تابع سعر صرف الليرة السورية، انخفاضه بصورة دراماتيكية، حتى تجاوز حدود الــ (950) ل.س للدولار الأمريكي في نهاية عام 2019 ، وذلك يعود لأسبابٍ كثيرة ومتعددة، تبدأ من استعادة الدولة لمساحات كبيرة من أراضيها، وعودة عدد كبير من السوريين، إلى مناطقهم التي خرجوا منها، وما ترتب على ذلك من استحقاقات مالية، لزوم مختلف عمليات الصيانة والإصلاح والترميم، للبنى التحتية والخدمية في المناطق المحررة، إضافة لاستئناف عددٍ كبيرٍ من المشاريع الاقتصادية لنشاطها الإنتاجي والخدمي، ما أدى لزيادة مستوى الطلب على القطع الأجنبي اللازم لتمويل المستوردات من المواد الأولية، والمستلزمات التقنية والتكنولوجية من الخارج. ولا تنتهي الأسباب في الواقع بالدور الذي لعبه التراجع الكبير في حجم الحوالات الخارجية، ليبدأ دور العوامل والأسباب المتعلقة بالتطورات السياسية والاقتصادية والأمنية الدراماتيكية المتسارعة، التي تعصف بدول الجوار الإقليمي المحيط بسورية، والتي أنتجت بدورها مزيداً من الضغوط والتبعات، التي دفعت بالليرة السورية، للتراجع بمعدلات كبيرة أمام الدولار الأمريكي.

إلا أن حدود المشكلة الاقتصادية والمشكلة المتعلقة بسعر الصرف، لا تقف عند حدود الأسباب المذكورة فقط. فمشكلة سعر الصرف لها أسبابها الأخرى، المتعلقة بضعف السياسة الاقتصادية للدولة، في مجال الإنتاج، وتحفيز النمو الاقتصادي، ومكافحة الهدر والفساد، والسياسات ذات الصلة بالقطع الأجنبي، تحديداً سياسات الاستيراد والتصدير وبدائل النموذج التنموي.

تبيّن إحصاءات التجارة الخارجية السورية، أن حجم المستوردات السورية، شهد تطوراً ملحوظاً طوال السنوات 2013–2017، إذ ارتفعت قيمتها من (944926) مليون ل.س عام 2013إلى (3019922) مليون ل.س نهاية عام 2017، أي أنها تزايدت بمعدل نمو بلغ (219.5%). في الوقت الذي ارتفعت فيه قيمة الصادرات السورية من (174933) مليون ل. س عام 2013 إلى (351018) مليون ل. س عام 2017، أي أنها ازدادت بمعدل نمو بلغ (100%) فقط. ما يعني تراجع معدل تغطية الصادرات للمستوردات من (18.5%) عام 2013 إلى (11.6%) عام 2017، أي بمقدار (7%). ما تسبب في ارتفاع حجم العجز في الميزان التجاري السوري من (769993) مليون ل.س عام 2013، إلى (2668904) عام 2017، أي أنه تضاعف بمقدار (3.4) مرة، وبمعدل نمو بلغ (246.6%).

يتبين لنا مما تقدم بوضوح، أن حجم الاستيراد، قد ارتفع بمعدلات كبيرة، في الوقت الذي بقيت فيه معدلات التطور في حجم الإنتاج ومستويات النمو الاقتصادي سالبة، طوال السنوات (2013 - 2019). ما أنتج ظروفاً اقتصادية صعبة، تسببت بقوة في الضغط على  سعر الصرف الليرة السورية، ودفعته للتراجع أمام الدولار واليورو، بصورة دراماتيكية، حتى تجاوز حدود (950) ل.س للدولار الأمريكي الواحد.

وتبقى التساؤلات مطروحة: ألا يمكن إعادة النظر بقائمة المستوردات وأولوياتها، تحديداً مستوردات المواد الغذائية والمشروبات، التي بلغت قيمتها حوالي (448869) مليون ل.س في عام 2017، أي ما يعادل (15%) من إجمالي قيمة المستوردات الكلية لبلدٍ، يمتلك كثيراً من العناصر الأساسية للتنمية الزراعية، وشروط تحقيق الاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية؟ لماذا لم نضع حتى اللحظة بدائل حقيقية، لتقليل اعتماد القطاع الزراعي، على استيراد مستلزمات إنتاج استراتيجية (حيوانية ونباتية) بنسب عالية، ومعدلات مرتفعة من الخارج، ونحن نتعرض لعقوبات تتزايد وتائر شدتها يوماً بعد يوم؟ ما هي ملامح الخطة الاستراتيجية، المُعتمدة لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء وتحقيق الأمن الغذائي، بالاعتماد على مواد ومستلزمات انتاج محلية؟ لماذا تعتمد السلع والمواد الأساسية في سلة سلع الأمن الغذائي السورية، على مستلزمات انتاج أساسية مُستوردة من الخارج؟ ألا يعني ذلك انكشافنا غذائياً ونحن في حالة خطر الآن، وربما القادم أعظم؟ لماذا لم نطور البدائل المحلية طوال السنوات السابقة؟ لماذا استسلمنا للاستيراد؟ لماذا وقفنا في سورية عاجزين عن تحريك عجلة الإنتاج، ولم نتبنَّ سياسات اقتصادية شجاعة لتحفيز النمو، ما أبقى الاقتصاد السوري في حالة ركود ومعدلات نمو اقتصادي سالبة؟ لماذا بقينا مصرين على المُضي بسياسة انتحار اقتصادي بطيء، تتمثل بالاعتماد على مصادر التمويل بالعجز (الاستثنائية)، لتمويل الإنفاق الجاري، وليس الاستثماري في الدولة، مع الأخذ بالحسبان، أننا تجاوزنا في سوريا، كل الخطوط الاقتصادية الحمراء؟ لماذا سياسات تحفيز الإنتاج والنمو الاقتصادي، معطلة أو ضعيفة، أو غير فاعلة بافتراض أنها موجودة وقائمة؟ لماذا مؤسساتنا الإنتاجية والخدمية مستمرة في الخسارة، وما هي الأسباب؟ ما هو واقع الإيرادات الطبيعية للدولة، لا سيما الإيرادات الضريبية؟ لماذا نحن مصرون في الاستمرار بمنهج عمل، ينتج شروط الحاجة الدائمة للتمويل، عن طريق تمويل العجز بالإصدار النقدي، ومصادر التمويل الاستثنائية الأخرى؟ هل يمكن الاستمرار بهذا النهج الاقتصادي؟ وإلى متى؟ أين يكمن الخطأ؟ ماذا بعد؟ تساؤلات استراتيجية مهمة، برسم الإجابة والتوضيح، في بلدٍ يناشد شعبه صناع القرار الاقتصادي فيه، لتخليصه من محنته الاقتصادية الكبرى، التي يرزح تحتها منذ أكثر من تسع سنوات.

سيريا ديلي نيوز- د. مدين علي


التعليقات