لم تظهر بعد أي صيغة متكاملة فعّالة للحكومة السورية لخوض المواجهة مع الأزمة الاقتصادية والمالية، المتفاقمة، في خضم تشديد الحصار الأميركي. في البدائل الاقتصادية، يبدو الأفق شبه مسدود، في حين أن المراد تصعيب طلب «الصمود» من الناس، بما يوحي بأن الحل في السياسة وشروطها، لا الاقتصاد، بعد عشر سنوات من «تضحيات» كل الأطراف، وإلا فإن البديل من عدم الخضوع تحمّل الأسوأ الذي يحمله قانون «قيصر»
 يدخل قانون «قيصر» حيّز التنفيذ في الـ17 من الشهر الجاري، ليكون تتمة الحرب، لكن هذه المرة عبر العقوبات القاسية، التي تهدف إلى «خنق» سوريا. كحالهم الدائم منذ بداية الحرب، انقسم السوريون حول القانون إلى قسمين: الأوّل أغرق في التشاؤم والتهويل، والثاني أغرق في التفاؤل والتخفيف، فيما غاب السيناريو المنطقي الذي يقول الحقيقة على كل قساوتها. في فترة مضت من عام 2010، وصل سعر صرف الليرة السورية إلى 44 دولاراً للألف، والسبب في ذلك كان الفائض في ميزان المدفوعات الذي يشكو اليوم عجزاً شديداً. فليس لدى سوريا اليوم ما يعينها على تخفيض سعر الصرف، إذ لا علاقات تجارية مع دول العالم، ولا سياح لها في دول العالم، ولا سياح للعالم لديها. لا استثمارات في الخارج، ولا استثمارات للخارج في سوريا، ولا صادرات تعوّض القطع الأجنبي، ولا تجارة خارجية.
السوق العراقي الذي كان يشكّل منفذاً للمنتجات السورية، ممنوع عليها اليوم بأمر أميركي. والسوق الأردني الذي توسّمت سوريا منه خيراً، بعد فتح معبر نصيب الحدودي، لا يفي اليوم حاجة سوريا التصديرية، نظراً إلى العراقيل الكثيرة التي وضعت في طريق المصدّرين، بأمر غربي أيضاً. أما الحديث الذي كان يجري عن استثمارات إماراتية متوقّعة في سوريا، فقد صار من الماضي، نظراً إلى العقوبات المفروضة في «قيصر»، والتي لا يتجرّأ الإماراتيون على خرقها. ولبنان، «رئة سوريا ومنفذها التاريخي»، يرزح تحت نير أزمة اقتصادية حادة، وعقوبات غير معلنة، أدّت إلى خنقه هو أيضاً. وقد كان الأمل الوحيد بتجاوز سوريا موضوع التعاملات بالقطع الأجنبي؛ فالحكومة اللبنانية وزّعت أوراق قانون «قيصر» الأميركي على وزرائها، وبحثت في تداعيات تطبيقه قبل الحكومة السورية. والمصارف اللبنانية بدأت بإعطاء إشارات تجاوب مع «قيصر»، لأن عدم التجاوب يعني تعرّضها للإعدام من قبل واشنطن، في ظل وضعها المُهدّد أصلاً. جزء كبير من المواد الأساسية التي كانت سوريا تستوردها (قمح وفيول مثلاً)، كان يتم استيرادها عبر لبنان. ولبنان اليوم لا يملك القدرة على فتح اعتمادات كي يستورد لصالح سوريا، والعقوبات الجديدة لن تسمح له بذلك أصلاً، ما يعني أن سوريا ستشهد ضيقاً في المشتقات النفطية في المقبل من الأيام، أكثر ممّا تشهده حالياً.
كمّية القمح التي كانت تحصل عليها سوريا عبر الشراء من الفلاحين في منطقة الجزيرة (شرقي الفرات)، لم تعد الحكومة قادرة الآن على تحصيلها بسبب منع الإدارة الذاتية تسليم القمح للحكومة السورية، ما يعني أن الحكومة أصبحت بحاجة إلى استيراد مليون طن قمح زيادة، وهي الكمية التي كانت تأتي من الجزيرة، إضافة إلى الـ 2 مليون طن قمح التي كانت تستورده من الخارج قبلاً. هذا يعني مئات الملايين من الدولارات بالنسبة إلى القطع الأجنبي، ومن غير المعلوم إن كانت الدولة السورية تمتلكها، وحتى لو امتلكتها، فهي ستقوم باستيراد القمح بالدولار، لكنها ستقوم بتوزيعه في السوق وأخذ ثمنه بالليرة السورية. وكي تتمكن الحكومة من تجميع ثمن شراء الدفعة الثانية من القمح، سيكون عليها إعادة استبدال الليرة بالدولار، لتدخل بذلك حلقة جديدة من تدهور سعر الصرف.
آبار النفط تحت عين الاحتلال الأميركي، وبحماية من مجموعات «قسد»، ومن المستبعد عودتها إلى يد الدولة في وقت قريب. أمّا التحويلات التي كانت تأتي من الخارج، وتؤمّن ما يتجاوز مليار دولار سنوياً، لم يعد أحد مستعد لتحويلها الآن إلى سوريا في ظل الفرق الكبير بين سعر صرف التحويل وسعر صرف السوق السوداء. فوق ذلك، تبلغ ديون حلفاء سوريا، روسيا وإيران، مليارات الدولارات. وحلفاء سوريا، وإن كانوا يساندونها في مواجهة العقوبات، إلا أنهم يخضعون للعقوبات أيضاً، ويشكون وضعاً اقتصادياً صعباً، كحال الحليف الإيراني خصوصاً. أمّا سوريا، التي دخلت أزمتها في عام 2011 باحتياطي نقدي بلغ 20 مليار دولار، فإن التقديرات توصلنا إلى نتيجة واحدة: ليس لدى دمشق اليوم من الاحتياطي النقدي الكثير، ولو توفّر قليل من هذا الكثير بالحد الأدنى لما كان سعر الصرف قد شهد هذا التدهور غير المسبوق.
لا تمتلك الدولة السورية اليوم أي أدوات مساعدة مما سبق ذكره حتى تتمكن من تغيير سعر الصرف أو ضبطه، وتأمين الاعتمادات بالقطع الأجنبي لتمويل الاستيراد، فهل سيكون بالإمكان تغيير هذه الصورة القاتمة؟ بعد تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي السلطة في مصر، قدّمت لحكومته السعودية والإمارات 22 مليار دولار، بأشكال مختلفة، منها ودائع لدى المصرف المركزي، دعماً للجنيه المصري، الذي كان يعادل في ذلك الوقت 7 جنيهات للدولار الواحد. هل حلفاء سوريا مستعدّون لأن يودعوا مليارات الدولارات في المصرف المركزي السوري دعماً لليرة السورية كما فعل حلفاء مصر السيسي؟ هل هناك من سيقدم لسوريا ودائع بمليارات الدولارات كي تطبع الليرة بناء على توفر غطاء من القطع الأجنبي يحميها من التدهور؟ هل يوجد شركاء تجاريون مستعدون أن يفتحوا الأبواب للبضائع السورية (قبل يومين، أوقفت السعودية دخول الشاحنات المحمّلة بالبضائع السورية إلى السعودية ومنها إلى الإمارات والبحرين والكويت وعمان، في إجراء يستكمل الضربة لما تبقى لسوريا من صادرات) وخاصة أن الشركاء السياسيين لسوريا: روسيا وإيران، لا يستوردون منها إلا المحدود جداً؟
بقي خيار وحيد لحماية الاقتصاد، هو تشجيع الصناعة الوطنية والمنتج السوري وتأمين المواد الأولية. لكن الواقع يقول إن الحكومة السورية لا تملك القدرة على التعامل مع هذا الملف، والمصنع السوري لا يستطيع أن يستورد المواد الأولية، لأن فتح الاعتمادات أصبح صعباً للغاية. أما اللجوء إلى تحسين الإنتاج الزراعي والصناعي السوري، فيحتاج إلى أسواق خارجية للتصريف: من أين ستأتي هذه الأسواق؟ ومن أين سيأتي بالتالي القطع الأجنبي؟ تبدو الحلقة مفرغة!

سناء إبراهيم - الأخبار


 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات