للشهرين الماضيين انشغلت وسائل الإعلام الغربية ومراكز الأبحاث بموضوع وحيد عن سورية وهو ضرورة فتح ما سموه «ممرات إنسانية عبر الحدود» متباكين على من سيصيبهم الجوع والفقر إذا لم يتم السماح لأيدي الغرب الخيرة أن تمتد لتنقذ حيواتهم.
وصدّقوا الكذبة التي كذّبوها على أنفسهم وفرحوا بها لأنها تعطيهم الارتياح الزائف أنهم منسجمون مع قواعدهم الأخلاقية التي يتحدثون بها دوماً وهي الحرص على الناس وعلى غذائهم وصحتهم. ولكنّ الغريب في الأمر أن كلّ هذا الإعلام الغربي الموجّه تحدث عن ثلاثة ملايين يقطنون في الشمال الغربي والشمال الشرقي ولم يذكر مطلقاً العشرين مليون سوري الذين يرزحون تحت عقوبات جماعية لا أخلاقية ولا شرعية ولا قانونية، وبالحقيقة فإن هذه العقوبات جريمة إبادة، وهي المسؤولة عن الفقر والجوع والغلاء الذي يعاني منه ملايين السوريين لأنها عملياً تمنع عنهم سبل الغذاء والدواء والطاقة وتعاقب أي طرف يحاول بيع هذه المواد الأساسية لحياة أي إنسان أو يحاول مدّ يد العون لهم أو خرق هذه العقوبات بأي وسيلة كانت.
والغريب في الأمر أن أحداً لم يربط بين قانون قيصر الإجرامي الذي هو ليس قانوناً بل جريمة إبادة جماعية موجّهة ضدّ الشعب السوري المسالم لأنه يمثل خرقاً لكل القوانين الإنسانية والأخلاقية وبين معاناة هذا الشعب على مدى السنوات الماضية. ولم يحاول أي متحدث في الغرب أن يتحدى هذه الموجة الإعلامية الصاخبة الموجهة سياسياً من الأجهزة المخابراتية والعسكرية نفسها التي موّلت وسلّحت وأرسلت الإرهابيين إلى سورية من خلال إبراز حقيقة أن كل المساعدات المرسلة من الأمم المتحدة توزعها منظمات الأمم المتحدة العاملة في سورية على مدى الجغرافيا السورية، ولكن ما يريد الغرب فعله هو انتهاك السيادة السورية أولاً، ووضع أسس لتقسيم سورية ثانياً وإمداد مرتزقته من العصابات الإرهابية بالسلاح تحت مسمى مساعدات إنسانية، وهذا ما فعلوه بالشعوب طوال تاريخهم الاستعماري الدموي.
هل يعقل أن تتداعى عشرات الدول إلى مؤتمر في روما لمناقشة مساعدات إنسانية لسورية من دون ذكر السبب الأساسي في معاناة السوريين جميعاً ألا وهو الإجراءات القسرية الأحادية الجانب المفروضة على الشعب السوري ظلماً وعدواناً؟ ألم يكن الأجدر بهذه الدول، إذا كانت صادقة، أن ترسل المساعدات مباشرة عبر الطرق المتبعة دولياً وعبر المنافذ الحدودية والموانئ السورية؟!
وفي أعقاب هذا المؤتمر تكتب جريدة «الواشنطن بوست» في افتتاحيتها في 30 حزيران 2021 أنه «لا يوجد مكان أفضل من سورية للتعبير عن قيمنا من خلال إيصال المساعدات الإنسانية والتوصّل إلى تسوية للحرب وفق ما نصّ عليه قرار مجلس الأمن «2254». ويشكو الكاتب من أن سورية شكّلت عبئاً للدبلوماسية الأميركية للسنوات العشر الماضية. على مثل هؤلاء الكتاب أن يسألوا السوريين بماذا تسببت لهم الولايات المتحدة على مدى السنوات العشر الماضية وما الجرائم التي ارتكبت بحقهم وكيف ينظرون إلى نهب قمحهم ونفطهم واحتلال أرضهم بقوة السلاح الأميركية في انتهاك صارخ لكل القوانين والشرعة الدولية؟
أتساءل وأنا أقرأ كلّ ما يصدر بشأن سورية في الإعلام الغربي عن الصورة المشوهة التي تتشكّل حكماً في أذهان القراء الغربيين نتيجة المعلومات المضلّلة التي لا تمتّ إلى واقع الحال بصلة والتي تملأ صفحات هذا الإعلام الذي تحتكره الحكومات الغربية وتسيره عبر المخابرات الغربية، ولذلك إعلامهم يتجاهل الواقع والحقيقة وكل ما يعتري حياة السوريين من صعوبات ومآسٍ لا يتم التطرق إليه أبداً لأن التطرق لها يعني الإشارة إلى الفاعل والمتهم الغربي المجرم ولذلك فإن كل ما يكتب عن سورية يكتب بصيغة «المبني للمجهول» تماماً كما درج الصهاينة على بث الأخبار عن فلسطين والفلسطينيين منذ عقود، إذ لا توجد جملة بصيغة المبني للمعلوم لأن المبني للمعلوم يتطلب ذكر الفاعل المسبب للجرائم بحقّ الملايين من السوريين الأبرياء المسالمين وهذا أمر غير مسموح به.
في كل هذا الترويج الإعلامي في مؤتمر روما وما سبقه وما تلاه يختصرون سورية بالشمال الغربي والشمال الشرقي وبحفنة من الإرهابيين والمحتلين، في حين لا يوجد ذكر للشعب السوري الذي عانى وصبر وحرّر الجزء الأكبر من أرضه ويحاول إعادة بناء حياته وممتلكاته رغم الصعوبات التي ولّدتها العقوبات المجرمة عليه.
وفي افتتاحية مجلة «النيوزويك» في 30 حزيران أيضاً تشعر وكأن سورية والعراق مسكونة بميليشيات إيرانية فقط ولا وجود للشعبين السوري والعراقي وأن الولايات المتحدة مضطرة للرد على هجمات الطائرات الإيرانية المسيرة في العراق ولذلك هي تقصف الحدود العراقية- السورية قرب البوكمال.
وبما أن للولايات المتحدة الحق كما تقول الافتتاحية لحماية قواتها في أي مكان في العالم لذلك لم يهتم أحد حين قصفت الولايات المتحدة الأسبوع الماضي منشآت وأشخاصاً وقتلت من قتلت واعتبروها أعمالاً دفاعية عن النفس. ولا يخفي كاتب المقال أن المسألة لا تنحصر فقط فيما إذا كان هذا العدوان قانونياً أم لا بل السؤال هو: لماذا توجد قوات احتلال أميركية في العراق وسورية؟ ولماذا تعمّد عناصر في الجيش العراقي الذي تدربه الولايات المتحدة إلى مهاجمة القوات الأميركية وهو يحاول في مقاله أن يصحح «حولاً إستراتيجياً» في نظرة الولايات المتحدة لتدريب هذا الجيش وأن الولايات المتحدة لم تتمكن من خلق حالة الردع في العراق.
أولاً: إن قوات الاحتلال الأميركية لا تهاجم معبر البوكمال ولا تحتفظ بمعبر التنف من أجل سلامة قواتها التي يجب ألا تكون موجودة أصلاً، بل من أجل ضمان سلامة الإرهابيين الذين تحميهم وتحركهم متى تشاء وكيف تشاء. وثانياً: لأنها تريد قطع التواصل الجغرافي بين العراق وسورية من جهة ومحاصرة الملايين من الشعبين في البلدين، ومنع أي تبادل تجاري ينفعهما، كما تهدف إلى قطع التواصل بين إيران والعراق وسورية ولبنان من جهة أخرى، وهذا يمثل أحد الأهداف الإستراتيجية للكيان الصهيوني الذي يعتبر التواصل بين هذه البلدان في محور مقاوم خطراً وجودياً عليه؛ أي إن الولايات المتحدة تنفذ أهدافاً إسرائيلية، وهي لا تقوم بالرد على أي هجوم لأنها هي التي تبدأ العدوان دائماً.
وثالثاً: إذا كان كاتب الافتتاحية يعتقد أن الجيش العراقي أو أي جيش في المنطقة سيعبّر مستقبلاً عن امتنانه وولائه للجيش الأميركي فهو واهم؛ فشعوب المنطقة أذكى بكثير مما تعرفون وتظنون، والشعبان في العراق وسورية يدركان أن قوات الاحتلال الأميركية هي أولاً قوات عدوانية هدفها قمع الشعبين وحرمانهما من الحرية والسيادة وموجودة من أجل نهب ثروات الشعبين، ويدركان أن هذه القوات المعتدية هي التي تمنع التواصل بين البلدين وهي التي تمنع فتح الحدود بين بلدين شقيقين متحابين، في حين تريد فتح الحدود مع محتل تركي استخدم الحدود طوال السنوات العشر الماضية لإرسال الإرهابيين المسلّحين والمدربين غربياً إلى سورية وتزويدهم بالمال والعتاد والسلاح.
خطر لي وأنا أقرأ افتتاحية «الواشنطن بوست» وافتتاحية «النيوزويك» المؤرختين في 30/حزيران/2021 أن شعوب الغرب عبر الأطلسي ستكون في حال أفضل لو أنها لا تقرأ مثل هذه الافتتاحيات الموجّهة سياسياً من قبل حكومات ترتكب جرائم حرب ضدّ الشعوب العربية في سورية والعراق ولبنان واليمن وليبيا، فهذه التحليلات المضلّلة لا تمت بصلة لواقع الحال في بلداننا ومنطقتنا والتي تنبع من تحيّز كتابها لفكرة التفوّق الاستعمارية وتجاهلهم لواقع الشعوب ومعاناتها ووعيها وطموحها.
ها هم اليوم يخرجون من أفغانستان بعد التسبب بمآسٍ لا تحصى للملايين من الشعب الأفغاني المسالم ولا أحد يعلم لماذا دخلوا ولماذا خرجوا، ولم يتمكنوا من الخروج إلا بعد التفاوض مع طالبان التي ادّعوا أنهم ذهبوا هناك لتخليص الشعب الأفغاني منها، وإذا بهم وبسياساتهم يسهمون في إدامتها وانتشارها.
أتساءل عن مناهج التاريخ في الولايات المتحدة وعما تدرّسه للطلاب إذا كان هذا ما تجود به مراكز الأبحاث ووسائل الإعلام والتي تعتبر نخبوية في الغرب! ولكنّ هذا حديث آخر وبحاجة إلى وقفة قادمة.

سيريا ديلي نيوز-د. بثينة شعبان


التعليقات