لم تعُد رؤية أصحاب المهن الفكرية وهم يمارسون أعمالاً أخرى بالمشهد المستغرب، فمع ملاحظة المدرّس وهو يعمل سائق تكسي أو في إحدى مهن البناء والإكساء، لم يكن الطبيب بعيداً عن ساحات العمل الأخرى، ولاسيما أن الظروف المعيشة الصعبة فرضت البحث عن تأمين مصدر رزق ثانٍ ولو على حساب المكانة الاجتماعية والصورة المرسومة في الأذهان للطبيب والمرتبة العلمية والاجتماعية له، علماً أن ثقافة العمل ليست عيباً في زمن مواجهة تكاليف الحياة الباهظة، وخصوصاً لأولئك المتمسكين بالمبادئ والقيم السامية للمهنة رغم العروض المغرية التي تأتيهم من هنا وهناك وعقود عمل في الخارج بأجور عالية.

خلل واضح
في هذا المضمار يحمّل خبراء اقتصاديون السياسات الاقتصادية مسؤولية الخلل الواضح في الأجور، مشدّدين على ضرورة وجود نيّات جادة للدراسة الصحيحة الدقيقة ما يحدّ من أعمال لا تتناسب مع التحصيل العلمي والشهادات العليا.
ويرى الخبراء أن ثمة نظرة حياتية مستغربة لهؤلاء الذين ارتضوا بعمل ثانٍ، لتؤكد الطبيبة القلبية “م.أ” أنها لم تجِد خجلاً من العمل في محل للألبسة “البالة”، حيث تتقن مهنة البيع كمهنة الطب تماماً ولا ترى حرجاً من زملائها الأطباء عندما تحدّثهم عن عملها الثاني وتبيعهم الألبسة، معتبرة أن ظروف الحياة وضيق الأحوال المادية دفعتها لعملها الثاني وذلك من أجل تأمين حياة كريمة.

تفاعل مجتمعي
من جهته يعتبر طبيب الأسنان “م.ع” الذي حصل على شهادته الجامعية العام الماضي، أن عمله في “سوبر ماركت” شجّعه كثيراً على الدراسة والتخرّج بمعدّل جيد جيداً، رغم أن أغلب أوقاته يقضيها في المحل، إضافة إلى أن احتكاكه مع الزبائن بشكل يومي لم يحبط معنوياته بل استفاد من تجارب الآخرين وإصرارهم على تحقيق أهدافهم رغم الصعوبات، مشيراً إلى زيادة مبيعات المحل نظراً للإقبال الشديد من المواطنين والتفاعل المجتمعي وخاصة من لديه استشارات طبية علاجية لأنها بالمجان.
ويوضح خبراء أن ظروف الحرب والحصار الاقتصادي الجائر والغلاء الحاصل جعلت تكاليف المعيشة تتجاوز 350 ألف ليرة شهرياً لأسرة مؤلفة من 5 أشخاص، إضافة إلى أجور التعيين القليلة وتباين الرواتب والتعويضات، ما أدّى إلى اتساع الفجوة والتسابق على إيجاد عمل آخر للأغلبية وليس مقتصراً على شريحة الأطباء.

ظروف صعبة
ومع الإجماع على ضعف أجور أطباء الدراسات، دعا نقيب أطباء دمشق السابق الدكتور يوسف أسعد، إلى ضرورة إعادة النظر بالقوانين والقرارات ودراسة كاملة لإنصافهم، معتبراً أن عمل الأطباء في أماكن بعيدة عن اختصاصهم ومهنتهم الفكرية العلمية هو ظاهرة إيجابية تشعر الطبيب بأحوال من حوله ليكون عملاً متمّماً لمهنته الإنسانية “الطب”.
ولفت يوسف إلى حالات موجودة لأطباء “دراسات” يعملون في مطاعم لتأمين احتياجاتهم اليومية، وخاصة أن التعليم المجاني فتح الأفق للجميع بغض النظر عن الوضع المادي للأسرة، ما اضطر بعضهم إلى البحث عن عمل آخر مهما كان وذلك لإتمام دراستهم وتأمين مستقبلهم.
ويتفق مع ذلك نقيب أطباء دمشق الدكتور حسن غباش الذي عزا العمل الثاني للطبيب إلى الظروف المعيشة الصعبة، فالطبيب كباقي أفراد المجتمع بمختلف أعمالهم لديه متطلبات وأعباء وهو الذي عانى من الحرب كغيره وتضرّر من منعكساتها السلبية، لافتاً إلى أن عمل الطبيب في مجال آخر يزيد من تعاطفه مع الآخرين أثناء معاينتهم وعلاجهم لأنه عاش الواقع بكل تفاصيله.

عيادات دون رقابة
في حين يرى متابعون أن الكثير من المواطنين أصبحوا يخشون الذهاب إلى عيادة الطبيب نظراً لارتفاع أجور المعاينة لدرجة لا تحتمل بالنسبة للمواطن العادي، إضافة إلى غياب الرقابة من وزارة الصحة، وعدم وجود عدالة الاقتطاع الضريبي مقارنة مع أرقام أجور المعاينة المرتفعة البعيدة كل البعد عن المهنة الإنسانية للطبيب، ليوضح غباش أن وزارة الصحة وبالتعاون مع النقابة تتابع أي شكوى مقدّمة على طبيب يخالف القوانين والأنظمة ولدوره الإنساني، كاشفاً عن دراسة تعدّها وزارة الصحة والنقابة تتعلق بتصنيف الأطباء حسب محدّدات معينة تضعها الوزارة، وبناء عليه سيتم تحديد المعاينة لكل تصنيف، إضافة إلى تنظيم العيادات في المباني من أجل عدم السماح لفتح عيادات، إلا في أماكن تطابق الشروط النظامية الصحية، مشيراً إلى أنه سيتم التدقيق باللوحات “آرمات” والاختصاص المكتوب عليها لتحديد اختصاص الطبيب الفعلي فقط واستقبال المرضى حسب اختصاصه.

اجتراح الحلول
ويبقى أخيراً أن نؤكد قدسية العمل مهما كان نوعه لأنه يؤدّي خدمة مجتمعية ومهنة شريفة لتأمين لقمة العيش رغم خشية بعض أصحاب المهن الفكرية من خوض غمار الأعمال الأخرى التي ربما لا تتناسب مع نوعية العمل الأساسي، لكن في النهاية لا بدّ من اجتراح حلول حكومية مناسبة وتعديل القوانين والقرارات حسب الحاجة المتطلبة لذلك.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات