تضيع معظم التفاصيل المعيشية للسوريين في زحمة الأحداث الكبيرة والمتلاحقة، وهي كثيرة ومفجعة، منها غارات إسرائيلية أربع منذ مطلع العام الجاري، وحصار مطبق تفرضه قوات سوريا الديمقراطية “قسد” على مركزي مدينتي القامشلي والحسكة، وحصيلة دامية لهجمات “داعش” المفاجئة في مثلث الموت بين بادية دير الزور الجنوبية، وحمص وحماه الشرقية، وإغتيالات متجددة في ريفي درعا الغربي والشرقي.. إلخ.
كلها عناوين كبيرة لكنها لم تعد تجذب الاهتمام كما كانت قبل سنوات بين السوريين. واقع الأمر الأولويات أو الاهتمامات أصبحت اليوم للهم المعيشي الضاغط على كامل الجغرافية السورية تحت سيطرة الدولة أو خارجها. تفاصيل أخذت تفرض حضورها في المجتمعات المحلية من قرية حتى بلدة ومدينة باعتبارها أساساً تمسّ حياة الناس بكل جوانبها. كانت الصورة معكوسة خلال السنوات الأولى للحرب، لكنها تبدلت بشدة مع مضي الحرب باتجاه طي عامها العاشر. كان الاهتمام بالعنوان العريض المتعلق، مثلاً بالغوطة الشرقية، وحلب ودير الزور والاعتداءات الإسرائيلية، والمجازر وغيرها الكثير طيلة سنين.. لكن الأمر أضحى مختلفاً بشدة اليوم.
ثمّة تبدل بالاهتمامات أكثر سرعة من المتوقع، وإذا كان الأمر لا يلاحظ بوضوح على الإعلام التقليدي، لكنه يبدو شديد السطوع على وسائل التواصل الاجتماعي المكتظ بالشكوى والتبرم، وحتى السخرية من واقع معيشي يمضي فيه السوريون ساعات للحصول على الخبز أو البنزين، ويعانون غياب للكهرباء وضعف القدرة الشرائية، وكلها عناوين يومية للنقاش والشكوى.
يبحث السوريون اليوم في التفاصيل، لكنها تفاصيل حياة تتعلق بمعيشتهم اليومية.. وهي عناوين الضائقة المعيشية الناتجة أساساً عن الحرب التي أتت على كل قطاعات الإنتاج، والحصار الاقتصادي الأميركي والمقاطعة العربية.
لم يعد العنوان الميداني أو السياسي يحمل سطوته الأولى رغم أهميته البالغة، والأمر لا يتعلق بالاعتياد فقط، وإنما لإنشغال الغالبية بتأمين معيشتهم.. وهكذا يصبح احتجاج أهل إحدى قرية شمال السويداء، مثلاً، على غياب المياه والتحرك للضغط على مؤسسة المياه، أو توقف عدد من سائقي الميكروباصات في دمشق عن العمل بسبب شح كميات المازوت، أو انشغال مئات الآلاف من الطلبة والعمال بتوفر النقل، ومثلهم بالحصول على الخبز ضمن طوابير باتت تشكل جزءاً من المشهد اليومي..
كل ذلك يصبح أولوية مطلقة تفوق ما شكّل طيلة عقد موضع اهتمام السوريين بالبحث عن أخبارهم.
للأسف من المرجح استمرار هذه المعاناة فترة زمنية ليست قصيرة استناداً لإستمرار مسبباتها. لا تخفي الحكومة تلك المصاعب وإن أخفقت في معالجة كثير منها. ثمة عوامل موضوعية لا يمكن القفز فوقها، أكثر من 35 بالمئة من مساحة البلاد شرق الفرات وإدلب وريف حلب الشمالي والشرقي خارج السيطرة، وإن اختلفت الحال بين مناطق تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية “قسد” المتحالفة مع واشنطن شرق الفرات، أو تحت سيطرة تركيا والمسلحين المدعومين منها من إدلب حتى عفرين وما بين تل أبيض ورأس العين.
تلك المساحات تضم السهول التقليدية لزراعة القمح وبمعدل إنتاج سنوي يزيد عن مليوني طن تسد حاجة السوريين السنوية للخبز دون الحاجة لاسيتراد كيلو غرام واحد. وفي تلك الجغرافيا أيضاً أكثر من 90 بالمئة من حقول النفط تتخذها واشنطن اليوم ورقة ضغط قاسية على الاقتصاد السوري تلبي الاحيتاجات اليومية لوقود السيارات، أو حتى متطلبات محطات توليد الكهرباء التي باتت تغيب في بعض المناطق أكثر من 18 ساعة يومياً!
بعد عشر سنوات من الحرب تبدّلت الأولويات بحّدة نحو كل ما يتصل بلقمة العيش، وحل المعادلة الصعبة بين مدخول لا يزيد عن 70 ألف ليرة للعاملين في الدولة، وإنفاق يصل الى تسعة أضعاف ذلك المبلغ لعائلة مكونة من خمسة أشخاص.
في خضم ذلك التحدي، يتسع الجدل والنقاش يومياً ويطال الأداء الحكومي ومكافحة الفساد وفرص العمل والغلاء ونهوض الزراعة والصناعة إلخ.. عناوين يصعب إن لم تستحيل معالجتها قبل التوصل إلى حلول في ملفات كبيرة وضاغطة: عودة شرق الفرات وإدلب واللاجئين.. بما يعني الولوج إلى طي صفحة الحرب نهائياً.

سيريا ديلي نيوز- محمد الخضر


التعليقات