المال، وكلما توسّع نشاط تلك المشاريع في الأسواق غير الرسمية أصبحت أسعار عوامل الإنتاج والمنتجات التي تتعامل بها تعكس بصورة أفضل تكاليف الفرص البديلة مقارنة مع الأسعار التي تتعامل بها المشاريع الكبيرة.
ومثل هذا النوع من المشاريع يدعم بناء القدرات الإنتاجية الشاملة، فهي تساعد على استيعاب الموارد الإنتاجية على مستويات الاقتصاد كافة، وتسهم في إرساء أنظمة اقتصادية تتسم بالديناميكية والمرونة تترابط فيها الشركات الصغيرة والمتوسطة، وهي تنتشر في حيّز جغرافي أوسع من المشاريع الكبيرة، وتدعم تطوّر ونموّ روح المبادرة ومهاراتها وتساعد على تقليص الفجوات التنموية بين الحواضر والأرياف.
ونظراً لسرعة التطوّر التكنولوجي فقد أدّى ذلك إلى زيادة معدّل تغيّر التقنية الإنتاجية المستخدمة في العديد من الصناعات، وبانتشار طريقة الإنتاج على دفعات أصبح من الأهمية إقامة مصانع أصغر حجماً وأقل تكلفة استثمارية على أن يركز كل مصنع على إنتاج عدد قليل من السلع الدقيقة أو التي تتطلبها صناعات معينة لمواجهة طلبيات صغيرة من سلع أو خدمات معينة (العناقيد الصناعية) التي أعلنت عنها وزارة الصناعة.
أما بعد..
فقد أثبتت الأزمة أن لدينا طاقات اقتصادية فكرية شبابية، لكن لا تجد الحاضنة الراعية لتحقيق مشاريعها، التي لو وجدت اليد التي تأخذ بها لكنّا “ضربنا أكثر من عصفور بحجر واحد” ولكان شبابنا الذي هاجر نتيجة لثقل البطالة والعطالة، لديه اليوم مشروعه الخاص، القادر على ترجمة كل ما أسلفنا، لكن نقول: لقد أسمعت لو ناديت حيّاً!؟.
إن البناء الحضاري يبدأ من بناء الشباب وإعدادهم إعداداً متكاملاً ومتوازناً كي يكونوا بمستوى البناء والتحدي الحضاري، والمنافسة الحضارية بين الأمم والشعوب، والتقدّم في مجال العمل والصناعة والاقتصاد من محاور البناء الحضاري، وهذا ما لا يمكن تحقيقه إلا عندما يتحوّل الشباب إلى قوة عاملة وفاعلة ومنتجة. إن توظيف عقول الشباب واستثمار قدراتهم ومواهبهم، والاهتمام بهم وتشجيع روح الإبداع والابتكار والاختراع والاكتشاف، هي من الخطوات الرئيسة نحو بناء حضاري مشرق، ونهضة اقتصادية زاهرة، ومن هنا تأتي أهمية الاهتمام بإنشاء وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة والجهد لتوفير جميع متطلباتها، وخاصة أن من سمات تلك المشاريع توفير فرص وظيفية للشباب ما يساهم في دفع عجلة الحياة الاجتماعية إلى الأمام، إذ إن كل فرد من أفراد المجتمع عندما يعمل يشعر أنه عضو فعّال في المجتمع، وأنه مساهم في التنمية الاجتماعية، وبالتالي يهمّه الحفاظ على البيئة الاجتماعية، وعلى الأمن الاجتماعي، باعتباره الضمان للحياة الاجتماعية والرفاه الاجتماعي.
سيرياديلي نيوز
2015-12-01 20:29:30