منذ أكثر من ثمانية أشهر يشهد سعر صرف الليرة مساراً انحدارياً، انتهى أمس إلى انخفاض بقيمة الليرة مقابل الدولار بلغت نسبته 62.5% مقارنة بالسعر الرسمي، ما يعني مزيداً من الفقر والبطالة، فيما ينتظر لبنان وصول فريق صندوق النقد الدولي لتقديم مساعدة تقنية تتيح له اتخاذ قرار بشأن الاستمرار في سداد الديون أو التخلّف عنها وإعادة هيكلتها

«لا داعي للهلع الليرة بخير». هي العبارة الأكثر شهرة اليوم على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى طاولات المقاهي وفي الصالونات. تستخدم للتهكّم على حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ورئيس جمعية المصارف سليم صفير، وكل مسؤول آخر ادّعى أو ما زال يدّعي أن الليرة بخير. فلا أحد ينسى كيف أن سلامة اجتمع بالصرافين قبل بضعة أسابيع وفرض عليهم التقيّد بسعر 2000 ليرة لكل دولار. يومها ضرب برجله أرض الطابق السادس في مصرف لبنان. خرج أعضاء نقابة الصرافين من مكتب سلامة يضحكون في سرّهم. في اليوم التالي انشقّت عن السوق الموازية لدى الصرافين، سوق جديدة هي ”السوق السوداء“ فأصبح لدينا ثلاث تسعيرات لليرة: السوق النظامية (بين مصرف لبنان والمصارف)، والسوق الموازية (عند الصرافين) والسوق السوداء حيث كل شخص يمكنه بيع الدولار وشراؤه، سواء كان موظفاً في مصرف أم صاحب محل صرافة أم فرداً عادياً أم صاحب شركة… لعلّ سلامة اعتقد أن السياسات النقدية تدار بضربات الأرجل في الأرض، ولعلّه أيضاً اعتقد أن الناس لا تزال تصدّق ما قاله في مقابلة متلفزة عشية التجديد له في حاكمية مصرف لبنان: «طالما أنا موجود الليرة بخير». هل هي فعلاً بخير؟

في الواقع، هناك الكثير من المواقع التي تنشر يومياً تقلبات سعر صرف الليرة في السوق السوداء، لكن أبرزها وأكثرها دقّة موقع «Lebaneselira.org» الذي يستخرج يومياً وفي أوقات مختلفة أسعار مبيع الدولار وشرائه عند عدد من الصرافين في مختلف المناطق. يعرض هذا الموقع ثلاثة أسعار لليرة مقابل الدولار: في السوق النظامية سعر الدولار ثابت عند 1507.5 ليرات وسطياً، وفي السوق الموازية عند الصرافين يحدّد الموقع سعر الشراء بـ2000 ليرة من دون ذكر سعر المبيع، والسعر الثالث في السوق السوداء حيث السعر يوم أمس بدا كالآتي: عند العاشرة صباحاً كان سعر شراء الدولار 2375 ليرة وكان سعر مبيعه 2450 ليرة، وعند الواحدة والنصف بعد الظهر صار سعر الشراء 2450 ليرة وسعر المبيع 2525 ليرة. عملياً، فإن السعر الوسطي ليوم أمس مبيعاً وشراءً، يبلغ 2450 ليرة مقابل الدولار الواحد، أي أعلى بقيمة 942.5 ليرات مقارنة مع السعر النظامي المحدّد من مصرف لبنان بنحو 1507.5 ليرات وسطياً، أو بنسبة زيادة تبلغ 62.5%.

