سيريا ديلي نيوز- رحاب شبيب

في سن مبكرة لم تكن تعرف غضاضة فكري إلا المرح والمغامرات والمقالب الطفولية البريئة..
لم تَطلْ تلك المرحلة فما إن أكملت التاسعة من العمر حتى صعقني القدر بأول صفعة هوجاء مؤلمة؛ لتكون بداية صحوة مبكرة جداً... ولتكون أول غرسة في رحاب روضتي..
زنبقة فاطمة...
فاطمة رفيقة لسنتين من طفولتي عشتُ معها معنى الأخوة والصداقة والمحبة ببراءةٍ وعشقٍ للحياة.. كان آخر يوم من العام الدراسي للصف الثالث الإبتدائي وكنا فرحين بيوم الجلاءات نضحك ونلهو بشغف وشقاوة.. لم أرَ يومها فاطمة والتقيت بها في طريق عودتي للمنزل وهي راكضةً نحوي تضحك.. لن أنسى ضحكتها ووجهها المُشرق والمُشع كبدرمُكتمل في ليلة ساحرة.. ولن أنسى كلماتها باللهجة اللبنانية التي كنت أعشق سماعها من ثغرها الجميل المفعم بالحياة وهي تُخبرني أنها أتت لوداعي قبل سفرها إلى لبنان لقضاء عطلة الصيف وبأنها ستشتاق لي كثيراً... لا أعلم وقتها لماذا شعرت بحزن كبير ومشيت ثم التفت إليها لأجدها أيضاً ملتفتة ً نحوي فضحكنا واقتربنا من بعضنا لنتعانق غير عارفين ما يخبئه هذا العناق..
في ظهيرة اليوم التالي هرعْتُ لأفتح الباب ووجدت ثلاثة من رفيقات المدرسة باكيات مرتبكات من وقع الخبر في قلبي، لتكون أجرأهُنّ ربى التي قالت لي ماتت فاطمة بحادث سيارة في طريق سفرهم إلى لبنان.... فتحت عينيّ بدهشة ولم أصدق ماسمعت!!! ولم أستوعب لحظتها هكذا خبر.. دخلت بهدوء وبخطوات مثقلة بالحزن؛ ممزقة القلب أبكي وأشهق كعصفور اخترقت عنقه ذبحة مفاجئة للتو... وقد أدركت لأول مرة معنى الموت والفقدان.. شعرت بألم أخوتي وأبي وأمي وإحساسهم بوجعي؛ حيث حضنتني والدتي بحنان وبكت عاجزةً عن مواساتي.
في صباح اليوم التالي وفي موعد سقاية حديقة المنزل نادتني أمي باسمةً وهي تقول: / مابدك تسقي زَنْبقة فاطمة../
ابتسمت وكأن ابتسامة أمي اخترقت مساماتي لتسبح في عروقي إحساساً لم أعي وقْعَهُ في وجداني يومها.. إلا أنه كان شعوراً بعث السَكينة في نفسي..
أسرعت بفرح أسقي الزَنْبقة وأتأملها وأتذكر يوم غرَسْتها بيديّ الغضّتين وأنا أقول لأمي هذه هدية من فاطمة..
مرّت السنوات.. وأنا أترقّبُ الزَنْبقة وأعتني بها وقد أدمنت الجلوس قرب ياسمينتي التي أعشقها وأدمنت عبقها المنعش لروحي وأدمنت تلك الزنبقة الجميلة..
شاءت الظروف أن ننتقل إلى منزل جديد وكانت فرحتي متماهية مع حزن عميق لتهزي روحي بلحن يتواتر بين صخب الفرح وخشوع الحزن.. هكذا ارتسمت صورة وداعي لبيت الطفولة.. والذكريات مع أخوتي وجيراني وياسمينتي وزنبقتي.. تنقّلتُ بجسدي المُنهك في كل أرجاء البناية.. السطح .. الدرج... مكتب والدي.. الكراج.. والحديقة..
لأغترفَ من كل ركن غبّةً تقتاتُ بها روحي بذكرياتٍ وصورٍ أزرعها باقات شوق في أوردة جسدي أعتصر من رحيقها حنيناً لايبارح وجداني ماحييت..
كانت حديقة منزلنا الجديد مليئة بشتى أنواع الورود التي كانت أمي قد أرسلت شتلاتها من بيت الطفولة.. وكم كانت فرحتي كبيرة برؤية الزنبق يملأ أطراف الحوض كسياج يغمر زهورها ويحتضنها بالمحبة ويضفي عليها مزيداً من الروعة..
ومع مرور الأيام كنت أدرك أكثر أن فاطمة حيّة في قلبي وباقية في روضة روحي زنبقةً جميلةً يافعةً ومتجددة، أراها في كل زنبقة تمر بناظري.. واكتمل إدراكي بأنّ الموت ليس بالغياب والفقدان.. إنما الموت الأوجع بالنسيان.. وعلى مر السنين امتلأت روضتي بشتى أنواع الورود المُتجذّرة في ثنايا قلبي تفوح بعبقٍ لاينْضُب ينعش روحي ويبهج نفسي.. ولكل غرسة حكاية بلون مختلف وعبير مميز لا يشبه غيره.
غيّب القدر بعض أحبتي وبعضهم غيّبتهُ الظروف والغربة والبعض مشيئتهم أو مشيئتي، وباستمرار الحياة سيستمر الفقدان إلا أنّ حديقة كل منا ستبقى مزهرة وأريج ورودها سيبقى الإنعاش لأرواحنا المُتعبة.. ربما بعض زهراتها تُبْكي مآقينا إلا أن دمعها سيكون الوضوء الذي يغسل الروح لصلاة مُقدّسة تُرتّل الأمل نوراً متجدداً يضيء دروبنا..
لاتنسوا أمواتكم وأحبتكم واجعلوا طيب أعمالهم عبقاً طيباً يرافق أرواحكم ويُحفّز الوفاء في قلوبكم..

 


 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات


يعقوب مراد
رائعة جداً ., وأسلوب متمكن ومبهر , ومن الظلم ان تنشر هذه المقالة في زاوية القراء يكتبون ومكانها الحقيقي في زاوية صحافة واعلام وهذه وجهة نظري لاقتناعي التام بخرفية ماكتبته يفوق الكثير من اشباه الصحفيين والكتاب ., مع تمنياتي من المزيد من هذا الفكر الطيب . يعقوب مراد

رحاب شبيب
لك كل الشكر والتقدير أستاذ يعقوب وشهادتك وسام أعتز وأفخر به..