ينظر إلى “بسطته” وهي تغرق في مياه تدفقت فجأة ويقول: أصعب شيء هو أن لا تستطيع تأمين الطعام لابنك، وينظر إلى أقرانه في ذلك السوق: كلنا هنا لنعيش يوما بيوم.

مع ارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وانخفاض قيمة الليرة السورية، ازدادت أعداد مرتادي أسواق البضائع المستعملة، باعة ومشترين، وصار المستهلكون الفقراء شرائح لكل منها سوق، فهناك سوق للفقراء، وآخر للأفقر، وبقي السوق هنا في وسط دمشق “يعرف بسوق الحرامية” للأشد فقرا، هو الأرض وبضاعته هي الأسوأ، أو كما يقول أحد الباعة مازحا: “بضاعتنا نخبة نخبة النخبة”.

“على بردى”

في وسط دمشق، وفي السوق الذي تجد فيه كل شيء على قطع نايلون، أو ورق (بسطات) فوق الشارع أو على الرصيف، يمكن أن يكون لفئة الخمسين أو المئة ليرة قيمة، رغم أن السلعة التي يمكن أن تشتريها هي من نوع أردأ الرديء غالبا: أدوات مطبخ شبه محطمة، أحذية وملابس شبه مهترئة، أدوات كهربائية معظمها لا يعمل (يتم شراؤها اعتمادا على الحظ، أو لاستخدام بعض القطع فيها)، أدوات وعدد صناعية صدئة، وحتى ألعاب الأطفال التي يبدو أنها عانت كثيرا في أيدي أطفال رموها، لتصل إلى تلك البسطة وتعود “حلوة” في أعين أطفال آخرين، يشيرون إليها ويطلبونها من أب يبحث عن بنطال أو قميص.

ـ مو حلوة يا بابا .. ومكسورة

أحد الباعة يتحدث عن الأسعار المنخفضة، ويشير إلى بنطاله، ويسأل: “بقديش اشتريته برأيك؟” ينتظر قليلا ويجيب: “500 ليرة! في مكان بالدنيا بتلاقي فيه بنطال بهالسعر؟!”

وهنا تسمع كثيرا عبارة “على بردى” حين تسأل إن كانت السلعة التي تشتريها صالحة للاستخدام، وهي تشبه “ارم بالبحر” للدلالة على أن الأمر يعتمد على حظك.

قطعة الورق المقوى، أو النايلون، هي التي تحدد أن ما تراه هو “سلعة”، فكل ما يوضع فوقها معروض للبيع، فإن خرج قليلا عن مساحة البسطة ربما لن يخطر لأحد أن ما يراه على الأرض يشكل سلعة.

حين تسأل: ما سبب تسمية “سوق الحرامية” غالبا تكون الإجابة ابتسامة تعبر عن عدم الاكتراث بالأمر، يتلفت أحدهم حواليه ويقول: “مو هون الحرامية” ثم يستدرك: يمكن تلاقي هون كلشي، ويمكن في ناس بتجيب بضاعتها مو بالحلال، لكن انظر إلى البضاعة هل توحي أنها مسروقة؟!”.

أثناء حديثه كانت تمر امرأة أشار إليها بالقول: لديها كاميرا قديمة وهي تبحث عمن يشتريها، وقال منذ ساعات جاءني شخص لديه مجموعة سيديات (أقراص مدمجة) ويريد أن يبيعها.

تاجر لديه محل قريب من السوق يقول إن سبب التسمية يعود إلى سبعينات القرن الماضي، حين كانت سلع مسروقة تعرض في السوق، إلا أن ذلك المصدر تراجع كثيرا بحيث لم يعد أساسيا خاصة أن الشرطة صارت موجودة هناك بشكل شبه دائم، أما اليوم فإن مصدر البضاعة الأساسي، كما يقول، فهو أن ثمة من يبيع كل ما يمكنه الاستغناء عنه.

تحت رحمة الطبيعة

عائلات كاملة يشكل الدخل الذي تحققه “بسطة” قد تحقق ربحا يقدر ببضع مئات من الليرات، مصدرا رئيسيا لحد أدنى من المعيشة، وبين الباعة تجد أمهات مع أبنائهن وقد اعتدن على التعامل في ذلك السوق كأي بائع رجل.

صراع يومي لتحقيق ما يؤمن قوت يوم، أو بضعة أيام، وتحت رحمة الطبيعة: الحر صيفا، والمطر والبرد شتاء، دون وسيلة للحماية سوى ما هو أرخص من البضاعة ذاتها، وأحيانا يتم حرق بعض بقايا تلك البضاعة مما لا يمكن بيعه نهائيا ليصبح مصدرا للدفء، أما المطر الذي ينهمر فجأة فلا راد له سوى بإنقاذ ما يمكن إنقاذه عن “البسطة” وإبعاده إلى أقرب سقف.

وثمة مخاطر من نوع آخر، كما حدث منذ أيام حين انفجرت أسطوانة رئيسية للمياه في فرع الإطفاء القريب من السوق، فغرقت البضاعة أمام أعين أصحابها

حالة من اليأس الممزوج بالسخرية على الوجوه، أحدهم قال: “هذه المرة المياه هي التي أخذت البضاعة، أفضل من الجرافات التي جاؤونا بها مرة، طلبوا أن نبتعد عن البسطات، لتبدأ الجرافة بإزالة كل شيء”.

سيريا ديلي نيوز


التعليقات