إذاً، كما يظهر، فإن الليرة ليست بخير أبداً. عملياً، هذه التقلبات في السعر لا تشغل بال المتابعين الذين بات واضحاً لديهم منذ منتصف السنة الماضية أن المسار الانحداري لسعر الليرة سيطر على السوق. ويشير هؤلاء إلى أن الأحداث المترابطة مع سعر الليرة هي السبب المباشر لهذه التقلبات، كالذي حصل منذ يومين بعد إعلان شركة طيران الشرق الأوسط بيع تذاكر السفر بالدولار الأميركي (قبل أن تتراجع في اليوم نفسه)، لكنّ هناك أسباباً بنيوية تدفع في هذا الاتجاه منذ فترة طويلة؛

فمع تقلّص احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية من 35.5 مليار دولار في نهاية 2018 إلى 29.5 مليار دولار في نهاية 2019 وتدخّل مصرف لبنان بائعاً للدولار بقيمة 3 مليارات دولار بين حزيران 2019 وأيلول 2019، وصولاً إلى فقدانه نحو 500 مليون دولار بين أول شباط 2020 والخامس عشر منه، ورغم احتساب 5.7 مليارات دولار من سندات اليوروبوندز التي يحملها مصرف لبنان في محفظته ضمن احتياطيات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، ومع ازدياد التزامات مصرف لبنان بقيمة 800 مليون دولار في هذه الفترة… بدأت تتكشف ظواهر متصلة بسعر الصرف ناجمة عن ضعف قدرة مصرف لبنان في الدفاع عن السعر المدعوم، أي السعر المعلن منه ومعمول به فقط لدى المصارف، من أبرزها نشوء ثلاثة أسواق لسعر الصرف، وفرض المصارف قيوداً وضوابط على حرية سحب الأموال وتحويلها… كل ذلك زاد من هلع أصحاب الحسابات المصرفية ولجأوا إلى تحويل أموالهم من الليرة إلى الدولار، فارتفعت معدلات الدولرة من 69.8% في نهاية 2018 إلى 75% في نهاية 2019.

عملياً، لم يعد هناك استقرار في سعر صرف الليرة. وبات السعر ينخفض ويرتفع ربطاً بأحداث يومية ليس بالضرورة أن تكون مالية واقتصادية، وإن كان تأثير الأحداث المالية أكبر، مثل إعلان شركة طيران الشرق الأوسط المملوكة من مصرف لبنان أنها ستبيع تذاكر السفر بالدولار، ومثل الحديث عن التوقف عن سداد سندات اليوروبوندز أو الاستمرار في دفعها.

الأموال الموجودة لدى مصرف لبنان بالدولار باتت أقل من التزاماته تجاه المصارف بأكثر من 40 مليار دولار

الأمر الأخير، أي التوقف عن الدفع أو الاستمرار فيه، يستحوذ على نقاش واسع بين مؤيد ومعارض. حاكم مصرف لبنان رياض سلامة والمصارف يريدون الاستمرار في الدفع، ولو من حساب المودعين أنفسهم. فالأموال المتوافرة لدى مصرف لبنان بالدولار، أي احتياطياته، هي أقل من التزاماته تجاه المصارف بأكثر من 40 مليار دولار، والمصارف لم يعد بإمكانها الدفع للمودعين بالدولار، وبدأت تخفض سقف السحوبات الممنوحة لهم إلى أدنى الحدود (200 دولار أسبوعياً). تقنياً، هناك حالة إفلاس واسعة بين مصرف لبنان والمصارف من دون أن يضاف إليها حجم القروض المتعثّرة والسعر السوقي لسندات اليوروبوندز التي تحملها المصارف، وباتت قيمتها أقل من قيمة الاستثمار فيها بنحو 9 مليارات دولار.

رغم ذلك، لا يزال النقاش دائراً حول الدفع أو التخلف عنه. وقد طلب لبنان مساعدة تقنية من صندوق النقد الدولي، ووافق هذا الأخير على إرسال رئيس مهمة يعاونه اثنان من أجل تقديم هذه المساعدة. فريق صندوق النقد يصل إلى بيروت مساء الأربعاء، ويبدأ اجتماعاته في لبنان يوم الخميس. يتوقع أن يقدّم الصندوق المساعدة من خلال تحليل استدامة الدين العام الذي يظهر أن هذا الدين بات خارج السيطرة، ما يوجب إعادة هيكلته. ستكون هذه النتيجة التي سيقرّر على أساسها لبنان التوقف عن الدفع أو الاستمرار فيه. الخوف من أن صندوق النقد سيقدم نصيحة للحكومة بزيادة الضرائب، وأن يقترح خفض سعر الليرة بشكل رسمي، ما يعني كارثة اجتماعية واقتصادية.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات