خرجت لوحة التحكّم بالسوق والأسعار من يد الدولة رسمياً، منذ الدخول في متاهات “اقتصاد السوق الاجتماعي”..فالحدث حينها كان صاخباً تلاشى صداه بإعلان ” نعية” وزارة التموين التي تحوّلت صلاحياتها كتركة غير مرغوب فيها لوزارة الاقتصاد والتجارة حينها..

كان أول وزير يتولى “الحقيبة الهجينة” بين الاقتصاد والتموين هو الدكتور غسّان الرفاعي، القادم بحماس اقتصادي بحت من حنايا البنك الدولي..وهو الذي بدا صريحاً من البداية عندما باغتني بجواب على سؤال وجهته له في سياق حوار صحفي لصحيفة البعث..”لست مستعداً للعمل كمراقب تموين”.

الجواب كان بدهي حينها من شخص يدّعي الليبرالية، بدا حريصاً على التميّز بها كعلامة فارقة له، وسط أجواء سباق متسارع في الأروقة التنفيذية للخروج من عباءة الاشتراكية ونفضها بعيداً كخيار بات للتو تهمة بقرار صدر و “أفهم علناً” تبنّاه المؤتمر القطري العاشر لحزب البعث…في التقاء نادراً ما يحصل في وجهات النظر بين “البعث” كإيديولوجيا، و أدبيّات رأس المال كتطبيق.

دارت الدوائر وتتالت المحاولات والمتغيرات الحادة..لتعود وزارة التموين القديمة تحت اسم طنّان هو ” وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك”..وبحقيبة تأبطها قدري جميل إضافة لمهمته كنائب اقتصادي..خلفاً لعبد الله الدردري في منصب النائب ..أي من أقصى التطرف الليبرالي إلى أقصاه في الجانب المناهض..الشيوعيون في مقدمة الإدارة التنفيذية للاقتصاد السوري .

عادت وزارة “التموين” لكنها مشوّهة مقلّمة الأظافر حسبها أن تنهض بكيانها لتبرر وجودها كوزارة ..فهي لم تدافع عن نفسها عندما اكتشف أمر عجز أدواتها وصلاحياتها عن ضبط الأسواق…وما زالت تكابر حتى هذا اليوم.

على كل حال تلك كانت إملاءات الأوراق المختلطة في زمن التحوّل، وهي إرهاصات طبيعيّة لم تكد تصل إلى الشارع كثقافة للتماهي معها، حتى أرخت الحرب بأوزارها الثقيلة، فكان التحول في الطريق الراجع..”أي تحوّل على تحوّل” وهنا كانت المهمة الصعبة فعلاً…مهمّة فيها ما فيها من التعقيد، صمتت الحالة المطلبية تجاهها خلال السنوات الثماني المنصرمة، تحت ضغط الحدث السوري والحرب و أزيز الرصاص..لنصل إلى أيامنا هذه، أو للعام 2018 “عام التحرير” ولتقدم نزعة الاسترخاء نفسها بنزق على خلفية الشعور بالانتصار..فكانت الحكومة الراهنة أمام استحقاق استيعاب ” اليقظة المطلبيّة” و تلبية نداء البطون هذه المرّة..فقد جاع من جاع على مر سنوات كانت من أصعب سني تاريخ سورية الحديث..واتجهت أنظار الجميع إلى مقصورة الإدارة التنفيذيّة، و “الفوكس” المفترض هو وزارة التجارة الداخليّة وحماية المستهلك.


ستّ وزراء تداولوا حقيبة “حماية المستهلك” منذ بداية الحرب على سورية إلى يومنا هذا ..صالوا وجالوا تسويفاً عبر وسائل الإعلام، ومن وعود ضبط السوق إلى تعديل القانون 14 وهو القانون الناظم لعمل الوزارة في الشطر المتعلّق بحماية المستهلك، لكن لنعترف بأن لا تغيراً جوهرياً حصل في أداء الوزارة كمظلة واقية للمواطن..إلا في السنتين الأخيرتين، وما حصل كان بمحاولات جرت في رئاسة الوزراء وليس في ” مبنى ابن النفيس”.. وهذه حقيقة يعرفها كل من اطلع على الحقائق كما هي، لا كما

ربما يكون قد آن الأوان كي تعيد وزارة التجارة الداخلية، هيكلة الأسعار من خلال إلغاء التحرير، والعمل بسياسة تجميد الأسعار، بهدف التغلب على معدلات التضخم المرتفعة، عبر وضع السعر بقرار “نظام التموين” ليتقرر بعد نجاح هذه السياسة اتباع سياسة السعر الثابت، حيث تنمو الأسعار بالتوازي مع نمو معدلات الدخل لردم الفجوة بين الأسعار والدخل، وهذا ما يجب أن تفكر به ” وزارة المستهلك” كإستراتيجية، والأدوات متوفرة بأيديها، والدّعم الحكومي أيضاً ” متوفّر” لتطبيق تلك السياسة إذا ما أرادت الوزارة ذلك..

يبدو أن ثمة إعادة ترتيب لأوراق حقيبة “التجارة الداخليّة” اليوم..علينا أن نتفاءل بنتائجها، قد يكون في مقدمتها الإعلان عن تعديل القانون 14 وفقاً لما تسرّب من أروقة الوزارة..وعلى ضوء نصوص القانون المنتظر، سيُكتب صك الحياة لوزارة يجري إنعاشها منذ العام 2011 وحتى الآن، أو ستبقى في سبات أبدي عميق.

الخبير السوري

 

 

سيريا ديلي نيوز


التعليقات